قضيت غالبية «عصاري» الأسبوعين الماضيين متنقلاً بين مكاتب العقار في شرق وشمال الرياض برفقة صديق يبحث عن أرض مناسبة يبني عليها بيت العمر، بعد أن حان دوره في الحصول على قرض صندوق التنمية العقاري، بعد انتظار 20 عاماً. ولأن صديقي واقعي كثيراً، ولا يريد مساحة أكثر من 350 إلى 400 متر مربع، ويحمل بين يديه شيكاً ب500 ألف ريال، فقد اعتقدت أن الموضوع بسيط، ولن يؤخر شراءه الأرض سوى المفاضلة بين وجهات الأراضي ومواقعها. إلا أن ما وجدته خالف توقعاتي (وأنا العائد من غربة استمرت خمسة أعوام)، فال500 ألف ريال التي يحملها صديقي لا تشتري شيئاً، وما وجدناه أن الأراضي يبلغ سعر مترها 1800 ريال في شرق الرياض، و2200 ريال فأعلى في شمال الرياض. وعند هذا السعر، ألغى صديقي طموحه للسكن شمال الرياض، وبقي عليه البحث عن أرض في شرق العاصمة. ولن أكمل قصة صديقي، فهي معروفة، فقد عزف عن الشراء، مثل ما فعل الآلاف ممن جاء دورهم في الصندوق العقاري، انتظاراً لتدخل يهبط بأسعار الأراضي، لتكون في حدود قدرته وأمثاله من الناس. وأكمل بما لاحظته خلال «دوراني» بين المخططات، وأول ملاحظة، وهي للمثال فقط، ففي إحدى طرقات الرياض المهمة وجدت أرضاً بيضاء على مساحة واسعة لم يتم البناء عليها منذ أكثر من 30 عاماً. ولا توسوسنّ لك نفسك بالسؤال عن قيمة المتر هناك، حتى لا تصاب بالصدمة، ولكن يكفيك أن تسأل نفسك (مثلي): كيف لأرض في قلب العاصمة بآلاف الأمتار، وتصلها جميع الخدمات من ماء وكهرباء وهاتف، أن تترك بيضاء لما يصل إلى 46 عاماً، فلا تبنى ولا تباع؟ وهذا - كما ذكرت للمثال - وإلا فأمثالها كثر، في الشرق والغرب والشمال. الملاحظة الثانية، في المخططات الجديدة في الشمال، وفي أحياء «النرجس» و«الياسمين» و«الصحافة» وغيرها، الوضع لا يختلف كثيراً، آلاف الأمتار من الأراضي المخططة، تستوعب سكان الرياض ومثلهم معهم، تركت فضاءً، لم تُبْنَ ولم تُبع، وتجاوزها البناء السكني، وبنيت بعض المخططات التي وراءها. هذه الأراضي البيضاء، شوّهت شمال العاصمة، وقسمته إلى شمال «أدنى» أو قريب، شبه فارغ من المنازل لاحتكار الأراضي فيه، وعدم عرضها للبيع، وشمال «أقصى» أو بعيد، بدأ فيه بعض البناء والسكن، وإن كانت أسعاره مرتفعة جداً بسبب احتكار جزء منه، إضافة إلى احتكار الشمال القريب. الملاحظة الثالثة، الوضع في الشرق لا يبعد عن الشمال كثيراً، وإن كان أخفّ بالمقارنة بكبر حجم الأراضي البيضاء التي يحيط بها البنيان من كل جانب. الملاحظة الرابعة، أنه وعلى رغم أن السوق في حال ركود، إلا أن ما يحصل يذكّر بطفرة الأسهم، فالأسعار تتقافز في بعض المخططات الخالية من المباني ب100 و200 ريال للمتر الواحد عن مستواها قبل شهرين فقط، لأن شركة الكهرباء بدأت بحفر أماكن ل«غرف» الكهرباء، أو لأن مسجداً أو مرفقاً آخر بدأ حفر أساساته في المخطط. الملاحظة الخامسة، أن الأراضي الصغيرة في حدود 300 متر لا توجد إلا نادراً، ولا تبقى في السوق بعد عرضها لأكثر من ساعات، على رغم أن مترها يكلف أكثر من متر الأراضي الأكبر مساحة، ما جعل كثيراً من الناس يعزفون عن الشراء لعدم مقدرتهم على شراء الأراضي الأكبر مساحة. ولأن وزارة البلديات ووزارة الإسكان، لا تريدان فرض رسوم على الأراضي البيضاء غير المستغلة - كما طالبت وغيري من قبل - فليس أقل من تدخلهما بقرار بسيط، ومرضٍ للجميع، وهو أن يُخيّر ملاك الأراضي البيضاء، التي تزيد مساحاتها على 2000 متر مربع، بين بنائها في مدة أقصاها عام واحد، أو عرضها للبيع بسعر السوق، فمثل هذا القرار لازم وحتمي لا بد منه، لأنه الحل الوحيد لزيادة العرض وخفض أسعار الأراضي التي فاقت كل قدرة واحتمال، بسبب تجفيف عرضها باحتكار آلاف الأمتار، وتركها بيضاء لا تبنى ولا تباع. وما لم يتخذ هذا القرار ويُبدأ بتطبيقه فوراً فلن تحل مشكلة غلاء الأراضي، وستستمر المشكلة، وكلما تأخر الحل كان أكثر كلفة على موازنة الحكومة وعلى «جيب» المواطن. * أكاديمي سعودي متخصص في الاقتصاد والمالية.