في المملكة كما قرأت مؤخرا؛ أكثر من سبعين ألف خطيب جمعة، والبعض من هؤلاء كما نعرف جيدا؛ مازال يعتقد ان طالبان مازالت تحكم أفغانستان، وان عناصر القاعدة؛ تزحف على المدن الأمريكية، فهو يدعو بالنصر لحكومة بائدة، وبالظفر لمجاهدين سوف يفتحون أمريكا على جسور من جماجم الأبرياء.. .. كان الأدب؛ بمعنى (الخلق المهذب)؛ سمة العالم والمتعلم معاً في أوج الحضارة الإسلامية؛ وكان هدفاً تربوياً عند المسلمين القدامى خاصتهم وعامتهم؛ فكان الخلفاء والوجهاء في تلك الحقب؛ يأتون لأولادهم وبناتهم ب (مؤدبين) لا معلمين ولا مدرسين يؤدبونهم، أي يهذبون أخلاقهم، ويقومون سلوكهم من خلال المعارف والعلوم النافعة؛ التي لا تتوقف عند العلوم الشرعية؛ ولكنها تشمل العلوم الإنسانية والحياتية، التي عرفها العرب والمسلمون في عصورهم، مثل اللغة والشعر والكتابة على سبيل المثال، أو تلك التي اقتبسوها من أمم سبقتهم فارسية أو رومية، ومنها علوم المنطق والفلك، والجغرافيا والموسيقى وغيرها. .. كان المعلم هو المؤدب، وكان المتعلم هو المتأدب، وكان مدار التعليم التأديب وفق هذه المعادلة؛ هو تخريج جيل منسجم مع نفسه، يحسن العيش بصفاء وحب وسلام في وسطه، ويعرف كيف يتعامل مع محيطه، ويحترم الطرف الآخر أيا كان، ويكون نداً له إن شاء؛ ولكن وفق ضوابط أخلاقية وإنسانية، قوامها الاحترام والتقدير؛ والمجادلة بالحسنى. .. كانت هذه طريقتهم في التربية والتعليم، وكان هذا دأبهم في (التأديب والتهذيب)، منذ عصر الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين، فكان علي بن أبي طالب كرم الله وجهه يقول: (كفى لنفسك أدباً؛ تجنبك ماكرهته لغيرك) ويقول: (الأدب لقاح العقل، وذكاء القلب، وعنوان الفضل) ثم يقول: (غاية الأدب؛ أن يستحي الإنسان من نفسه)..! .. ان يستحي الإنسان من نفسه..! فلا يستحي من نفسه إلا من كان ذا أدب؛ (لقح به عقله، وذكا به قلبه، وعلا به فضله). ولا يعلو فضل المرء ويستحي من نفسه؛ حتى يكون له أدب، (يجنبه ما يكره لغيره). .. الأدب إذن؛ هو مدار التربية والتعليم في النشء منذ الصغر؛ لكن.. أين هو من التناول الثقافي؛ ومن المناهج التعليمية؛ ومن طرق التعليم المتبعة..؟ انظروا إلى مقابساتنا الثقافية، وخطبنا المنبرية؛ في المنتديات والجمع، وحواراتنا المكتوبة والمتلفزة، ومايدور في انتخابات الغرف التجارية.. هل نرى اثرا لأدب..؟ إن (التأديب) بالمعنى الأخلاقي الرفيع؛ الذي كان يحرص عليه الأوائل؛ يكاد يكون مفقودا، لأن هؤلاء المتحاورين والمتناقشين؛ قد يتفقون، ولكنهم حين يختلفون في مسألة ما، سرعان ما يشتبكون ويعتركون، ثم يجهد كل طرف، في كيل التهم والسباب للطرف الآخر. هذا هو غراس المناهج التعليمية، وهؤلاء هم نتاج الطرق المتبعة في التعليم، وهم بطبيعة الحال؛ تلامذة الطرح الثقافي الممارس؛ أو الخطاب الإسلامي المتبع يحدث الاختلاف؛ فيقع الافتراق. لأن أداة المواءمة بين طرفين مختلفين مفقودة. تلك بداية لابد منها؛ لتصوير مدى الحاجة إلى المراجعة.. مراجعة ما نقرأ ومانرى وما نسمع وما نكتب.. وما نفعل.. مراجعة كل شيء، والبحث بتجرد؛ عن أمور ان فقدناها؛ فقدنا معها المصداقية التي نروم في القول والعمل. .. إن أول باحث سعودي تطرق إلى مسألة (الأدب المفقود في الخلاف)؛ هو اليوم على رأس مجلس الشورى في المملكة، والمواطنون في هذه البلاد؛ لاشك انهم يتطلعون إلى ان يولي المجلس؛ عناية كافية بمسألة الاحتقان الذي يعاني منها الخطاب العام بشقيه (الثقافي والإسلامي)، لأن مبدأ الأدب في المسائل الخلافية مغيب فيما يبدو، ولأن السلوك العام عند كثير من المنظرين في الساحة، هو تحقير وتسفيه المخالفين، ثم العمل على إقصائهم بأدوات متنوعة منها (الأصل، أو الجنس، أو الانتماء والهوية، أو الدين). .. إن معالي الدكتور صالح بن عبدالله بن حميد، رئيس مجلس الشورى وصل إلى المجلس بالفكر النير الذي نعرفه عنه، ومنه تبنيه لقضية تأصيل (أدب الخلاف) في الساحة وكتابه الفريد الذي حمل نفس العنوان، هو أهم طرح جاد متزن، يؤطر لقضية تمس الفكر بعد عاصفة الصحراء عام 1991م، وقبل عاصفة نيويورك عام 2001م، فهو يعالج مرضا عضالا ما زلنا نعاني منه، ويفتك بعقولنا منذ العاصفة الأولى حتى الثانية، وحتى هذا اليوم. وفي الصفحة السادسة من الكتاب؛ يضع المؤلف اصبعه على الجرح النازف فيقول: (... وفي الناس من هو ذو فكر محصور، وإدراك ضيق، وعلم قليل، تختل عنده الموازين، وتختلط لديه الأولويات، قد ينحدر في التعصب المقيت، والانحياز المذموم لرأي عالم أو فئة. يوجد من يغل في النقد، ويشتط في الجدل، حتى يدخل في الغيبة والتجريح، وتتبع الزلات والعثرات، من غير فقه في واجب النصح، وحسن الظن، ومعرفة بأقدار الرجال). .. عرفت صاحب (أدب الخلاف)، قبل ذلك من خلال كتابه القيم (رفع الحرج في الشريعة الإسلامية)، فقد جاء الكتاب في أبوابه وفصوله المتعددة؛ عاكساً صورة (وسطية الإسلام) وسماحته، في غير عنت ولا مشقة يريدها الله بعباده، كما يرسمها بعض المتصدين لتفسير الأحكام الفقهية في العبادات والمعاملات، متشبثين بأحكام (منفردة) في المسائل الخلافية. أو ساعين إلى العبث، من خلال فتاوٍ ضعيفة، متطاولين على من هم أعلم منهم. وكثير من هؤلاء؛ يجهد في هذا العبث على طريقة خالف تعرف... إن بعضنا بكل أسف يمارس لعبة استعداء العالم ضدنا، بجهل أو بغباء ، عن قصد أو غير قصد، ومهمة مجلس الشورى في هذه المرحلة، دراسة أفعال كهذه غير مسؤولة، ووضع حلول عاجلة لها، لأنه من غير المعقول ولا المقبول؛ ان نبعث بالوفود السعودية إلى آخر الدنيا؛ للدفاع عن قضايانا، ورد التهم الموجهة ضدنا، ويمارس البعض في الداخل؛ عبر الشبكة أو عبر مايكتب وينشر؛ وعبر مكبرات الصوت المسموعة اليوم في كل أرجاء الدنيا؛ تأكيد هذه التهم؛ وتعزيز الدعاوى ضد بلدنا وضد شعبنا. .. في المملكة كما قرأت مؤخرا؛ أكثر من سبعين ألف خطيب جمعة، والبعض من هؤلاء كما نعرف جيدا؛ مازال يعتقد ان طالبان مازالت تحكم أفغانستان، وان عناصر القاعدة؛ تزحف على المدن الأمريكية، فهو يدعو بالنصر لحكومة بائدة، وبالظفر لمجاهدين سوف يفتحون أمريكا على جسور من جماجم الأبرياء، ويتناسى في ذات الوقت الدعاء لولي الأمر، ولحكومة بلده التي وفرت له الأمن والوظيفة والعيش الرغيد، وأمدته بمخصص شهري مقابل اعتلاء هذا المنبر..! ولو توقف الأمر عند هذا الحد؛ لقلنا: هذا رأيه وهذا مبلغ علمه، وفوق كل ذي علم عليم، ولكن الرغبة في الشحن النفسي؛ وتأصيل العداء ضد الآخر؛ أصبحت عند بعضهم على مايبدو؛ من أساسيات الخطاب المنبري، فهو يدعو ربه كل اسبوع؛ ان يسقط طائراتهم، ويغرق سفنهم، ويحرق زرعهم، ويجفف ضرعهم، ويوقف نسلهم، وييتم أطفالهم، ويرمل نساءهم، ويمكنه منهن سبايا)..! أليس في هذا اعتراض على مشيئة الله في الخلق، وتوزيع الأرزاق بين العباد.. وهل نحن (حقيقة) بهذه الشهوة العارمة؛ التي تجعلنا نطلب سبي مئات الملايين من نساء العالم..! .. هلا انتظرنا، فلا نجهر بهذه الأماني العدائية؛ حتى نتمكن من القوة التي تدفع عنا ردود أفعالنا تجاه الآخرين..؟ حتى نصنع بأيدينا طائراتنا، وبواخرنا، وصواريخنا، ومدافعنا.. بل.. نصنع غذاءنا ولباسنا ودواءنا.. بل نصنع الميكرفون الذي نقذف من خلاله هذه الحمم العدائية، والنظارة التي نستعين بواسطتها على قراءة مانكتب من أدعية؛ ضد أعدائنا، البعيد منهم والقريب..؟! إن قضايانا يا سادة، لاتنحصر في فهم خاطئ عند البعض، أو تفسيرات منحرفة ومتطرفة عند البعض الآخر، لكن الأساليب المتبعة في الطرح والتناول، عاجزة عن تصحيح المفاهيم الخاطئة، والتفسيرات الباطلة، بل.. وتسيء إلينا في الداخل والخارج. إن رئيس مجلس ا لشورى صاحب نهج (أدب الخلاف)، مطالب من موقعه في الشورى بترسيخ هذا النهج في العمل الشوري، والتناول السريع لقضية الخلاف على المستويين الداخلي والخارجي، واخضاعها ل (التأدب) المتوجب، حتى نكون أمة وسطا، كما أمرنا ديننا بذلك فلا نبغي على أحد، ولا نستعدي علينا أحدا في هذا الكون. .. إن هداية الخلق إلى الحق، لاتتم بالتنفير والتحقير والتكفير، لكنها يمكن ان تتم بالتوقير والاحترام المتبادل. [email protected]