التديّن والبراء والولاء سمة من سمات البشرية، لكن هذه الأمور إما أن تكون سليمة صحيحة، وهو ما كان التديّن لله والولاء لشرع الله، والبراء مما نهى الله عنه ورسوله، ويكون فاسداً ونقمة على صاحبه، إذا كان الأمر مخالفاً لأمر الله ولشرعه الذي شرعه لعباده بواسطة رسوله، يقول صلى الله عليه وسلم: (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منا فهو رد) متفق عليه، أي مردود على صاحبه؛ فالدين والولاء والبراء إن كانت تعاملاً حسناً بين إنسان وإنسان، فهي في الأصل وفق شرع الله تعتبر صلة وموّدة حسنة، نافعة، وخصلة من مكارم الأخلاق التي يحبها الله.. وبين النفع والضرّ قاسم يعيد الحقيقة لما يؤصله دين الإسلام الذي لا يقبل الله من البشر ديناً سواه (وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ) (آل عمران 85). ونيّة صادقة مع الله الذي لا تخفى عليه خافية: (إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى) متفق عليه. ولئن كانت بعض المعتقدات والأديان على وجه الأرض تعطي آمالاً عريضة بأن من عمل كذا، أو قال كذا فإنه تمحى ذنوبه، ومن أدى طاعة معينة، يمليها عليه من يعتقد قداسته وعصمته، فإن خطاياه تمسح، حيث يجعلون أفراداً من البشر يحققون الغفران، نيابة عن الله، يستغلون بها عاطفة، ويستبزون بها مالاً، ممن ينطبق عليهم قوله سبحانه: (إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا)(الأحزاب 67). فإن الإسلام هو الذي يدعو إلى مكارم الأخلاق، ومنها الأمانة، ويثيب على حسن رعايتها، وتحمل ثقلها، بوفاء واحتساب من الله للأجر، وبصدق وإخلاص كما في قصة الثلاثة الذين دخلوا غاراً فنزلت صخرة سدّت بابه، ودين الإسلام بقيمه وتعاليمه، لا تقبل فيه الأعمال، إلا إذا كانت نابعة من عقيدة سليمة صحيحة، وسلامة العقيدة، هي محور العمل الحسن الصادرة من نيّة صادقة مخلصة لله سبحانه، في أداء الواجب، وأن تكون الطاعة وفق أمر الله، ومختومة بخاتم النبّوة، لأنه لا يجلو سواد السيئات، إلا الحسنات، يقول - صلى الله عليه وسلم -: (.. وأتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن). وقد حرص المصطفى - صلى الله عليه وسلم - على ترسيخ القيم الأخلاقية في أمته، وأكدها لصحابته لينقلوها للأمة تأصيلاً، وتعليماً، ومنها الأمانة التي أخبر بأنها أول ما يفقد من الدين، فيقول: (أول ما تفقدون من دينكم الأمانة، وآخر ما تفقدون الصلاة) قال أنس: ما خطبنا رسول الله إلا قال: (لا إيمان لمن لا أمانة له، ولا دين لمن لا عهد له) رواه أحمد؛ ذلك أن الأمانة ليست في الوديعة المالية فقط، وإنما هي في شئون الحياة كلها، حتى السر بين الرجل مع زوجته وأهل بيته، وحتى مع نفسه، فلا يشيع ما ستره الله من أعماله. ولئن كان بعضهم قد قصر مفهومها، فإنها في مفهومها العام، وبحسب ما تدل عليه النصوص الشرعية: في كتاب الله وسنة رسوله الكريم، أشمل من ذلك وأثقل حملاً فهي ترمز لمعان عديدة: تلتئم في شملها: بأنها إحساس الإنسان بمسئوليته عما أسند إليه، من عمل وسرّ أو خصوصية، وهذه المسئولية أمام البشر، إلا أنها أمام الله العالم بالسرّ والخفايا سبحانه، على النحو الذي أمر الله به، وحث عليه رسوله - صلى الله عليه وسلم - بمثل هذا القول الكريم: (كلكم راع ومسئول عن رعيته، فالإمام راع ومسئول عن رعيته، والرجل راع في أهله ومسئول عن رعيته، والمرأة راعية في بيت زوجها، ومسئولة عن رعيتها، والخادم راع في مال سيده ومسئول عن رعيته) رواه البخاري، وهذه الرعاية والمحافظة عليها، أعطاها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمته تشريعا، لكي يرعوها حقّ رعايتها، وإن أجمَلَ، فإن تفصيلها يندرج تحت قوله (كلكم راع ومسئول عن رعيته). فالذي يضيّع الأسرار، كبيرة أو صغيرة خاصة أو عامة، قد خان الأمانة، والموظف والمدرس وغيرهما، ممن يختلس وقت العمل، أو يقصّر في الأداء المطلوب منه قد خان الأمانة، والذي يتعاطف مع العدوّ ليعينه على أبناء أمته، ليوهن من عزائمهم، قد خان الأمانة.. وهكذا شئون الحياة: أسراراً وأموالاً وودائع، وتعليماً وبيعاً وشراءً، وتربيةً مع الأبناء، وبراً مع الآباء، ووفاءً وإخلاصاً في الحياة الزوجية. كل هذا وأكثر أمانات، فهي تعني وضع كل شيء في المكان الجدير به، فلا يستودع إلا من كان ضميره وقلبه صندوقاً مقفلاً، لا يفتح إلا لصاحب الأمانة، ولا يسند منصب إلا لصاحب الحقّ به، ولا يوضع في المكان المناسب إلا الرجل المناسب، ومن استشير أدّى حقّ الاستشارة نصحاً ووفاء وصدقاً، وان قصرت معرفته، فليطلب إسناد الأمر إلى غيره، حتى يتخلى عن تبعة الأمانة، وتبرأ ذمته. حدّث أبو ذر - رضي الله عنه - قال: (قلت يا رسول الله ألا تستعملني؟ قال: فضرب بيده على منكبي، ثم قال: يا أبا ذر إنّك ضعيف، وإنها أمانة، وإنها يوم القيامة خزي وندامة، إلا من أخذها بحقها، وأدّى الذي عليه فيها) رواه مسلم. ولذا فإن الأمانة تقضي بألا نشير أو نختار للأعمال، إلا أحسن الناس قياماً بها، على الوجه الذي شرعه الله: قدرة ذهنية، وعفّة مالية، وإخلاصاً في القلب، فإذا أشرنا بغيره ميلاً لهوى، أو عاطفة وقرابة أو غير ذلك من المبررات، فقد ارتكبنا بتنحية القادر الصدوق، وتولية العاجز الكذوب، خيانة كبيرة لقوله صلى الله عليه وسلم: (من استعمل رجلاً على عصابة، وفيهم من هو أرضى لله منه، فقد خان الله ورسوله والمؤمنين) رواه الحاكم في مستدركه. وإن من معاني الأمانة: أن يكون كل إنسان: ذكراً أو أنثى، حريصاً على أداء عمله كما هو واجب عليه كاملاً: في الوقت والنصّح وحسن الأداء، مراقباً الله في ذلك، مهما كان عمله، إذ تكبر الأمانة كلما كبرت مسئولية العمل، بدءًا من عامل النظافة إلى أرقى المسئوليات.. مع أهمية السهر في مصالح الناس وحقوقهم. ولئن تفاوتت الخيانة في الإثم والإنكار، فإن أشدّها ما يصيب المسلمين في دينهم وبلادهم من الإيذاء، ومن الأمانة ألا يستغل المرء منصبه الذي أسند إليه لجرّ منفعة شخصية؛ ذلك أن الحكومات والشركات تمنح العاملين فيها أجوراً ومرتبات، فمحاولة أخذ شيء زيادة بطرق ملتوية، فإن هذا مال حرام وخيانة. قال - صلى الله عليه وسلم -: (من استعملناه على عمل فرزقناه رزقاً، فما أخذ بعد ذلك فهو غلول) رواه أبو داود؛ لأنه اختلاس من مال الدولة، الذي ينفق في حقوق الضعفاء ولمصالح أخرى. ومن حرص الصحابة، وفهمهم الواعي، فإنهم يخافون من تبعة الأمانة، وضعف النفس عن الوفاء بحقّها، فعن عديّ بن عميرة قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: (من استعملناه على عمل فكتمنا مخيطاً فما فوق كان غلولاً، يأتي يوم القيامة به، فقام إليه رجل أسود من الأنصار، فقال: يا رسول الله أقبل عملك عنّي، قال: وما لك؟ قال: سمعتك تقول كذا وكذا.. قال: وأنا أقول الآن: من استعملناه منكم على عمل، فليجئ به بقليله وكثيره، فما أوتي منه أخذ وما نهي عنه انتهى) رواه مسلم. هذا بالمال، فما بالك بما تأتمن الدولة عليه من أسرار وممتلكات؟! إن الأمر عظيم والناس يتساهلون في هذا، وكأن العمل لخاصة نفوسهم وليس أمانة لله، وعلى كل مسلم أن يحرص عليه قبل فوات الأوان.. نرجو ذلك. غرائب المعجزات أورد ابن كثير في تاريخه، عن أنس بن مالك قال: أدركت في هذه الأمة، ثلاثاً لو كانت في بني إسرائيل لما تقاسمها الأمم. قالوا: ما هي يا أبا حمزة؟. قال: كنا في الصّفة، عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأتته امرأة مهاجرة ومعها ابن لها قد بلغ، فأضاف المرأة إلى النساء، وأضاف ابنها إلينا، فلم يلبث أن أصابه وباء المدينة، فمرض أياماً ثم قبض، فغمّضه النبي، وأمر بجهازه، فلما أردنا أن نغسّله، قال: يا أنس ائت أمه، فأعلمها؛ فأعلمتها، فجاءت حتى جلست عند قدميه، فأخذت بهما ثم قالت: اللهم إني أسلمت لك طوعاً، وخلعت الأوثان، فلا تحملني من هذه المصيبة ما لا طاقة لي بحمله. قال: فوالله ما انقضى كلامها، حتى حرّك قدميه، وألقى الثوب عن وجهه، وعاش حتى قبض الله رسوله - صلى الله عليه وسلم -، وحتى هلكت أمه، قال أنس: ثم جهّز عمر بن الخطاب جيشاً استعمل عليه العلاء بن الحضرمّي، وكنت في غزاته، فأتينا مغازينا، فوجدنا القوم قد بدروا بنا، فعفوا آثار الماء، والحرّ الشديد، فجهدنا العطش ودوابنا، وذلك يوم الجمعة، فلما مالت الشمس لغروبها، صلى بنا ركعتين، ثم مدّ يده إلى السماء، وما نرى في السماء شيئاً، قال: فوالله ما حطّ يديه حتى بعث الله ريحاً، وأنشأ سحاباً، وأفرغت حتى ملأت الغدر والشّعاب، فشربنا وسقينا ركابنا واستقينا. قال: ثم أتينا عدوّنا وقد جاوز خليجاً، في البحر إلى جزيرة، فوقف على الخليج وقال: يا عليّ يا عظيم، يا حليم يا كريم، ثم قال: اجيزوا بسم الله، قال: فأجزنا ما بلّ الماء حوافر دوابّنا، فلم نلبث إلا يسيراً، فأصبنا العدوّ... فقتلنا وأسرنا وسبينا. قال: ثم أتينا الخليج، فقال العلاء مثل مقالته السابقة، فأجزنا هذا الخليج، ما يبلّ الماء، حوافر دوابنا، ثم ذكرت موت العلاء - رضي الله عنه -، ودفنهم إياه في أرض لا تقبل الموتى، ثم أنهم حفروا عليه، لينقلوه منها إلى غيرها، فلم يجدوه ثمَّ، وإذا اللحّد يتلألأ نوراً، فأعادوا التراب عليه، ثم ارتحلوا، فهذا السّياق أتمّ (البداية والنهاية 6: 318 - 319).