القرض والسلف والدَّيْن، مصطلحات متساوية في دلالتها اللغوية، إلا أن بعضها أخص من بعض في الدلالة العلمية (كالقانونية أو الفقهية أو البلاغية). فالقرض هو السلف هو الدَّيْن في عموم دلالات كلام العرب، أما المعاني الدقيقة لها في أبوابها الفقهية الخاصة بها فيتفاوت تفاوتاً بعيداً. فالسلف في معناه الفقهي الدقيق هو السلم لقوله عليه السلام في سياق التشريع: «من أسلف في شيء فليسلف في شيء معلوم». والقرض في معناه الفقهي هو عقد يجب أن يكون من عقود التبرعات، نيةً أو عرفا أو بدلالة الحال. لقوله جل سبحانه: {مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً}. وأما الدَّيْن فهو معنى شامل في دلالته اللغوية يتلبس بمعنى اللفظ الخاص بملابسة حاله. فالدَّيْن يُدخل كل معنى يدل على ما في الذمة للغير تحت معناه، حتى المعروف والوفاء بالعهود والوعود. (ومعنى ما في الذمة للغير: أي ما للأخرين من حق لشخص على آخر لم يوفيه). ولهذا، فالمُثمن المُؤجل هو دين في بيع السلم. والعارية والقرض ديْن كذلك. والثمن المُتبقي في الذمة ولم يُسدد، من بيع تقسيط أو بيع أجل هو ديْن كذلك. وقيام الجندي بخفارة ساعة عن زميله، قد تكون منحة أو هدية، أوقد تكون دَيّْنا كذلك. فإن كانت دين فالعوض هو لازم تابع من كونه دينا. وديْن خفارة الساعة هذه، قد يكون في معناه الفقهي ، قرضا أو عارية أو سلما أو بيع أجل أو تقسيط، تماما كما لو كانت الخفارة سلعة أو نقدا. فكل ما يتعلق بالذمة من مُستحقات للآخرين تتطلب عوضها، ولم تؤدَّ فهي دَّيْن. وبما أن الزمن إذا داخل المعاملة التبادلية جعلها دينا، فالزمن إذا، هو السبب المُسببُ للدين. وللزمن قيمة في ذاته عند الإنسان في نفسه غالبا، وفي ماله دائما. والغلبة دون الحتمية في وجود قيمة للزمن في الإنسان ذاته، كون حقيقة حياته قد تنقطع بجنون أو ضياع، ومع ذلك لا يزال يُعد إنسانا. وأما كون حتمية وجود قيمة للزمن في ذاته في الأموال دائما، فلأن النفع والاستفادة المتكررة للمال شرط لازم لكون الشيء مالا، سلعة كان أم نقدا. وعدم الشرط عدم للمشروط، فلا يُعد مالا ما لا يُنتفع منه. وبما أن الزمن هو سببٌ لتكرار منفعة مال بعينه، فزمن السلعة أو النقد إذا، له قيمة وله ثمن في ذاته. فانقطاع الزمن -بإعطائها للغير- انقطاع للمنفعة. وتُقيم قيمة زمن المال، بمقدرة المال على الإنتاجية بذاته أو بغيره. تماما، كما تُقيم حياة الإنسان بإنجازاته ضمن ظروفه المحيطة به. وذكري لعبارة « ظروفه المحيطة به» يقودنا إلى أن هناك متعلقات تتعلق بقيمة الزمن، فتزيد من قيمة الزمن أو تخفضها. فعلى هذا فللزمن قيمتان، قيمة في ذاته وقيمة في متعلقاته. وإن كان الزمن سبب الدَّيْن، فإن التجارة هي أداة تنفيذ الدَّيْن الذي يتحقق به الدين. فالتجارة تشمل أي معاملات تعاوضية، فأي شيء ليس تعاوضي فهو منحة أو هدية. وتنقسم تجارة الدَّيْن إلى قسمين. الأول: التجارة في الدَّيْن ذاته. كتمويلات البنوك وكجانب الزيادة عن الثمن الحاضر، في أثمان بيوع السلم والتقسيط والأجل. والقسم الثاني: التجارة بالدَّيْن كوسيلة لغيره، كالتوسل بالدين لتسويق السلعة. مثل بيع الأجل والتقسيط بسعر السلعة الحاضر، أو كالتوسل بالدين للوصول لابتغاء مرضاة الله كالقرض والعارية والإحسان في الصبر على تسديد قيمة السلعة. فتمويلات البنوك مثلا، سواء أكانت نقدا أو بالسلع، هي تجارة بالزمن، تشتري ديونا قصيرة الأجل وتبيعها أغلى، ديونا طويلة الأجل. وما النقد أو السلع إلا وعاء المعاملة التبادلية البنكية التي غرضها تجارة الديون أو التجارة بالزمن. وبما أن الزمن هو سبب الدَّيْن، فأرباح ديون البنوك تتبع قيمة الزمن وقيمة متعلقاته. ولذا فالفائدة أو هامش الربح في التمويلات مكون من جزئين. الأول: فارق قيمة الزمن ذاته بين الدين القصير الأجل، والدين الطويل الأجل. وهي قيمة تعطيل الاستفادة من المال بين الزمانين، والتي ُتقاس بمنحنى السايبر مثلا. والجزء الثاني هو قيمة المخاطرة، أي متعلقات الزمن. وهي قيمة المتغيرات التي قد يأتي بها طول الزمن، كفساد الرهن المُمَول أو فساد ائتمانية الشخص المُمَول. وهذا الجزء الثاني من الأرباح هو مفهوم التأمين صورة وجوهرا وحقيقة. فالبنوك تحتسب مخاطر خسارة المشروع وإفلاس العميل على مجموعة كبيرة من المتمولين، فتأخذ من كل مُتَمَول ما يساوي مقدار مخاطرته ومخاطرة مشروعه، دون أن تقع المخاطرة حقيقة إلا على متمولين قلة. وهذه هي فلسفة التأمين الاقتصادية ونتيجته الرياضية، التي مؤداها تقليل المخاطرة بتجميع احتماليات وقوعها وتوجيها لمن تحققت فيه المخاطرة. فعلى هذا، فعمل البنوك هو جمعٌ يجمع بين تجارة الدَّيْن وتجارة التأمين في عمل واحد، وهو التمويل. وجانب التجارة يُلزم البنوك قبول الخسارة، كما يُمكنُها من الربح. وجانب التأمين يلزم البنوك تحمل قيمة ما قبضته من المؤمن عليه، عند تحقق المخاطرة. فبأي حق شرعي أو عقلي تُمَكنُ البنوك من سجن المدين أو تُمكن من الاستيلاء على أي من أملاكه، التي لم يكن التمويل هو أصل الملكية لها ومرتهن بها. وهذا بخلاف حال المُقرض. فالمُقرض تكفيه الخسارة الدنيوية لقيمة الزمن في ماله دون قصد منه لربح دنيوي. فلا تُجمع عليه خسارات ثلاث. خسارة المال، وخسارة قيمة زمن ماله، وخسارة قيمة متعلقات الزمن المالية (أي المخاطر، فالخوف من ضياع ماله، له ثمن). فلهذا فالمماطلة في دين القرض ظلم واعتداء، وجحود ولؤم ونكران جميل. فللدائن المُقرض الحق أن يرجع على المدين في كل ماله وفي حريته كذلك. ولا يزال الدائن المقرض مشكور على معروفه ولا يلام على تحصيل دينه. وأما في حال اتخاذ الدين وسيلة لتصريف البضاعة وتسويق السلعة، فهذه ليست متاجرة بالدَّيْن ذاته، ولكن في اتخاذ الدَّيْن وسيلة تسويقية لبضاعته التي لم يجد لها من يدفع قيمتها حاضرا فاضطر لبيع الأجل. فالأصل في السلعة هو البيع حاضرا، والاستثناء هو البيع بالأجل وبالتقسيط . وهذا القسم لا له ولاعليه، فهو في منزلة بين المنزلتين، بين المُقرض وبين المُمول (البنك). فإنما هو قدم الدين بالأجل لتحصيل منفعة له، كتصريف بضاعته. فهذا القسم أحواله كثيرة، يُنظر فيها بحسب بعدها وقربها في المنزلة بين عمل البنك وعمل الإقراض. فالحد الضابط في معاملته كالبنك. فإن احتوت قيمة الأجل لقيمة الزمن و قيمة احتمالية مخاطرة الإفلاس، ففي هذه الحالة ليس له عند التعثر إلا سلعته أو ما تبقى منها، فإن كانت السلعة هالكة فلا شيء له. وإن كان بيع الأجل أو التقسيط بلا أي زيادة عن قيمة الحاضر، فالدين هنا لم يكن هو غرض التجارة. وقيمة زمن السلعة كانت مقابل قيمة تصريف بضاعته. فهذا حاله كحال المُقرض من جانب واحد. فله أن يُرجع على مال المدين كله لتعويض قيمة السلعة، إلا أن حقه يجب أن يقصُر عن سجن المماطل. فالسجن لا يُستحق إلا بسبب اعتداء بظلم. وبائع السلعة بالأجل بسعر الحاضر، ما كان محسنا للمشتري بل لنفسه. فهذه خاطرة مُختزلة في فقه أحكام قضاء الديون، أقدمها مُتعلما لا مُتعالما بين يدي قضاة التنفيذ، وأطرحها لنظر القضاء توسلا عند بابه لا افتياتا على حُرمة جنابه.