زيارة الرئيس السوري الموقت أحمد الشرع للبيت الأبيض حفلت بالدلالات، وقد يكون أهمها أنه لن يبقى طويلاً حاملاً صفة «الرئيس الموقت»، لأن البرامج والالتزامات التي عاد بها إلى دمشق تحتاج إلى وجوده شخصياً وتتطلب سنوات لتحقيق نتائج مستقرة فيها، كما أن «الثقة» تُبنى معه بالوتيرة الأمريكية، ولا تزال في بدايتها. وحين قال دونالد ترمب إن الشرع «قائد قوي» وأضاف: «سنبذل قصارى جهدنا لإنجاح سوريا»، فلا ترجمة لذلك سوى أن مسار مصالح مع سوريا ارتسم أمامه. ومع أن «رفع العقوبات» لم يشهد القفزة التي أمل بها الجانب السوري، لأن «قانون قيصر» عالق في بازارات أعضاء الكونغرس وابتزازات إسرائيل عبر «اللوبي اليهودي»، إلا أن عقدة هذا الملف مرشحة للحل على رغم المماطلة، ثم إن التعليق الممدد للعقوبات من شأنه أن يرفع العقبات أمام انطلاق عديد من المشاريع والاستثمارات، خصوصاً في القطاعات الحيوية. واستناداً إلى التجارب المعروفة فإن رفع العقوبات غالباً ما يكون بطيئاً ومعقداً، على عكس السرعة في فرضها. كان من الطبيعي أن يستقطب لقاء ترمب- الشرع التركيز الإعلامي، لكن الاجتماع الثلاثي على هامشه، بين وزراء الخارجية والتركي والسوري، شكل النتائج الأبرز للزيارة. لم يكتفِ الوزراء بتأكيد «وحدة سوريا» ورفض مشاريع تقسيمها، بل وافقوا على الإجراءات التي اتفق عليها بين دمشق و«قوات سوريا الديمقراطية» (قسد) للبدء بدمج المؤسسات المدنية والعسكرية التابعة لهذه «القوات» في مؤسسات الدولة السورية، مع ما يرافقها من التزامات مشتركة بمحاربة تنظيم «داعش» و«فلول نظام الأسد». صحيح أن القوات الكردية ستنضم إلى الجيش السوري ك«كتلة مستقلة» وسيكون هناك تقاسم للموارد النفطية ولإدارة المعابر ومطار القامشلي والمؤسسات كافة في منطقة سيطرة «قسد»، مع اعتراف ب«المكون الكردي»، إلا أن هذه الإجراءات تتم بتفاهم أمريكي- تركي وتعطل اللغم الموقوت في شمال شرقي سوريا. أي إنها تضمن من جهة ألا يكون الكرد «قاطرة التقسيم»، وتؤشر من جهة أخرى إلى أن النظام المستقبلي سيتجه لدى كتابة الدستور الجديد نحو نمط من «اللامركزية» في اطار الدولة الواحدة. كان هذا الاجتماع الثلاثي فرصة للاعتراف الأمريكي بدور تركيا ومصالحها الأمنية والاستراتيجية في شمال سوريا، وعدا أن ذلك يدعم استبعاد أي تقسيم أو حتى تجديد البحث في «تحالف الأقليات»، نظراً إلى مواقف أنقرة المعلنة والمتكررة في هذا الشأن، فإن اندماج «قسد» في الدولة يعطي إشارة أولى من نوعها إلى أن الرعاة الدوليين يريدون للنظام السوري الجديد أن يكتسب في الداخل شيئاً من الانفتاح والمرونة. ولا شك أن هذه الخطوة تطلق رسالة قوية إلى السويداء حيث هناك جناح درزي راغب في «الانفصال»، وإلى الساحل حيث يبحث «الفلول» العلويون عن دول راغبة في الاستثمار في تمردهم على دمشق. وهذه الرسالة مفادها أن التقسيم لا يحظى- حتى الآن- بمباركة أمريكية، ولا أوروبية، ولا عربية طبعاً، لكن إسرائيل لم تسقطه من حساباتها، وربما يخامر بعض الرؤوس في إيران المربكة بأزماتها مع الداخل والخارج معاً. الأكيد أن إسرائيل لم تتلق بارتياح اعتماد ترمب وإدارته على تركيا، بمعزل عنها، ولا أجواء لقاءات الشرع ووفده سواء في البيت الأبيض والكونجرس أو مع الاعلام ورجال الأعمال. إذ لم ينتهز ترمب المناسبة للتركيز على «الاتفاقات الابراهيمية»، وحتى «الاتفاق الأمني» الذي تدعمه واشنطن بين سوريا وإسرائيل لم يكن محوراً رئيسياً في المحادثات. فالجانب الأمريكي الذي وافق على صيغة الاتفاق وواكب اجتماعات الطرفين يبدو أقرب إلى الاقتناع بأن شروط إسرائيل أخرت إبرامه. هل يعني ذلك أن إدارة ترمب تعارض كلياً أي نفوذ إسرائيلي في سوريا؟ هذا غير واضح في الظروف الحالية. لكن إسرائيل ردت على زيارة الشرع بتوغلات إضافية في جنوبسوريا، كما باستئناف تسخين جبهة السويداء. في أي حال، أشار المبعوث توم براك إلى «إعادة تعريف» للعلاقات التركية- السورية- الإسرائيلية، وهو اختصر إطلالة الرئيس السوري من واشنطن بأن دمشق «ستساعدنا بشكل فاعل في مواجهة وتفكيك بقايا داعش والحرس الثوري وحماس وحزب الله وغيرها من شبكات الإرهاب» ما يشمل أيضاً بعض جماعات المقاتلين الأجانب التي لم تعطِ واشنطن ضوءاً أخضر لدمجها في الجيش والأمن السوريين. أي إن الشرع عاد محملاً بدعم أمريكي اعتباري مهم لكن بأعباء كثيرة هي في جانب منها اختبار وتوريط لسلطته، وستوفر للولايات المتحدة من جانب آخر فرصة لإقامة قواعد عسكرية تفعيلاً لانضمام سوريا إلى «التحالف الدولي لمحاربة تنظيم داعش». وإذا كان ما يتعلق ب «داعش» واضحاً للمعنيين بسوريا ما بعد الأسد، فإن مواجهة «بقايا الحرس الثوري الإيراني وحزب الله» طرحت علامات استفهام كثيرة حول طبيعتها وهل تقتصر على الساحة السورية أم تتجاوزها؟ * ينشر بالتزامن مع موقع «النهار العربي»