أخذت منظمة التجارة العالمية التي تضم عضويتها 132 دولة تتحول بالفعل إلى منظمة عالمية، وعلاوة على ذلك، هناك ثلاثون دولة أخرى بما فيها السعودية وعمان والصين وروسيا في طريقها إلى الانضمام إلى هذه المنظمة. ويبدو أن الحكومات في جميع أنحاء العالم لديها قناعة مشتركة بأن وجود نظام تجاري غير متحيز ويستند إلى القوانين هو أفضل طريقة لضمان الرفاهية الاقتصادية لمواطنيها؛ حيث إن هذا النظام يتيح دخولاً عادلاً لخدمات وسلع دولة ما إلى الأسواق العالمية، ويقدم آليات لحل النزاعات التجارية وحماية ضد المنافسة غير العادلة. ولكن لا يمكن لأحد أن يتظاهر بأن نظاماً تجارياً متعدد الأطراف يمكنه أن يقدم كل الحلول لكثير من مشكلات العالم المعاصرة، وفي الوقت نفسه لا ينبغي علينا أن نقلل من أهمية وجود نظام يستند إلى القوانين يمكنه أن يخلق بيئة مواتية للتجارة والاستثمار في الاقتصاد العالمي.. ففي النهاية، يريد رجل الأعمال الناجح أن يعرف طبيعة ظروف دخول السوق بالنسبة لسلعه وخدماته والحقوق والواجبات ذات الصلة المتاحة له قبل التورط في التجارة والاستثمار في سوق معينة.لذلك فإن إيجاد سوق عادلة توفر حرية التنافس للجميع يعتبر أمراً ضرورياً نظراً لأن العقد الماضي شهد حدوث تغيرات كبيرة في القوى المحركة للاقتصاد العالمي، يتمثل أولها في حجم وسرعة تدفق رأس المال الدولي، وتحرير حساب رأس المال، وتطوير أدوات مالية وتقنيات رقمية جديدة، الأمر الذي أدى إلى إيجاد سوق رأسمالية عالمية مدمجة بالكامل وذات نطاق هائل. ثانيا، الطبيعة المتغيرة للإنتاج الدولي حيث أخذت الشركات تعمل بطرق معقدة وباضطراد، على دمج إنتاج وتسويق السلع والخدمات عبر الحدود الوطنية. وفي الوقت الذي تقر فيه الغالبية العظمى من الحكومات في مختلف أنحاء العالم بضرورة وجود تجارة حرة تستند إلى نظام تجاري رضائي متعدد الأطراف يحتكم إلى القانون مع وجود آلية موحدة لتسوية النزاعات تضمن إيفاء جميع الأعضاء بالتزاماتهم، لكن لابد من الاعتراف بأن بعض الدول ستستفيد أكثر من غيرها. وحيث إن الدول الصناعية المتطورة لديها الخبرة الأكثر والمصلحة الكبرى في (التجارة الحرة)، فمن الواضح أن شركاتها التجارية الكبرى ستكون أكثر المنتفعين من نظام تجاري عالمي قائم بشكل رسمي يمنحها حرية هالة للاستثمار في معظم بلدان العالم، وفي الوقت نفسه، نجد أن الحكومات في الدول الصاعدة ودول العالم الثالث تمتلك سلطاناً أقل مما سيقيد عملياتها، خصوصاً في مناطق مثل منطقة الخليج حيث كانت الحكومات في السابق قادرة على حماية صناعاتها وتجارتها الناشئة ضد هذا النوع من الاستعمار الاقتصادي. ومن الملاحظ أن منظمة التجارة العالمية قد نجحت من خلال الاتفاقيات العامة حول التجارة والتعرفة الجمركية (الجات) وحقوق الملكية الفكرية المتعلقة بالتجارة (تريبس) والإجراءات الاستثمارية المتعلقة بالتجارة (تريمز)، في وضع مجموعة من القيود قابلة للتنفيذ القانوني، وهذا يعني أن دولاً كثيرة سيتعين عليها تعديل قوانينها وتشريعاتها من أجل منح الشركات العالمية حق المنافسة ضد الشركات المحلية في جميع القطاعات الاقتصادية وإعطائها الحق بحيازة أي نشاط تجاري أو ملكية بما في ذلك الموارد الطبيعية كالنفط والحق في السيطرة على صناعات الخدمات الإستراتيجية كالقطاع المصرفي والتأمين في الأسواق المحلية. كما ينبغي على منظمة التجارة العالمية احترام الفروق الثقافية والقيم السائدة لا أن تقوم فقط بتبني قيم الدول الأكثر تطوراً بصورة عشوائية، وينبغي عليها أن تستغل إمكانية التقنيات الجديدة التي لا حدود لها لإتاحة المجال أمام الاقتصاديات الصاعدة والدول الأقل تطوراً تسريع تنمية مواردها البشرية والاقتصادية على نحو كبير. ويبدو خصوم منظمة التجارة العالمية صادقين عندما يقولون إن النظام التجاري المتعدد الأطراف لا يمكنه أن يحل كل مشكلة تظهر على السطح، ولا يجب أن يتوقع منه القيام بذلك ولكن لا يمكنهم تجاهل الواقع السياسي لعالم يتواكل على بعضه البعض أو غض النظر عن الدائرة المتسعة للقضايا التي يجب معالجتها في إطار متعدد الأطراف. إن الاتفاقيات التجارية ليست هدفاً بحد ذاتها، وإنما هي وسائل قيمة لغايات مهمة كتوسيع دوائر التطور والمشاركة في التقدم التكنولوجي والحفاظ على البيئة وتعزيز السلام والاستقرار عبر توزيع أكثر إنصافاً للتجارة والموارد الطبيعية. ويمكن القول في نهاية المطاف إن عولمة اقتصاديات العالم وتطوير نظام تجاري متعدد الأطراف تديره منظمة التجارة العالمية يعتبر تحدياً للقيادة السياسية، وهي تعتبر تحدياً بشكل خاص بالنسبة لقادة الدول الأقوى في العالم لأنه ينبغي أن يكون لديهم الاستعداد للمشاركة في عملية صنع القرار بحيث تصبح أكثر شمولية مما اعتادوا عليه: عملية يكون فيها للدول الصاعدة والفقيرة دور أكبر في تشكيل الاقتصاد العالمي خلال القرن القادم. وقد قال سوباتشاي بانتشباكدي، مدير عام منظمة التجارة العالمية، يسعدني القول إن عملية انضمام المملكة العربية السعودية إلى منظمة التجارة العالمية قفزت قفزة هائلة، وأصبحت إمكانية انضمام المملكة إلى المنظمة حقيقة وشيكة، وكان وزير التجارة والصناعة هاشم عبدالله يماني قد أوضح أن انضمام المملكة إلى منظمة التجارة العالمية لم يعد أمامه سوى الاتفاق على أربع قضايا، أولها قائمة السلع الموحدة، وهي قائمة أوشكت على الانتهاء بعد إنجاز الكثير منها، أما القضية الثانية، قطاع الخدمات، خصوصاً في مجال التأمين، إذ يرغب الأمريكيون بأن تكون الإجراءات مواتية أكثر لشركاتهم، لأنهم الدولة الأكبر في هذا المجال، فيما ترغب المملكة في حماية أسواقها من الانفتاح أكثر من اللازم، أما القضية الثالثة فتتعلق بدور بعض المؤسسات الحكومية في المتاجرة، فالأمريكيون يريدون أن يعرفوا مدى متاجرة هذه المؤسسات في السلع والخدمات، وأخيراً قضية تسعير الغاز المسال. وفي سياق آخر نجد أن من المتوقع أن يؤدي انضمام المملكة إلى منظمة التجارة العالمية إلى زيادة حجم صادراتها من السلع غير النفطية، التي تصنف باعتبارها الرهان الأساسي تجاه تنويع مصادر الدخل، وهو ما حدث فعلاً عند انضمام دول مثل الأردن، وعُمان اللتين زادت صادراتهما بنسبة 10 و5% على التوالي؛ ولكن الاستفادة القصوى من الانضمام تستلزم تأسيس جهاز فني متخصص لمتابعة أعمال المنظمة والدفاع عن مصالح المملكة. وحول هذا الموضوع أكد الشيخ عبدالرحمن بن علي الجريسي رئيس الغرفة التجارية بالرياض أن انضمام المملكة أصبح مطلباً مهماً خصوصاً أن المملكة تعتبر من أكبر اقتصاديات الشرق الأوسط وبالتالي هذا الانضمام سيدعم ويعزز هذه القوة الاقتصادية للمملكة في الوقت الذي نجد وجود الكثير من السلع والمواد المصنعة محلياً من المملكة تنافس في السوق العالمية. أما بخصوص التحديات فأكد الجريسي أن هذه التحديات أو الصعوبات شيء متوقع لكن الوفد المفاوض السعودي بكل تأكيد سيسعى إلى الحصول على أكثر الفوائد من الانضمام التي ستخفف أو تعالج هذه التحديات. وأوضح الجريسي أن انضمام المملكة سيتم نهاية هذا العام وأن الطريق سائر بشكل صحيح للانضمام. كما نوه رئيس الغرفة التجارية بالرياض أن عوائق الانضمام أغلبها عوائق سياسية وليس اقتصادية. أيضاً أوضح الدكتور فهد بن يوسف شريف العيناني الأستاذ في جامعة الملك عبدالعزيز والمستشار الاقتصادي حول انضمام المملكة لمنظمة التجارة العالمية بأنه لا توجد مُدد زمنية معينة تحدد انضمام دولة لعضوية المنظمة كما أن الانضمام وموعد انضمام يكون عادة راجعاً للمفاوضات. أيضاً كل دولة نجدها تختلف عن الأخرى بسبب كل طبيعة وخصوصية للدولة، وبالتالي الحجم التجاري والثقل الاقتصادي والنفط له دور كبير في زيادة الضغط والتفاوض على الدولة للانضمام فكلما زادت اقتصاديات الحجم كلما كانت هناك مطالب ومطامع لانضمام الدولة للمنظمة. وحول التحديات أوضح الدكتور العيتاني أن هناك تحديات مختلفة سواء كانت تحديات اقتصادية أو قانونية أو فنية أو اجتماعية ولكن المملكة قدمت تسهيلات واسعة أمام الشركات الأجنبية تتيح لها الاستثمار أو العمل في جو ملائم لعل أبرزها إنشاء الهيئة العامة للاستثمار. وحول التحديات أيضاً نجد أن المملكة ولما تتمتع به من مكانه دينية باعتبارها قبلة المسلمين أيضاً تتمتع من ناحية أخرى بثقل سياسي وموقع إستراتيجي مهم. وأضاف الدكتور فهد العيتاني أن المكاسب المرجوة من هذا الانضمام لن تتم إلا على المدى البعيد وليس المدى القريب أو المتوسط. وبالتالي فإن المكاسب السياسية هي التي ستكون أسرع وأقرب للتحقيق على خلاف المكاسب الاقتصادية. وأشار العيتاني حول هذا الموضوع أن الدولة التي تنضم للمنظمة يجب عليها الالتزام بالمبادئ السبعة الأساسية للمنظمة. من جهته أوضح الدكتور محمد بن فهد القحطاني أستاذ الاقتصاد المساعد في معهد الدراسات الدبلوماسية حول هذا الموضوع قائلاً: في البداية وفيما يتعلق بوقت الانضمام وما إذا كان هذا الوقت الملائم للانضمام يتضح من بنود المفاوضات السعودية مع منظمة التجارة العالمية أن مسألة الانضمام في مراحلها الأخيرة، كما صرح بذلك معالي وزير التجارة والصناعة، الذي أشار بأن ذلك الموضوع سوف يحسم بانتهاء السنة الحالية.. فقد قامت المملكة بعقد عدة اتفاقات ثنائية مع 35 بلدا عضوا في المنظمة وبقي اتفاق أخير مع الولاياتالمتحدةالأمريكية. كما أنهت المملكة جولات من المفاوضات في مجال السلع وهناك العديد من الاتفاقيات والمفاوضات التي تُعقد الآن في مجال الخدمات. وتبدي الولاياتالمتحدةالأمريكية حماسا كبيرا لانضمام المملكة لمنظمة التجارة العالمية نظراً لكون السعودية أهم شريك تجاري للولايات المتحدةالأمريكية في منطقة الخليج بسبب ضخامة السوق السعودي. ويأمل المسؤولون السعوديون أن يتم إنهاء إجراءات الانضمام وتوقيع الاتفاقات المتبقية في الخريف القادم حتى يتم تفعيل الاتفاقية في اجتماع المنظمة المزمع عقده في هونج كونج في منتصف شهر ديسمبر القادم. ويعتبر هذا الوقت مناسباً للانضمام حيث قامت المملكة باتخاذ عدة إجراءات لأجل تهيئة الاقتصاد السعودي لعضوية تلك المنظمة الدولية، وذلك بإزالة التشوهات الموجودة في الاقتصاد السعودي وحتى تواكب الأنظمة والقوانين السعودية شروط المنظمة. وحول مصير عقود الاحتكارات والوكالات للسلع والمنتجات في حال انضمام المملكة للمنظمة أوضح الدكتور القحطاني أن موضوع مكافحة الاحتكارات يعتبر أحد الاهتمامات الحديثة لمنظمة التجارة العالمية، فلقد أثيرت قضايا المنافسة للمرة الأولى في الاجتماع الوزاري للمنظمة في سنغافورة في عام 1996 حيث كان النقاش منصباً على العلاقة بين التبادل التجاري ومستوى المنافسة، إلا أن موضوع مكافحة الاحتكارات الدولية حظي بنسب كبيرة من الاهتمام في مؤتمر الدوحة في عام 2001 وفي مؤتمر المكسيك في عام 2003، هذا الاهتمام ينبع من الاتفاق الأمريكي والأوروبي على وجود احتكارات دولية في بعض السلع وبالتالي لابد من وجود آلية تزيل تلك الاحتكارات وتزيد من مستوى المنافسة، فالهدف الأسمى من تحرير التبادل التجاري من جميع القيود هو التأكيد على رفاهة المستهلك، وهذه الاحتكارات تؤثر سلباً على مدى استفادة المستهلك من تحرير التجارة.. فهناك آليات معينة يمكن من خلالها قياس مدى وجود هذه الاحتكارات في أسواق الدول الأعضاء، فعلى سبيل المثال وجود فرق كبير في أسعار السلع في البلد المستورد مقارنة بالوضع في البلد المصدر وكذلك حرية دخول منتجين جدد إلى الأسواق المحلية، فجميع تلك المؤشرات تقيس مستوى الاحتكارات في الأسواق المحلية وهناك توجه في منظمة التجارة العالمية لسن قوانين تتماشى مع القوانين الموجودة في الدول المتقدمة للحد من تلك الاحتكارات، فمن المتوقع أن تُزال تلك العقود الاحتكارية والوكالات التجارية الموجودة في السوق السعودي في المستقبل في حال انضمام المملكة للمنظمة حتى يستفيد المواطن السعودي من انخفاض أسعار السلع المترتب على تحرير التبادل التجاري وإزالة الاحتكارات. وفيما يتعلق بالآثار الإيجابية والسلبية في انضمام المملكة للمنظمة أوضح الدكتور محمد: عند تبني أي سياسة اقتصادية معينة فإن صانع القرار لابد أن يرى تأثير تلك السياسة على مستوى الرفاهة العام، هذا الإجراء يتطلب حساب التأثيرات المتوقعة على المستهلك وعلى المنتج. ففي جانب المستهلك سوف ينعم المستهلك السعودي بفائدة كبيرة من جراء انضمام المملكة للمنظمة بسبب تراجع مستوى أسعار السلع المستوردة وارتفاع مستوى المنافسة وإزالة الاحتكارات، بل إن هناك فائدة كبيرة تتمثل في تحسن جودة السلع المباعة في السوق السعودي نظراً لوجود قوانين المحافظة على حقوق الملكية الفكرية التي تعني محاربة الغش التجاري المتفشي في السلع المتواجدة في قطاع التوزيع حالياً. أما في جانب المنتج، فهناك جوانب سلبية وإيجابية تترتب على انضمام المملكة لمنظمة التجارة العالمية، فهناك صناعات سعودية سوف تزدهر وهي تلك الصناعات التي نمتلك فيها ميزة نسبية مقارنة مع دول العالم الأخرى، وفي المقابل هناك صناعات سوف تتراجع في وجه المنافسة الدولية، إلا أن هناك استفادة منقطعة النظير من وجود القوانين التي ترمي إلى فض وتسوية النزاعات التجارية ليس فقط في الاقتصاد السعودي ولكن حتى في الأسواق العالمية، كذلك التأكيد على مبدأ الشفافية في الأنظمة التجارية وعلى اتباع الطرق المحاسبية الواضحة. كما أن هناك استفادة كبيرة في قطاع الأعمال وذلك بزيادة الاستثمارات بسبب فتح الأسواق العالمية للصادرات السعودية وبسبب تحسن مستوى المنافسة، وذلك بحظر الإغراق ومكافحة الاحتكارات، مما يزيد من مستوى الكفاءة الاقتصادية ويقود إلى النمو الاقتصادي ويحقق التنمية المستدامة.