اتفق النقاد الفنيون منذ أن عرف الإنسان النقد الفني على أن العمل الفني المشوش - إذا جاز تسمية التشويش فنا - لا يعتد به من وجهة النظر الأخلاقية بله الاجتماعية والأدب حصيلة اجتماعية فلا بد للفنان أن يسعى جاهدا إلى إرضاء الذوق ذوق المتلقين للفنان لا ذوقه الخاص - فهو فرد في جماعة - وأن يعمل على تهذيب النفوس بجعل الفضيلة فاضلة ومحببة والرذيلة مرذولة مرفوضة. فالأعمال الفنية في المدى البعيد هي عروض خارجية لمدركات عقلية يؤديها كل فنان بأداته الفنية الخاصة. وإذا كنت سأتحدث عن الشعر والشعر الجدير بهذا الاسم فإني لا أملك إلا أن أردد مع عمالقة الشعراء في كل العصور بأن الشعر الخالد الجدير بالإنشاد هو الشعر الذي ينطبق عليه شعار «الشعر هو المطية الممتازة للفكرة» وأما الشعر الحر فهو مطية الشيطان. وليسمح لي القارئ بالعودة إلى الوراء البعيد قبل الدخول في الموضوع لنرى هل تقوم الشعر العربي فعلا على يد رواده الأحرار وأنه يعيش في عصره الذهبي كما يزعم بعضهم أو أنه لا يزال مشدودا بعصور الانحطاط الأدبي - وإن كان ينتعش يوما ما، تكاد استعادة القدس على يد صلاح الدين يوسف الأيوبي تكون آخر أكبر حدث هز الشاعرية العربية هزة عظيمة دفعت بالشعر دفعة قوية ولكنها ما كادت تعلو حتى هوت، وكانت أشبه بصحوة الموت. فبعد وفاة صلاح الدين وانقسام الدولة الأيوبية بين إخوته وأبنائه وقادته ومماليكه مات الشعر العربي الجزل القومي، أو ضعف ضعفا جعله عاجزا عن أداء ما كان يؤديه إلى حس القارئ ووجدانه، أو قل إن القارئ نفسه في أحيان كثيرة كان حسه ووجدانه قد انحط وتدنى، فكان يعد ما يقرضه القارضون ويلفقه الناظمون شعرا ما بعده شعر. فلو تطوع دارس جاد وتتبع الشعر الذي قيل في عهد صلاح الدين وخاصة إبان تجميعه للقوى الإسلامية لاسترداد القدس السليب لوضع بين أيدينا شعرا جادا هادفا خصباً أنتجته قرائح الشعراء في مصر والشام والأندلس واليمن والحجاز. أما أن الأدب العربي والشعر منه بنوع خاص قد واكب الانحطاط من أواخر القرن السادس الهجري إلى بداية العصر الحديث عندما بدأ ينتعش وتسري الحياة فيه فيكفي أن نرجع إلى دواوين الشعراء في عصور الانحطاط لندرك مدى صحة ذلك. وإذا اتخذ بعض النقاد شيوع ذلك الشعر وإقبال الناس على قراءته واحتذائه في القريض دليلا على حيوية الشعر فسنرد عليهم بأن الشهرة والانتشار ليستا دليلاً على الحياة. فالوباء أيضاً ينتشر ويقتل الآلاف والملايين كما انتشر هذا المذهب الحر في الغرب ثم قلده الشرق المغلوب على أمره، فمزية الشيوع ليست من مزايا الاتقان والارتفاع كما يقول المرحوم العقاد. فخذ شعر القاضي الفاضل وديوان البهاء زهير أو ابن نباتة المصري أو كمال الدين بن النبيه أو الحسن الجزار أو جمال الدين بن مطروح أو فخر الدين بن مكانس أو الوأواء الدمشقي أو صفي الدين الحلي أو عبدالله بن أبي الشيعي أو ابن عنين أو من شئت ممن كان يعد من أئمة الشعر يومذاك فستجد أن شعرهم مع ضعف مبناه وانحطاط معناه قد تقاسمته أغراض شعرية ممعنة في الإسفاف فجل شعرهم يدور حول التغزل بالملاح من الجنسين. فهذا شعر في مؤذن مليح وذاك شعر في فقير مليح، وثالث ينظم شعره في مغن مليح، وكاتب مليح وصيرفي مليح وبائع فراء مليح. وإمعانا في الإسفاف نجد شعرا في حبشي مليح وأرمد مليح وأعرج مليح ومليح أعمى وأصم وأبكم وأقرع. ثم إذا ملت نفسك من هذه الملاحة المبتذلة الرخيصة وأردت موضوعا آخر وجدت شعرهم طافحاً بالكدية والاستجداء، فهذا يستجدي شعيرا لحماره وآخر يطلب براية لأقلامه، وثالث يطلب خيطا ليرفو جبته العتيقة ورابع يرجو الأعيان والمحسنين أن لا ينسوا نصيبه من ميراثهم وخامس يطلب مركوبا جديدا لأن نعليه قد بليتا من التردد على باب مخدومه. وظلت كلمة الأدب وتعريف الأديب ورسالته غامضة في أذهان الناس مع وضوحها حتى رأينا كاتباً كأحمد لطفي السيد يتحدث عن مفهوم الأدب في أوائل هذا القرن العشرين فنراه عاجزاً عن أن يحدد كلمة الأدب ورسالة الأديب العربي. يقول المرحوم أحمد لطفي السيد عند حديثه عن كتاب «تاريخ الأدب العربي» للأستاذ الكبير المرحوم مصطفى صادق الرافعي: « لا يزال المعنى المدلول عليه بالأدب معنى شائعاً غير محدود الجهات حدا واضحا في الأذهان بل إن هذا المعنى تأخذ منه النفس صورة لا تزال مبهمة حتى يأتيها المثل الجزئي فيحددها تحديداً ما. فإذا قرأت قطعة من الشعر في الغزل أو في الوصف أو في الانتقاد، قلت إن هذه القطعة من الأدب. كذلك إذا وقفت على ما قاله من النثر في غير موضوع العلوم الدراسية البحتة، روعي في كتابتها الفصاحة والبلاغة وقواعد اللغة الصحيحة، قلت إنها قطعة من الأدب. فإذا وقع لك كتاب في التاريخ أو في الإرشاد مهما كان مساسه باللاهوت فذلك من الأدب أيضاً. إلى أن يقول: «نعم.. الذي قرأ بامعان ما نسميه عادة كتب الأدب، واستظهر بعض القصائد واستطاع أن يقول عن فكرة بعينها لأحد الكتاب أنها فكرة ساقطة، أو عن تركيب لغوي إنه تركيب سمح.. الخ هذا هو الأديب.. لذلك نجد المزاحمة على لقب «أديب» أكثر من المزاحمة على أي لقب من الألقاب العلمية الأخرى كالطبيب والمهندس والمحامي.. الخ». على أني أستميح القارئ عذراً لأن إيراد حديث المرحوم أحمد لطفي السيد فيه سبق لحوادث التطور الأدبي قليلاً فمعذرة. وعندما أذن الله للشعر العربي أن يبعث من مرقده في العصر الحديث، وجاء بعض الشعراء لا لمتابعة مناهج الغربيين في فنون القول وإن كانوا قد ألموا بها يومذاك أكثر من أحرار اليوم بل للرجوع إلى المنابع الشعرية العربية الأولى المصفاة. فظهر البارودي العملاق وتلاه شوقي وحافظ ومطران وايليا أبو ماضي والجارم وغيرهم من كبار الشعراء العرب في كل مكان. ولكن ألم يكن ظن النقاد العرب الحديثين قد ساء بموازين ومقاييس وأشكال ومضامين الشعر العربي خلال أكثر من ثمانية قرون، إذن فليضربوا بالشعر العربي كله عرض الحائط. وكان بعض النقاد الأدبيين العرب أشبه ما يكونون بمصلح ديني جاء ليخرج الناس من ظلمات الجهالة والتخبط فبدلا من أن يعود بهم أو يعود بالدين إلى المنابع الأولى الصافية النقية، ويخلص الجوهر مما علق من الأعراض والأغراض التي تراكمت عليه حتى طمس معالمه النيرة، يطالب بهدم الدين كله وبناء دين جيد، وأرى بعض نقادنا قد هدم أصولنا الشعرية القديمة فعلا ولم يستطع إقامة حتى أساس لشعر جديد. وما هذه الدعوى التي بدأت ترتفع منذ فجر هذا القرن منادية بأطراح الأوزان والقوافي العربية الشعرية القديمة، وأخذ مناهج الغربيين في فن القريض بدعوى عدم صلاحية الأوزان القديمة بما فيها من قيود تارة وبحجة العصرية ومسايرة روح العصر الحديث تارة أخرى، وبدليل الثورية الشعرية البلهاء ثالثة، وإطلاق الحرية لمن شاء أن يقول ما شاء وكيف شاء رغم أنف الأوزان والقوافي والبحور ورغم أنف الفراهيدي وكل عروضي الشعر وأنصارهم بدعوى أن مقاييس الشعر العمودي كانت نتيجة استقراء الأشعار العربية قام بها عالم من علماء القرن الثاني للهجرة، وإن الأذن التي تستسيغ ذلك الشعر أذن وليدة حضارة الصحراء العربية في الجاهلية وصدر الإسلام بكل ما لها من ملامح وخصائص كما يقول الطاهر الهمامي في الملحق الثقافي الأسبوعي الذي يصدر عن جريدة العمل التونسية وبحجة أن المقاييس القديمة قد بليت ولم تعد صالحة لعصر الصواريخ وغزو الفضاء. كل هذه الحجج إن هي إلا دعوة إلى انحطاط الشعر العربي وهي حجج نابعة من عقدة الأفرنجي برنجي، كما هي عودة إلى البحث عن حجر الفلاسفة الوهمي الذي يحول المعدن الرخيص إلى ذهب. ومن المضحكات المبكيات أن الغربيين أنفسهم الذين اتخذهم البعض إماما لا يرضى الكثير منهم عن هذا الشعر الذي ينظم في لغتهم وهم أربابه ولا يعدلون بالشعر الكلاسيكي القديم شيئاً.. فهذا مثلاً المستشرق الفرنسي شارك بيلا وهو يعد اليوم من أكثر المهتمين بالدراسات الشعرية العربية يقول: أنا لا أهتم بالأدب الفرنسي ا لحديث فضلا عن الاهتمام بالشعر العربي الحديث الذي هو ليس إلا أدباً منقولا ومقلداً للآداب الأجنبية، وحتى هذه الآداب الأجنبية في تطرفها الجديد وبأساليبها المستحدثة لا تعجبني ولا تشدني إليها، فما قولك فيمن ينسخ عنها وفيمن يقلد اتجاهاتها، وقد تألمت لظاهرة جديدة لاحظتها في بعض البلدان العربية تتمثل في أن جميع الناس يريدون مسك القلم والكتابة. ويأتي بعض من ابتلي بهم النقد الأدبي عندنا ليقول: لا تهاجموا الشعر الحر والشعراء الأحرار ، فقد تقرر هذا المذهب الشعري الرائع مبروك ولا فائدة من مقاومته. أسد الرخام وإن حكى في شكله شكل الغضنفر ليس بالفراس