نصيب الملك فيصل - رحمه الله - في مذكرات د. معروف الدواليبي كبير، فقد عاش الدواليبي قريباً من الملك فيصل ومستشاراً له لعدة سنوات. ولعل أبرز ما ورد فيها قصة الملك فيصل مع ديجول حيث استطاع الملك فيصل بحنكته السياسية وسعة اطلاعه أن يقنع ديجول بالقضية العربية ويحول موقف فرنسا من إسرائيل .. فالرئيس ديجول من أعظم زعماء العالم المناضلين فهو الذي قاد جيوش بلاده في الحرب العالمية الثانية إلى النصر وحرر فرنسا من الاحتلال النازي، لكن ميوله كانت إلى إسرائيل بحكم تأثير المجموعة الصهيونية عليه من جهة وبحكم اعتقاده - وهو مسيحي متدين - أن دعم الدولة اليهودية واجب ديني. قام الدواليبي بترتيبات اللقاء بين الزعيمين العظيمين الفيصل وديجول، وزار الملك فيصل باريس قبل هجوم إسرائيل على مصر في 5 يونيو 1967م بثلاثة أيام. اجتمع الزعيمان اجتماعاً منفرداً - كما يروي الدواليبي - ولم يكن معهما إلا المترجم، بادر ديجول الملك فيصل بقوله: يا جلالة الملك سمعت أنكم تريدون إلقاء إسرائيل في البحر، وإسرائيل أصبحت أمراً واقعاً، ولا يقبل أحد في العالم إلغاء إسرائيل من الوجود. فأجابه فيصل - رحمه الله: يا فخامة الرئيس، أنا أستغرب كلامك، إن هتلر احتل باريس وأصبح احتلاله أمراً واقعاً. وكل فرنسا استسلمت إلا أنت! فانسحبت مع الجيش الإنكليزي، وبقيت تعمل لمقاومة الأمر الواقع حتى تغلبت عليه. وألمانيا تنتهز الفرصة من وقت لآخر لخلافها معكم على منطقة الألزاس واللورين. كلما احتلتها وقف الشعب الفرنسي ينتظر حرباً عالميةً ليستعيدها، فلا أنت رضخت للأمر الواقع ولا شعبك رضخ، فأنا أستغرب منك الآن أن تطلب مني أن أرضى بالأمر الواقع. والويل عندئذٍ يا فخامة الرئيس للضعيف من القوي إذا احتله القوي وراح يطالب بالقاعدة الذهبية للجنرال ديغول أن الاحتلال إذا أصبح واقعاً فقد أصبح مشروعاً.فدهش ديغول من سرعة البديهة والخلاصة المركّزة بهذا الشكل، وكان ديغول لم يستسلم ويتراجع، وإنما غير لهجته متأثراً بما سمع، وقال: يا جلالة الملك، لا تنسَ أن هؤلاء اليهود يقولون: إن فلسطين وطنهم الأصلي، وجدهم الأعلى إسرائيل وُلِد هناك. قال فيصل: فخامة الرئيس أنا من الأشخاص الذين يعجبون بك ويحترمونك، لأنك رجل متدين مؤمن بدينك، وأنا يسرني أن ألتقي بمن يخلص لدينه، وأنت بلا شك تقرأ الكتاب المقدس. أما قرأت أن اليهود جاؤوا من مصر غزاةً فاتحين، حرقوا المدن وقتلوا الرجال والنساء والأطفال، ما تركوا مدينة إلا أحرقوها، فكيف تقول إن فلسطين بلدهم، وهي للكنعانيين العرب، واليهود مستعمرون. وأنت تريد أن تعيد الاستعمار الذي حققته إسرائيل منذ أربعة آلاف سنة، فلماذا لا تعيد استعمار رومالفرنسا الذي كان قبل ثلاثة آلاف سنة؟ أَنصلح خريطة العالم لمصلحة اليهود، ولا نصلحها لمصلحة روما عندما كانت تحتل فرنسا والبحر الأبيض كله وإنكلترا أيضاً؟ ونحن العرب أمضينا مئتي سنة في جنوبفرنسا، في حين لم يمكث اليهود في فلسطين سوى سبعين سنة ثم نفوا بعدها، وهذا مثال تاريخي أيضاً. قال ديغول: ولكنهم يقولون: في فلسطين ولد أبوهم. قال فيصل: غريب!! عندك الآن مئة وخمسون دولة لها سفراء في باريس، وأكثر السفراء يولد لهم أولاد في باريس، أفلو رجع هؤلاء السفراء إلى بلادهم، ثم جاءت ظروف صار فيها هؤلاء السفراء رؤساء دول، وجاؤوا يطالبونك باسم حق الولادة بباريس، فمسكينة باريس، لا أدري لمن ستكون؟! هنالك، سكت ديغول، وضرب الجرس مستدعياً بومبيدو، وكان جالساً مع الأمير سلطان والدكتور رشاد فرعون في الخارج. وقال له:( الآن فهمت القضية الفلسطينية، أوقفوا السلاح المصدَّر لإسرائيل. وكانت إسرائيل تحارب بأسلحة فرنسية وليست أمريكية). (المذكرات ص 203 وما بعدها). وهكذا أوقف ديغول شحن الأسلحة الفرنسية لإسرائيل قبل هجومها على مصر بثلاثة أيام وأثناء اجتماعه مع الملك الفيصل. ويعلق الدواليبي - رحمه الله - فيقول:( واستقبلنا الملك فيصل في الظهران عند رجوعه من هذه المقابلة، وفي صباح اليوم التالي ونحن في الظهران أعلن الغزو، فاستدعى الملك فيصل رئيس شركة التابلاين الأمريكية، وكنت حاضراً، وقال له: إن أي نقطة بترول تذهب إلى إسرائيل ستجعلني أقطع البترول عنكم. ولما علم بعد ذلك أن أمريكا أرسلت مساعدة لإسرائيل قطع عنها البترول، في حين لم تقطع عنها البترول العراق، ولم يكن صدام هو الرئيس ولكن هو المسيطر، كما لم تقطع البترول كل من الجزائر وليبيا، الذين قطعوا البترول هم عرب الخليج فقط) (ص 205). وهذه حقيقة تاريخية تغيب عن الكثيرين في عالمنا العربي والإسلامي، وخاصةً من دعاة الثورية، أن الذين اتخذوا القرار الشجاع بقطع البترول كانوا زعماء الدول التي يسمونها (رجعية) وأن الذين تخاذلوا كانوا زعماء الدول التي يسمونها (ثورية) و (تقدمية). [email protected]