وقف في وسط شارع يكتظ بالناس وبدأ يتكلم بصوت مرتفع، كان يردد مقاطع من مسرحيات عالمية، وأشعاراً، ومقطوعات نثرية، تكونت حوله حلقة من رجال ونساء مستغربين تصرفه هذا، كانوا يستمعون لما يقوله، ولكنهم غالباً لا يفهمون شيئاً، لم يفهموا ما الأمر، وماذا يريد، صوته لا يصلح لأن يغني، وكذلك أن يمثّل، لكن لديه قدرة الحفظ، يحفظ مقاطع طويلة من أشعار، وروايات وبالطبع نصوصاً مسرحية، بعضهم يعرف الكلمات التي تخرج من فمه، ولكن بعضها قد يحتاج إلى ثقافة عالية قليلاً، أغلبهم لم يفهموا كلمة «الحوذي» ولا كلمة « السندان» و لا «الطرائد» على الرغم من أنها كلمات جميلة، وقد تكون مفهومة خلال السياق. هل اختار مكاناً وزماناً غير مناسبين، ليتحدث أو بالأصح ليتقمص شخصية تاريخية من القرون الوسطى الأوربية، أحياناً، ومن العصر الجاهلي العربي، أو من الزمن المعاصر، ويؤدي بصورة شبه مسرحية، هو لم يمثل ولم يتحرك، بل وقف وسط الشارع المخصص للمشاة وبدأ يتكلم بصوت مرتفع، كأنه تلميذ نجيب يسمّع لأستاذه مقطعاً من عيون الشعر والنثر الأدبي العربي، كل من يتابعه وهو يتكلم بصوت مرتفع يبحث عن خيط يمسك به ليتواصل معه، يناقشه، ولكن ذلك الرجل حرص على أن يحيط نفسه بتلك الخيوط حتى لا يصل إليه أحد، كأنه ملاكم وحيد على حلبة ملاكمة، ولكن الملاكم قد يتحرك.. يتمرن.. يظهر عضلاته للجمهور.. يحفزهم للتصفيق، ولكن ذلك الرجل فقط يتكلم بصوت مرتفع. الشارع وتحديداً الرصيف الذي يقف عليه ذلك الرجل في قلب مدينة كبيرة صاخبة، صخب يحيط بالجميع، أصوات أبواق السيارات، وأحاديث المشاة المختلفة، ومنبهات الهواتف المحمولة، أصوات وقع أقدام الناس على الأرض، صوت موسيقى صاخبة من نافذة بيت مطل على الشارع، وعلى الرغم من ذلك يواصل الرجل إلقاءه لذلك الكلام الذي جمعه من كتب مختلفة، لا رابط بينها، ولكن أحيانا تكون ضمن سياق معقول، لتجعل أحد المارة يتوقف، ليسمع النهاية فيجد أن كلامه لا نهاية له، فيشعر بالإحباط قليلا، ويفكر ذلك الرجل الذي قرر الوقوف والاستماع، أن يقول له «رجاء.. لا تنتقل من مقطع إلى مقطع آخر دون أن تستكمله»، ولكن يشعر أن ذلك الرجل الواقف على الرصيف والذى جعل الناس يتحلقون حوله عندما رفع صوته القريب من النشاز ليقول مقاطع جميلة حفظها من كتب إبداعية مختلفة، لا يعي مطلقاً أن ما يقوله من كلمات غير مكتملة، توقع البعض إنه في ممارسته تلك يقلد بعض الرجال والنساء في بعض المدن العالمية الذين يقفون على الرصيف في شوارع المشاة أو محطات النقل المختلفة ويقومون بالعزف أو الغناء لقاء مبالغ بسيطة، لذا بادر أحد المشاة بالاقتراب منه ووضع بالقرب من قدميه عملة معدنية وتبعه الآخرون، لم يتوقف ويشكرهم، بل واصل مشروعه الخطابي الإلقائي شبه المسرحي. الكلمات التي يقولها قد تكون مغرية لشد الانتباه، ولكن بم أن المقاطع غير مكتملة فلن تصل للآخرين، يتوقف أحد المهمومين بالمسرح أمامه ويسمعه يقول « ما يهمني أيضاً هو أن تفهم أنت كذلك. وإذا كنت تراني أشتغل وبدلا من دفع المبالغ المستحقة لبائع اللبن، أشتري هذه الكتب الغالية الثمن، فذلك من أجل أن يفهم الناس» ويتذكر ذلك المسرحي المهموم أن المقطع من مسرحية حياة جالليو لبريخت، ولكن لا يكمل الحوار بل ينتقل لمقولة أخرى لم يسمع بها من قبل، ويقولها أمام الناس، يفكر عالم نفس كان من ضمن الواقفين يستمعون لما يقول أن الرجل حرص على جذب الانتباه له هو يعاني من مجموعة عقد ربما من أهمها التهميش، هو يعتقد أنه نكره، لذا لابد أن يلفت انتباه الناس، ويقول أنه موجود ومختلف، ولديه ثقافة قد لا تكون لدى الآخرين، وأن لديه ملكة الحفظ، وهذا أمر مهم أيضاً، ولكن للأسف حفظ غير مكتمل، هو يحفظ مقاطع متفرقة، وليست نصوصاً كاملة، إضافة إلى ذلك أنه لا يحسن الفرز والتصنيف وربط المقاطع وإلا ما علاقة ما قاله جالليو ببيتين من أشعار عمرو بن كلثوم، كمثال، أحد الخبثاء والذين يعلقون على الظواهر الغريبة بسخرية قد تكون حادة، قال لصديق كان يقف معه وهو يستمع لذلك الرجل، فبعد ابتسامة فيها كثير من المكر « أتعرف بماذا يذكرني هذا الرجل الذي يقول تلك المقاطع المبتورة، والمختلفة» لم ينتظر إجابة صديقه بل قال مباشرة،» إن هذا الرجل يذكرني ببعض الحسابات في مواقع التواصل الاجتماعية وبالذات الواتسآب، رجل آخر قال « دعوه يتحدث بصوت مرتفع ولو كانت الكلمات التي يتحدث بها لا رابط بينها ولكنه يحاول أن يتفوق صوت الإنسان على صوت الجماد» بدأ الناس فعلا يشعرون بالصخب حولهم و يسمعون أصوات أبواق السيارات، ومحركاتها، وصرير الإطارات، و وقع أقدام الناس، وأصوات الهواتف المحمولة، وذلك الكلام غير المفهوم الذي يصدر من الناس أثناء حديثهم، ولكن هل سينقي صوته ذلك الصخب، هل الكلمات قادرة على بث الجمال في المكان، بالذات حوله على ذلك الرص يف، ربما يقول أحدهم «توقف كفى إزعاجاً، وحتما من سيقول ذلك لا يستمع للكلمات التي يقولها، ولا يعنيه مطلقاً مدى جماليتها، هو يستسلم لصخب الجماد، ويسعده ذلك، و لا يعي مطلقاً أن الصوت الجميل ينتزعه من عالم الكآبة، ولكن ذلك الرجل لا يمتلك صوتاً جميلا، هو يحاول أن يستعيض عن ذلك بالكلمات، كأنه يقول « أقدم لكم نماذج مما أبدعه من اتل موقعاً بالتراث الفكري والعلمي والإبداعي، هي ثروة كبيرة حافظوا عليها»، هل ستنْفد كلماته ويغادر مكانه ويلتزم الصمت، لن تنفد الكلمات مطلقاً، ولكنه بكل تأكيد سيتوقف ويلتزم الصمت عندما يعلم أن من يفهمه قليلون جداً، لأنه اختار المكان والزمان غير الصحيح، ونسي أن أغلب من يقف مستمعاً لما يقول لا يفهمه لأنه لا يفقه لغته.