اختيار سلمان: هكذا أطلق صقره ليحلق بالوطن    تأهيل 31 شركة للمنافسة على الرخص التعدينية    توثيق 1810 عقارات يوميا    7.9% نموا بالأجور الدنيا    المبعوث الأميركي: المطلوب قرار من حكومة لبنان لحصر السلاح    تركي آل الشيخ يكشف عن جزء من أبرز مفاجآت فعاليات موسم الرياض المقبل    دوران يسجل في فوز فنربخشة برباعية على الاتحاد وديًا    أواصر راسخة    المملكة توزّع (420) سلة غذائية للنازحين من محافظة السويداء إلى محافظة درعا    «سلمان للإغاثة» يوزّع (840) حقيبة إيوائية في منطقتين بإقليم جامو وكشمير في باكستان    القيادة تعزي رئيس بنغلاديش    السد القطري يضم البرازيلي"فيرمينو"من الأهلي    "الشعفي" يُرزق بمولودته الأولى "سما"    إطلاق النسخة الثانية من مبادرة «تفعيل مجتمع الأفلام المحلي»    السياحة الريفية    «سوار الأمان».. حلول ذكية في المسجد الحرام    ترمب يتعهد بخفض الرسوم عن الدول التي تفتح أسواقها أمام منتجات بلاده    بكين تحتج على عقوبات أوروبية تستهدف موسكو    عسير.. حين يتحوّل الفن إلى تراث حي    الذكاء الاصطناعي في صيف 2025    القبض على إثيوبي في عسير لتهريبه (66) كجم "حشيش"    جمعية "واثق" بتبوك تحتفي بتخريج الدفعة العاشرة من برنامج "منزل منتصف الطريق"    مندوب فلسطين بالأمم المتحدة: إسرائيل دمرت قطاع غزة بالكامل    المملكة تدعم تعافي الاقتصاد السوري بمنتدى يستكشف الفرص الاستثمارية    هيئة مدينة مكة تُطلق أعمال المسح الاجتماعي الاقتصادي    420 موهوبًا وموهوبة يختتمون الرحلة الإثرائية بجازان    تتحدث عن شرح حديث " إنما الأعمال بالنيات " محاضرة تنفذها إسلامية جازان غداً بالمسارحة والحُرّث    أمير جازان ونائبه يتفقدان مشروعات فيفاء    155 ألف مستفيد من خدمات مستشفى ينبع    طاقم تحكيم سعودي يشارك في إدارة مباريات كأس العالم تحت 20 عاماً في تشيلي 2025    وجاؤوا يركضون مهلا يا دعاة الضلالة    الثلاثي يلتحق بالنواخذة    أمير جازان يستقبل مدير فرع وزارة الرياضة ويطّلع على إنجازات أندية المنطقة    ( لا يوجد عنوان )    مجسات ذكية لراحة مرضى السكري دون ألم    أسباب وعواقب إدمان الحلويات    لماذا غسل الدجاج غير مستحب    11 معياراً أساسياً لقياس الأداء.. الطيران المدني: مطار الملك خالد الدولي الأول في نسبة الالتزام ب 82 %    1.2 تريليون ريال صفقات عقارية بنظام الوساطة    وزير الداخلية يلتقي منسوبي الوزارة المبتعثين في بريطانيا    منسوبات واعي يطلعن على مركز التراث وبيت الحرفيين بجازان    منع الفنان راغب علامة من الغناء في مصر    عزز صفوفه بالخيبري.. الأهلي يشارك في السوبر بديلاً للهلال    "البيئة": تمديد مهلة رخص مياه الآبار لمدة عام    سبعة آلاف طفلٍ في مركز ضيافة المسجد النبوي    حكمي.. قصة تحدٍ ملهمة في عالم التوحد وحفظ القرآن    مفوض إفتاء جازان يستقبل منسوبي إدارة جمعية سقيا الماء    أكد دعم سوريا لضمان أمنها واستقرارها.. مجلس الوزراء: السعودية تدعو لاتخاذ قرارات عملية أمام التعنت الإسرائيلي    تستعد لعقد محادثات مع «الترويكا الأوروبية».. إيران تشترط رفع العقوبات للتفاوض النووي    أكد وجود انتهاكات جسيمة.. لجنة تقصي الحقائق تسلم تقريرها للرئيس السوري    رئيس الوزراء يدعو لتعزيز التواجد في عدن.. تحذير يمني من وجود المقرات الأممية بمناطق الحوثي    "هلال مكة" يفعل مساراته الطبية الإسعافية القلبية والدماغية    أمير جازان ونائبه يتفقدان عددًا من المشروعات التنموية والسياحية بمحافظة فيفاء    الجامعة العربية تدعو المجتمع الدولي لكسر حصار غزة    الأمير محمد بن عبدالعزيز يستقبل رئيس ووكلاء جامعة جازان    السعودية ترحب بمطالبة دولية لإنهاء حرب غزة    تقنية تحسن عمى الألوان    رئيس باكستان يمنح رئيس أركان القوات البحرية وسام "نيشان الامتياز" العسكري    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد:
برعاية الأمير بندر بن عبدالعزيز
نشر في الجزيرة يوم 28 - 08 - 2006


* بقلم:د. عبدالله - بن عبدالمحسن التركي :
فقد يسر الله سبحانه وتعالى بتوفيقه إصداراً جديداً لتفسير أبي عبدالله محمد بن أحمد الأنصاري القرطبي، نزيل مصر، والمتوفى بها سنة 671ه،في طبعة محققة.
ولا يخفى ما كتب لها الكتاب من القبول لدى المشتغلين بالعلم، فقد كثر نفعه، ووسع انتشاره عامة المكتبات الإسلامية الخاصة، فضلاً عن العامة، ولا يكاد يستغني عنه طالب متدرج، ولا باحث محقق، ولا عالم متوثق.
وقبل الكلام عن مزايا هذه الطبعة من المناسب التعريف بهذا الديوان العظيم على سبيل الوجازة.
وعنوان الكتاب يعطي شيئاً من الدلالة على مضمونه، فهو - كما سماه مصنفه رحمه الله - (الجامع لأحكام القرآن والمبين لما تضمنه من السنّة وآي الفرقان).
فهو بذا كتاب جمع الأحكام الشرعية المستفادة من نصوص كتاب الله تعالى، غير أن المصنف لم يقتصر فيه على استنباط الأحكام الفقهية الخاصة ببيان الحلال والحرام في الأعيان والأفعال، والصحيح والفاسد في العبادات والمعاملات، بل تجاوز ذلك إلى أوسع مما تضمنته كلمة (الأحكام) من معنى، فأورد فيه عن كل مسألة لها صلة بدين الله تعالى، كمسائل أصول الدين ومتعلقات الإيمان، والآداب الشرعية، والأخلاق والفضائل، وأصول الفقه، ونحو ذلك من الأبواب التي يكشف عنها الفهرس الخاص بموضوعات الكتاب.
وليس كتاب القرطبي كغيره من الكتب التي صنفت تحت عنوان (أحكام القرآن)، في تناول آيات الأحكام دون غيرها، فقد استوعب الجامع لأحكام القرآن جميع آي الكتاب العزيز، فهو تفسير شامل كامل غير أن منصفه خص أحكام القرآن بالتفصيل، فبنى كتابه عليها.
وقدم القرطبي لتفسيره بمقدمة ضافية، بسط فيها الكلام على فضائل القرآن الكريم، والترغيب فيه، وفضل متعلمه وقارئه ومستمعه، والعامل به، وآداب تلاوته وحملته، وما ينبغي لهم من تعظيمه وحرمته، وغير ذلك من العلوم والآداب التي تتعلق بحفظ كتاب الله في الصدور، وكتابته في المصاحف، مما لا غنى لطالب العلم عنه.
ثم شرع في التفسر بادئاً بالاستعاذة، فالبسلمة، فالفاتحة..
وطريقته رحمه الله في التفسير: أن يذكر الجملة من نظم الكتاب العزيز التي يريد الكلام عليها؛ فيجمعها كالترجمة الموضوعية. وقد تضم تلك الجملة آية واحدة أو أكثر حسب ما يقتضيه المعنى من الاتصال والانفصال. ثم يرسم المباحث التي اشتمل عليها ذلك النص في عدد من المسائل يسميها، قد تقل وقد تكثر، فتبلغ أحياناً أكثر من ثلاثين مسألة، وبعضها جاوز الأربعين كما في آية اليمين: {لاَ يُؤَاخِذُكُمُ اللّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ}(89) سورة المائدة، فقد رسم فيها سبعاً وأربعين مسألة، وآية الدين: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَاكْتُبُوهُ} (282)سورة البقرة، فقد رسم فيها ثنتين وخمسين مسألة.
ثم يبدأ فيبين ما في السورة أو الآية من فضل، بعد ذلك يذكر أسباب النزول، ثم يبين ما في الألفاظ من وجوه القراءات والإعراب والمعاني اللغوية، معتمداً في ذلك على ما صنفه أئمة اللغة في معاني القرآن وغريبه، كأبي إسحاق الزجاج، وأبي جعفر النحاس، وأبي بكر ابن الأنباري، وأبي الحسن الأخفش، وأبي عبيدة معمر بن المثنى، والكسائي، والقراء، وغيرهم.
بعد ذلك يأتي على معنى الآية وما فيها من التأويل لأهل العلم بالتفسير من الصحابة والتابعين، ويعتمد في نقل أقوالهم على الأئمة المصنفين في التفسير بالمأثور، وفي مقدمتهم أبو جعفر بن محمد بن جرير الطبري. واستكثر من النقل عن أبي محمد عبدالحق بن أبي بكر الشهير بابن عطية، الغرناطي (ت 546ه) في تفسيره المسمى: (المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز) الذي يعد في جملة التفاسير بالمأثور.
ويجعل التفسير بالمأثور أساساً ومفتاحاً للتفسسير بالرأي. حتى إذا تبين معنى الآية الكريمة في ألفاظها وتراكيبها، مضى في بحث ما يتعلق بها من أحكام شرعية، فيذكر رأس المسألة، ثم يورد ما فيها من أقوال أهل العلم إجماعاً وخلافاً.
فإذا كانت موضع إجماع اكتفى بالنص عليه من غير أن يحكيه عن أحد من ناقلي الإجماع في الكثير من الأحايين، وإذا حكاه عن غيره فغالباً ما يكون ذلك الغير أبا بكر ابن المنذر أو أبا عمر ابن عبد البر.
أما إذا كانت المسألة موضع خلاف، فإنه يذكر المذاهب فيها، وأحياناً يقرن القول بما احتج به قائله من الأئمة، ولكنه لا يكتفي بحكاية الخلاف من دون أن يبين ما هو الصحيح من القول لديه، ولو خالف مذهبه (المالكي)؛ لما يراه من الدليل الأقوى، من غير أن يغمز أحداً من الأئمة بما يغض من قدره أو يبشع قوله، فيعطي بأدبه هذا أنموذجاً للجمع بين رد الأقوال والأدلة الضعيفة والشاذة عن سنن الصواب، وبين حفظ قدر أهل العلم وما يجب لهم من الاحترام، شأن ابن عبد البر، وابن قدامة المقدسي، وغيرهم من العلماء الكبار.
والقرطبي لا يتقيد في تخريج الأحكام التي بثها في كتابه، بما دلت عليه ألفاظ الكتاب العزيز، بل يتوسع فيستوفي أحياناً رؤوس مسائل الباب الذي يرد ذكر اسمه في الآية، أول مرة بحسب ترتيب المصحف، ثم يحيل عليه بعد ذلك حيثما تكرر، كألفاظ: الصلاة والصيام والحج، واليمين والنذر والصيد والذكاة، والبيع والربا والمداينة والرهن والكفالة والوصية والهبة والوقف.
فعلى سبيل المثال: أول ما ورد لفظ (الصلاة) في ترتيب المصحف، في قوله تعالى: {وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ وَارْكَعُواْ مَعَ الرَّاكِعِينَ}(4)سورة البقرة، رسم في هذه الآية ثلاثاً وأربعين مسألة في بيان الكثير من أحكام الصلاة، وأول ما ورد لفظ (السكنى) في قوله تعالى: {وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّة(35) سورة البقرة، رسم في ذلك ثلاث عشرة مسألة، تكلم فيها عن أحكام السكنى والعمرى والرقبى.
وحيثما يكن الحكم مستنبطاً من اللفظ، وهو الموضوع الحقيقي لأحكام القرآن الكريم، فإن القرطبي ينقل أولاً ما ذكره من تقدمه من المصنفين في هذا المجال، كالقاضي إسماعيل بن إسحاق الجهضمي: وأبي عبدالله بن محمد بن خويز مشداد، وقاسم بن أصبغ، ومنذر بن سعيد البلوطي من المالكيين، وإلكيا الهراسي الطبري الشافعي، وأبي بكر الرازي الجصاص الحنفي، وأبي ثور، وأبي جعفر الطحاوي، وغيرهم. وكاد يستوعب أحكام القرآن للقاضي أبي بكر ابن العربي المعاقري الإشبيلي (ت 543ه).
والحق أن الجامع لأحكام القرآن من أعز ما زخرت به مكتبة التفسير، بما اشتمل عليه من تفصيل أحكام القرآن، وبيان ما في ألفاظه من وجوه القراءات والإعراب، وبسط المعاني مقرونة بشواهدها من أشعار العرب، بله ما تمم به المباحث التي يطرقها، من النكت اللغوية واللطائف النحوية والصرفية، والأرجح لمذهب أهل السنّة والذب عن مهيعهم، والرد على الملاحدة وأهل البدع والأهواء.
كل ذلك مع ما ألان الله له من حسن التصنيف، وجودة الصناعة في البيان والتأليف.
فجاء هذا التفسير بهذه الصورة الجميلة المشتملة على علوم شتى غزيرة، وفنون عدة وفيرة، دليلاً على الشأو البعيد الذي بلغه صاحبه في التبحر وسعة الاطلاع، على حد ما وصفه به الذهبي إذ قال: إمام متفنن متبحر في العلم، له تصانيف مفيدة، تدل على كثرة اطلاعه ووفور فضله.
ميزات هذه الطبعة
إن مما يقتضيه حق الاعتراف بفضل السابق على اللاحق، أن أشير إلى أن تفسير القرطبي طبع اول مرة عام 1933م، ثم أعيد طبعه مرتين، وأشرفت دار الكتب المصرية على نشره في طبعاته الثلاث، فإليها يعود الفضل في ذلك.
وقد بذل المحققون فيها جهداً واضحاً في تقديم الكتاب بالشكل اللائق به من حسن الترتيب والعرض، مع ترقيم وتفصيل يعين القارئ على فهم المعنى، فجزاهم الله خيراً.
وسوف يجد القارئ الكريم في هذه الطبعة الجديدة، فوائد وزوائد تزيد في خدمة الكتاب وتيسيره لطلاب العلم إن شاء الله، بالمقارنة مع الطبعة المصرية في صورتها الثالثة التي تم الاعتماد عليها في تصحيح الكتاب على ست نسخ خطية أخرى.
فأثبتت في الهوامش أهم الفروق بين عبارات النسخ، مع ضبط النص وترقيمه وتفصيله؛ وتخريج ما جاء فيه من الأحاديث والآثار؛ بعزوها إلى مصادرها التي ذكرها المصنف، وحيث كان الخبر مروياً في الصحيحين، وعزاه المصنف لأحدهما، ذكر معه الآخر. وحيث أورد الخبر عارياً عن العزو لمن أخرجه من الأئمة، وكان في الصحيحين أو في أحدهما، اكتفى بالإحالة عليه في موضعه، حيث كان ذلك غاية المطلوب. فإن لم يكن في واحد منهما، خرج بعزوه لأهم مصادره. وحيث كان الخبر من مرويات مسند أحمد، أحيل على موضعه منه بحسب ترقيم طبعة مؤسسة الرسالة؛ وذلك لإحالة من يريد الاستزادة على ما علق في تخريجه والكلام عليه هناك، فإن فيه غاية وكفاية إن شاء الله.
ويجد القارئ الكريم في بعض المواضع، تعاليق مختصرة بما تدعو إليه الحاجة، بعد تمام تخريج الخبر، من شرح غريب، أو بيان علة، أو غير ذلك.
وخرج ما جاء فيه من الشواهد الشعرية، من دواوين أصحابها. وحيث كان البيت من الشواهد العربية النحوية والصرفية وغير ذلك، أكملت الفائدة بإحالة القارئ على أهم مصادر العربية التي أوردته.
وأما الأعلام الواردة في الكتاب، فقد تمت ترجمتها بإيجاز في أول موضع ترد فيه. وحيث كان العلم مترجماً في (سير أعلام النبلاء) أحيل عليه في موضعه بحسب ترقيم طبعة مؤسسة الرسالة؛ لإفادة من يريد الاستزادة بإحالته على بقية مصادر الترجمة المذكورة في حواشيه.
ولإتمام الفائدة تمت فهرسة الأعلام المترجمة في آخر الكتاب.
وأما النقول التي أوردها المصنف من أحكام فقهية ولغة وقراءات وغيرها، فقد تم توثيقها من المصادر التي استقى منها تفسيره، على قدر ما أمكن وتوفر منها.
واشتملت الفهارس الفنية في المجلدين الأخيرين (23-24) على أطراف الأحاديث القولية والفعلية، والآثار، والأشعار والأرجاز، والأعلام المترجم لهم، والموضوعات، وأخيراً فهرس اللغة (الألفاظ الغريبة).
ولا يخفى على طلاب العلم، ومثقفي الأمة الإسلامية ضرورة الاعتماد في التزود بالمعرفة الإسلامية وعلوم الإسلام على ما خلفه لهم سلفهم الصالح، وبخاصة ما يتصل بكتاب الله الكريم وسنّة نبيه المصطفى الأمين، من حيث الحفظ والاستنباط والخدمة.
وباعتبار أن القرآن الكريم هو المصدر الأساس لهذا الدين، يليه المصدر الثاني المبين له، وهو سنّة المصطفى عليه الصلاة والسلام، فإن على المسلمين، حكومات وهيئات وشعوباً، المزيد من العناية في تجلية ما قام به سلف الأمة نحو تراثها، وتيسيره لطلاب العلم والمثقفين في مختلف العصور والأمكنة، وبخاصة في هذا الوقت الذي اهتزت فيه الثقافة الإسلامية، وما خلفه لنا السلف الصالح لدى فئات عديدة من أبناء الأمة الإسلامية، بتأثير واضح من ثقافات ووسائل إعلام عالمية، تسعى إلى اختراق مجتمعات المسلمين، والتأثير عليها، لتكون ضعيفة الإنتماء لكتاب ربها وسنة نبيها، وضعيفة الاعتزاز بتراثها الإسلامي.
نعم ليست كل كتب التراث الإسلامي خالية من الأخطاء والاجتهادات غير الصحيحة وغير المقبولة، ولكن الأمة تتابعت على احترام تراثها، وما خلفه علماؤها لها في الجملة.
ومن فضل الله عليها أن لديها قواعد وأسساً ومناهج تميز بها الصحيح من السقيم، وأن مرجعها عند الاختلاف الكتاب والسنّة الثابتة، فهما الوحيان والمرجعان عند التنازع، كما قال سبحانه.
بل إن التمسك بهما هو العاصم من الضلال، كما قال عليه الصلاة والسلام: (تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا كتاب الله وسنتي).
إن العناية بكتب التراث من أوجب الواجبات على المسلمين اليوم، وبخاصة كتب الأئمة والإعلام الذين لهم قدم صدق وإخلاص في التعريف بهذا الدين، وتبيان علومه والذب عنه، والاجتهاد في الاستنباط وبيان الأحكام، وهم بفضل الله أئمة معترف لهم بالفضل والاجتهاد في مختلف العلوم المتصلة بالكتاب والسنّة، وما ينبغي أن تقوم عليه ثقافة الأمة المسلمة.
وما لم يحصل ذلك، فستزداد الهوة بين المسلمين ومصدر عزهم الكتاب والسنّة، وسيزداد المسلمون ضعفاً ووهنا، ولن تنفعهم أي وسيلة أخرى، مهما ادعى المدعون.
والتاريخ الإسلامي، بل التاريخ البشري دليل ناصع لمن أراد أن يعتبر ويستفيد.
إن إهمال أي أمة لماضيها الذي كان سبباً في نشوئها وعزتها هو أكبر عوامل الضعف والضياع لها.
ولا تزال أمة الإسلام بخير، فكتاب ربنا محفوظ بحفظ الله له، وسنّة نبينا محفوظة بمناهجها العلمية الفذة، وكتب سلفنا بين أيدينا.
والمهم المزيد من البحث والتحقيق والاستنتاج، والاجتهاد، ولن يصلح آخر هذه الأمة إلا بما أصلح أولها.
إن المملكة العربية السعودية، الدولة الإسلامية: تأسيساً ونشأة وواقعاً، لها اليد الطولى - بفضل الله ومنه - في الحفاظ على تراث المسلمين اليوم وعلومهم، والعناية به من خلال رعايتها للمؤسسات الإسلامية القائمة على ذلك ودعمها لكل جهد إسلامي صحيح في أي بقعة من العالم.
وليس ذلك بغريب على المملكة، فقد قامت على الكتاب والسنّة، وهما دستورها، وشريعة الإسلام هي نظامها الحاكم فيها، ومؤسساتها التعليمية والثقافية، قائمة على خدمة الإسلام، وتنشئة جيل مسلم، يحمل الإسلام للعالمين.
وكونها كذلك، وما تقدمه من خدمة للإسلام والمسلمين هو ما أقض مضاجع أعداء الإسلام، وأعداء الإنسانية الذين يسعون حثيثاً لإشغال العالم بالنزاع والفتن والبعد عن الإسلام، الدين الحق، الذي اختاره الله ديناً إنسانياً، لكل الناس إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
ولذلك شنت الحملات الإعلامية المغرضة، والقائمة على الكذب والافتراء ضد المملكة ونظامها وحياتها الاجتماعية ومؤسساتها الدينية، ومما يزيد في الألم أن يستغل في ذلك أحياناً من ينتسب للإسلام وأمته.
وواجبنا في المملكة، بل واجب المسلمين المخلصين لدينهم وأمتهم أن يعوا الحقائق، ويدركوا هدف تلك الحملات، وأن يتخذوا الوسائل المتاحة لبيان الحق والدفاع عن المملكة ماضياً وحاضراً، والوقوف بصفها، لأن ذلك خدمة للإسلام ولأمته.
وإن العناية بكتب التراث، تحقيقاً ونشراً ينطلق مما أشرت إليه سابقاً، في خدمة هذا الدين، وربط حاضر الأمة بماضيها، وتقوية لها في مواجهة خصومها.
وتأتي هذه الموسوعة القيمة في تفسير كتاب الله الكريم، وبيان أحكامه في هذا السياق.
وما كان لها أن تصدر بثوبها القشيب هذا، لولا عون الله تبارك اسمه وحسن توفيقه، وما جنده لها من اليد البيضاء السخية التي أكرم بها صاحب السمو الملكي الأمير الفاضل بندر بن عبدالعزيز آل سعود، المعروف بورعه وتقواه، وحبه للعلم والعلماء، إذ تبرع بنفقات الكتاب وتوزيعه على طلاب العلم وأهله، يبتغي بذلك وجه الله بخدمة كتابه الكريم، وتيسير كتب العلم الشريف على طلابه. فاللهم أجزل له في عمله هذا الأجر، وأحسن له الذكر، وأبلغه مما يرضيك أمله.
ولم يكن هذا العمل المبرور المحمود وأمثاله، بغريب ولا قليل في أسرة آل سعود، وكذلك كان سمو الأمير بندر - حفظه الله - يتأتّر سيرة أبيه الملك الإمام عبدالعزيز - طيب الله ثراه - في نشر كتب السلف على نفقته لتيسير الحصول عليها لدى طلاب العلم. وتلك كانت مأثرة حميدة وسنّة حسنّة أورثها الملك عبدالعزيز -رحمه الله- في ذريته البررة، جعلهم الله أعواناً على الحق ونصر بهم دينه، وأعلى كلمته.
فباسم طلاب العلم أتوجه بالشكر لسموه الكريم. وأشيد بمؤسسة الرسالة العامرة، وجهودها البيضاء في إصدار الكتب في حلل فنية جميلة، شاكراً لصاحبها الأخ رضوان إبراهيم دعبول، حرصه وتعاونه على الخير، وإخوانه المتعاونين معه في المؤسسة.
أسأل الله أن يجعل هذا العمل خالصاً لوجهه الكريم، مبلغاً للفوز برضوانه العظيم، وصلى الله وسلم وبارك على خيرته من خلقه، نبينا وإمامنا محمد بن عبدالله، والحمد لله رب العالمين.
الأمين العام لرابطة العالم الإسلامي


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.