ولقصيدة الفرزدق، بقيَّةٌ تُصوِّرُ حالته مع الذئب، كما أن كثيراً من الشعراء والأدباء، لهم أحاديث نفسيَّة، وخلجات تعبيريّة، مع الذئب ومع الأسد وتذليلهما، وتسخيرهما لعلاقة ودّ وأُلْفة، بين الإنسان وعدّوه، إن صحّ هذا التعبير وهو الذئب. والجاحظ في كتابه الحيوان، بعد أن أورد أموراً كثيرة عن الذئب: وفاءً وغدراً وطريقة الصّراع بين الإنسان والذئب وكذا الدّميري في حياة الحيوان الكبرى، ولذا نرى الجاحظ يذكر: تعليم الذئب وتأليفه، فيقولك وزعم عَبَوَبْه: أن الخصيّ العبديّ الفقيه، من أهل هَمَدانْ، السّوداني الجبليّ، وهو رجل من العرب، قد ولدته حليمة ظئر النبيّ صلى الله عليه وسلم، وهو من سعد بن بكر، فزعم أن السّودانيّ، أشبه خلق الله بجارحةٍ، وأحكمهم بتدبير: الذئب والكلب والأسد، والنمر، تعليماً وتثقيفاً. وأنه بلغ من حِذْقِهِ ورِفِقِهِ أنه: ضرىّ ذئباً وعلّمه، حتى اصطاد له الظّباء والثعالب، وغير ذلك من الوحوش، وأن هذا الذئب بعينه سرّحه، فرجَعَ إليه من ثلاثين فرسخاً، وذكر أن هذا الذئب اليوم بالعسكر.. وبعد أن استطرد في الموضوع وقال: وحدّثني بهذا الحديث، في الأيام التي قام بها أمير المؤمنين المتوكل على الله. ثم ذكر أنه ضرّى أسداً حتى ألف، وصار أهْلياً، صيوداً حتى اصْطاد الحُمُر الوحشية، والبقر العظام من الوحش، صيداً ذريعاً، إلا أن الأسد بعد هذا كلّه وثب على ولد له فأكله، فقتله السّودانيّ. وعقّب الجاحظ على مثل هذا بقوله: والذي عندنا أن الذئب يألفُ، ولو أخذ الإنسان جرواً صغيراً، من جراء الذئب، ثم ربّاه لما نزع إلا وحشاً غدوراً، مُفْسداً، لأن الطبع يغلب التّطبع، ولذلك قال الأعرابي الذي ربّا جَرْوَ ذِئْبٍ، وظنّه قد استأنس ولكنه عدا على شاته فأكلها، بعد أن افترسها، فقال متحسّراً: أكَلْتَ شويهتي ونشأت فينا فمن أنباك أن أباك ذيب (الحيوان 7 -187). وبالنسبة للأحاديث الإسرائيليّة، التي أخبر صلى الله عليه وسلم عنها بقوله: (حدّثوا عن بني إسرائيل ولا حرج) وأخبر عليه الصلاة والسلام في موطن آخر (إنها لا تصدّق ولا تكذّب)، قال العلماء: (لا تصدّق مخافة أن تكون مما جاءت كذباً في أحاديثهم المكذوبة على الله، وعلى أنبيائه، ولا تكذّب مخافة أن تكون ممّا صحّ في أحاديثهم). ولكنّ العلماء خرّجوا ذلك: بأن يصدّق ما اتفق مع شرعنا، الذي جاء عن الله وعن رسوله، ويكّذب ولا يؤخذ به ما خالفهما، لأن الله سبحانه أخبرنا في محكم التنزيل، بأنهم (َيَقُولُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) (آل عمران 75). وفي موضوعنا هذا سنورد حديثاً يتعلّق بالذئب، ونأخذه من باب العبرة - لا العبادة - وأن الله على كل شيء قدير، تقول تلك الرواية: بأن موسى عليه السلام، كان راعياً في غنم نبيّ الله شعيب، ويهتمّ بها رعاية ومحافظة نظير ما بينهما من شرْطٍ، كما جاء ذكر ذلك في سورة القصّص، وفي يوم من الأيام، كان النوّم يغالب عينيْ موسى عليه السلام، واحتار بين أمرين: إن نام يخشى على الغنم الذئب، وإن اهتمّ بغنمه سوف يغلبه النوم الذي أناخ عليه بثقله، والنوم سلطان جائر، فصار يجاهد نفسه، ويحاول طرد الكرى عن عينيه. لكن النوم غلبه، لعدم استطاعته المدافعة، فاستغرق في النّوم، ولما استيقظ رأى ذئباً معه عَصَا يرعى الغنم، ويطرد عنها السّباع، فحمد الله وشكره على هذه النّعمة، فقيل له: حَفِظْتَ الله فيما استودعك، فحفظ لك وديعتك. وقد علّق على هذا أحد مشايخنا بقوله: ومصداق ذلك حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، في وصيته لابن عبّاس الذي جاء فيه: (احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، تعرّف إلى الله في الرخاء يرعفك في الشدّة) الحديث بتمامه. وعن ذئب يوسف عليه السلام، الذي زعم إخوته: أن الذئب أكله، قال أبوهم بعدما شمّ قميص يوسف المخضّب بدم كذب: إن هذا الذئب لرحيم، فكيف أكل لحم يوسف، ولم يخرق قميصه. أما ما سمعنا ورُوي لنا من أحاديث الذئاب، والفهم للإنسان، في عصر مضى يوم كان المسير في الصحراء على الأقدام بمُدَدٍ متوالية، أو على ظهور الحيوانات، بدون أنيس ولا حسّ إلا الأصداء، وعواء الذئاب في الليل، فأذكر من ذلك، ما ذكره شيخ عن حالة مرّت به، وهو لا يزال حياً، وعمره الآن قارب المائة عام. يقول هذا الشيخ المجرّب، وهو من أبناء الحاضرة، بأنّه مرّ به مع الذئب، مواقف في شبابه متعدّدة منها: وهذه الحادثة حسب ما ذكر لي لها من الآن تسعون عاماً، إن لم تزد قال: كان والدي فلاحاً، وله ارتباط بالبادية، بيعاً وشراءً ومعاملةً، وكان يُخْرجُ إبله وغنمه، مع أحد الرعاة في البادية، كما هي العادة في المجتمع كُلِّه، واحتاج أبي بعض إبله، التي عند البدو، وأرسل أخي الأكبر إليهم، فذهب وصار يبحث من مكان إلى مكان، حتى طال به السفر، ولم يرجع إلى أبي إلا بعدما يقارب الشهر، وفي مسيره بأحد الأيام، إذا هو بذئب يجاريه في المسير، إن سار سار معه، وإن تمّهل تمّهل، وإن انحرف مع طريق انحرف مثله، وقد أوجس منه خيفة، وأخذ حذره منه، فُلما أناخ راحلته وقت الظهيرة لكي يصلي الظهر، وكان شجاعاً وحذراً، قد أخذ بندقيته المجهزّة معه. فإذا بالذئب يتنحى عنه، ويُقعي غير بعيد منه، ولم يّيْدُ منه عداوة، بل أنس به وبتأدّبه. فصلّى الظهر ولم يبدر من الذئب ما يريب، فاستدنى حطباً ممّا حوله، وأوقد ناراً لصنع الطعام، والذئب هادئ لم يتحرّك كأنه أليف له، وبعدما نضج (قرصه)، قطع للذئب قطعة منه، وأيْدَمَها بالسّمن، ووضعها له على حجر ووضع بجانب هذا إناء فيه ماء من قربته لكي يشرب الذئب مع الطعام. فقام الذئب من مكانه ليتناول طعامه وشرابه، وأخي ينظر إليه بمسارقة النظر، أثناء تناوله قهوته وطعامه، خوفاً من أن يبدر منه شيء، والحيطة في مثل هذا الموقف مهمّة، خوفاً من غدرات الذئب. فلما انتهى الذئب من طعامه وشرابه تثاءب، وبَصْبَص بذنبه وتنحىّ ونام على جنبه، فصار أخي وإيّاه رفيقان في الصحراء، يسير حيث سار، ويقف إذا وقف، يتقاسمان الأكل لمدة ثمانية أيام على هذا المنوال: رفيقا درب يأنس كل منهما بصاحبه، ولم يحسّ أخي من الذئب بما يكدّر الخاطر، ولما أقبل أخي على البلد، وضع له طعاماً، كالمعتاد، ودخل البلد وتركه، ولكن الذئب صار في كل ليلة يَعْوي، كأنه يناديه، لمدة ثلاث ليال، فلما أيس سكت وذهب، كما كان فترة مرافقته في الليل إذا نام أخي نام الذئب مقابلاً له كأنه يحرسه. ثم قال: أما أنا فقد صار معي في البرّ، مثل هذا الموقف عدّة مرات: مرّة صاحبني ذئب خمس ليال، ومرّة ثلاثة أيام والباقي على يوم أو يومين، وبمناسبات مختلفة، فأطعمه إذا طعمت، وأسقيه إذا استقيت، ويجاريني في المسير. ثم قال أيضاً: وقد ذُكر لي أن شيخاً من بادية الشّمال ضاعت إبله، وتعب في بحثه عنها، فلم يعثر عليها، وإذا بذئب قد جاء بها يسوقها، حتى أوصلها لخيمته، فكافأه بأن ذبح له واحدة منها، وجعلها في مكان منعزل، وقال له: هذه ضيافتك يا سرحان، لكنّ واحداً اعتدى عليه وذبحه، فما كان من هذا الشيخ إلا أن قتله، دفاعاً عن ضيفه، صاحب المعروف عليه وهناك حكايات عديدة عند البادية تتشابه مع هذه أو تلك. الذئاب تتكلّم ذكر ابن كثير في تاريخه، كثيراً من الدلائل التي كانت علامات لبعثة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتعتبر من المعجزات، ومنها ما يتعلق بالحيوانات، فكان مما ذكر عن الذئب: عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: جاء ذئب إلى راعي غنم، فأخذ منها شاة، فطلبه الراعي حتى انتزعها منه، قال: فصعد الذئب على تلٍ فأقعى، فاستذفر وقال: عمدت إلى رزق رزقنيه الله عز وجل، فانتزعته مني، فقال الرجل: لله إن رأيت كاليوم ذئباً يتكلّم، فقال الذئب: أعجب من هذا رجل في النخلات بين حرّتين، يخبركم بما مضى، وما هو كائن بعدكم. وكان الرجل يهودياً، فجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأسلم، وخبّره فصدّقه النبي صلى الله عليه وسلم، ثم قال: عليه الصلاة والسلام: إنها أمارة من أمارات بين يدي الساعة، قد أوشك الرجل أن يخرج فلا يرجع حتى تحدّثه نعلاه وسوطه، بما أحدثه أهله بعده، تفرد به أحمد. وقال ابن عمر: كان راعٍ على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذْ جاء الذئب فأخذ شاة، ووثب الراعي حتى انتزعها من فيه، فقال له الذئب: أما تتّقي الله، أن تمنعني طُعْمة أطعمنيها الله تنزعها مني؟ فقال الرّاعي: العجب من ذئب يتكلّم؟ فقال الذئب: ألا أدّلك على ما هو أعجب من كلامي؟ ذلك الرجل في النخل يخبر الناس بحديث الأولين والآخرين أعجب من كلامي. فانطلق الرجل حتى أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره وأسلم، فقال له رسول الله: حدّث الناس به. قال الحافظ عدّي: وَلَدُ هذا الرّاعي يقال لهم: بنو مكلِّم الذئب، ولهم أموال ونعم، وهم من خزاعة، واسم مكلّم الذئب: أهبان. قال البيهقي: فدلّ على اشتهار ذلك وهذا مما يقوّي الحديث. وقد أورد أكثر من عشر روايات عن كلام الذئب، ومنها: أن ذئباً جاء فأقعى بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم وجعل يبصبص - والبصبصة تحريك الذنب - فقال صلى الله عليه وسلم: هذا وافد الذئاب جاء ليسألكم أن تجعلوا له من أموالكم شيئاً، قالوا: والله لا نفعل، وأخذ رجل من القوم حجراً فرماه، فأدبر الذئب وله عواء، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الذئب.. وما الذئب (6: 178-182).