648 جولة رقابية على جوامع ومساجد مدينة جيزان    القيادة تهنيء الحاكم العام لجزر سليمان بذكرى استقلال بلاده    أمير المدينة المنورة يرعى الملتقى الخامس للمبادرات والتجارب التنموية في إمارات المناطق    المدينة الطبية الجامعية بجامعة الملك سعود تسجل براءة اختراع عالمية لابتكار "أداة تثبيت الأنسجة"    وكالة الفضاء السعودية تطلق جائزة «مدار الأثر»    إسقاط 91 طائرة مسيرة أوكرانية خلال الليل    بدءاً من الشهر القادم وحسب الفئات المهاريةتصنيف رخص عمل العمالة الوافدة إلى 3 فئات    وسط فجوات كبيرة بين الطرفين.. جولة مفاوضات جديدة لوقف النار في غزة    السلطات التايلندية تنقذ طفل العزلة من"النباح"    قمة فرنسية – بريطانية بأجندة معقدة.. قضايا الدفاع المشترك تتصدر المشهد    335 ألف متدرب في برامج التدريب التقني خلال عام    نيوم يعزز التواجد الفرنسي في دوري روشن بالتعاقد مع غالتييه    شقيقة رونالدو تكشف سبب غيابه عن جنازة جوتا    غارسيا وغيراسي يعادلان رقمي ليوناردو ودي ماريا.. صراع قوي على صدارة هدافي مونديال الأندية    هيئة "الشورى" تحيل 26 موضوعاً للمناقشة    ضبط 10 مخالفين و226 كجم من المخدرات    "فلكية جدة": الأرض تستعد لمجموعة من أقصر الأيام    "حساب المواطن": 10 يوليو إيداع الدفعة 92    «الحارس» يعيد هاني سلامة إلى السينما    كيف يخدعنا الانشغال الوهمي؟    السلمي مديراً للإعلام الرقمي    استقبل رئيس هيئة مكافحة الفساد.. نائب أمير مكة: القيادة تعزز قيم النزاهة لحماية المال العام    الحب طريق مختصر للإفلاس.. وتجريم العاطفة ليس ظلماً    لسان المدير بين التوجيه والتجريح.. أثر الشخصية القيادية في بيئة العمل    علماء يكتشفون علاجاً جينياً يكافح الشيخوخة    "الغذاء والدواء": عبوة الدواء تكشف إن كان مبتكراً أو مماثلًا    اعتماد الإمام الاحتياطي في الحرمين    إنقاذ مريض توقف قلبه 34 دقيقة    الاتحاد السعودي يختتم موسمي دوري البراعم تحت 14 وتحت 13 عاماً    «الملك سلمان للإغاثة» يعيد السمع لأطفال في تركيا    «السجون» توقّع مذكرة مع «التعليم» لتطوير برامج النزلاء    العلاقة بين المملكة وإندونيسيا    في الشباك    التحذير من الشائعات والغيبة والنميمة.. عنوان خطبة الجمعة المقبلة    تلاشي المخاطر الجيوسياسية في سوق النفط    «مركز الملك سلمان» يدشّن المرحلة الثالثة لدعم الأمن الغذائي في باكستان    «التخصصات الصحية» تعتمد دبلوم تمريض العناية القلبية بتخصصي تبوك    مستشفى الملك فهد بالمدينة يقدم خدماته ل258 ألف مستفيد    توزيع 1.200 سلة غذائية في السودان ل 8.874 مستفيدًا    بين التخزين والامتثال.. معركة الوعي في قلب المدينة    تجربة جديدة لعمرو دياب في موسم جدة    أمير الشرقية يشيد بجهود «مكافحة المخدرات»    ناغلسمان: إصابة موسيالا صدمة كبيرة للمنتخب    تركي بن هذلول يلتقي قائد قوة نجران    التخصصات الصحية تعتمد برنامج دبلوم تمريض العناية القلبية في تخصصي تبوك    أمير حائل يدشّن مبادرة "أبناؤنا بعيون الصحة"    أحداث تاريخية وقعت في جيزان.. معركة الضيعة وشدا    المياه الوطنية تدعو عملاءها لتسجيل التوصيلات المنزلية غير النظامية    الشؤون الإسلامية في جازان تختتم الدورة العلمية في صامطة    تمكين الهمم يختتم عامه القرآني بحفل مهيب لحَفَظَة القرآن من ذوي الإعاقة    والدة المحامي حمود الحارثي في ذمة الله    ترحيل السوريين ذوي السوابق الجنائية من المانيا    ريال مدريد يكمل عقد نصف نهائي كأس العالم للأندية بثلاثية في شباك دورتموند    الرياض تستضيف مجلس "التخطيط العمراني" في ديسمبر    ألف اتصال في يوم واحد.. ل"مركز911"    911 يستقبل 2.8 مليون اتصال في يونيو    الأمير جلوي بن عبدالعزيز يرعى حفل انطلاق فعاليات صيف نجران    أمير تبوك يطلع على تقرير فرع وزارة النقل والخدمات اللوجستية بالمنطقة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



«أنا لا أعني ما أقول، وعليك أن تفهمني جيداً»!
نشر في الحياة يوم 09 - 12 - 2012

مَن يتابع المنابر الإعلامية للنظام السوري سيفاجأ بكمّ الانتصارات التي تحققها قواته على الأرض، في الوقت الذي تؤكد الوقائع على الأرض أنها تتراجع في شكل مضطرد؛ هذا مثال على الأكاذيب الفاقعة التي دأب النظام على تصديرها لمؤيديه.
لكن الأمر لا يخلو من الفائدة. فالمنابر هذه، خصوصاً التلفزيونية، تقدّم المعلومات بسخاء لا يتوافر أحياناً لدى المحطات التلفزيونية الأخرى، فقط عندما يفكّ المتابع شيفرتها اللفظية. مثلاً تورد قناة موالية الخبر التالي: «تمكنت الجهات المختصة من قتل عدد كبير من الإرهابيين في عملية نوعية في معرة النعمان». خبر تسهل ترجمته، فإحدى طائرات النظام قصفت أحد الأبنية السكنية في معرة النعمان، ما أدى إلى سقوط العشرات من المدنيين. أما الخبر الأكثر فائدة فسيكون من هذا القبيل: «أهالي الحجر الأسود يناشدون الجهات المختصة التدخل لتخليصهم من الإرهابيين». الترجمة: قوات النظام تتأهب لاقتحام الحجر الأسود وارتكاب مجازر هناك.
بالطبع قد يصدّق بعضهم الرواية الحرفية فيقع ضحية غفلته. حصل هذا للذين صدقوا الرواية التي تؤكد سيطرة النظام على مطار دمشق الدولي ووجود حركة طبيعية على طريق المطار، فكانت النتيجة أن سقط عشرات منهم ضحية الاشتباكات على الطريق وفي محيط المطار وهم يقودون سياراتهم هناك. المفارقة المؤلمة أن كثيرين من السوريين سيلومون الضحايا لأنهم صدقوا رواية النظام، ولم يحسنوا تأويل تأكيداته على محمل معاكس للألفاظ، ذلك لأن البديهية المعروفة عنه هي دأبه على إنكار خساراته، وكلما أكد نفيه لحدث ما فهذا تأكيد إضافي لحدوثه!
يتفنن السوريون عموماً بقراءة ما بين السطور، ولعل قسماً كبيراً منهم لا يكترث بما تقوله السطور مباشرة، وليس من المبالغة القول إنه بات لديهم حذر متأصل من اللغة قد يصل أحياناً إلى حد الهوس والتشكيك في كل ما يقرأونه أو يسمعونه. من هذه الوجهة أيضاً سيكون مستغرباً جداً أن يصدّق الموالون روايات النظام، هم الذين خبروا أسوة بغيرهم أكاذيبه طوال عقود، ولأن تصديقهم المستجد محل شكّ كبير، فهذا سيفتح الباب على كل التأويلات والظنون، أو ما يمكن إجماله بأن الموالي يجهر بتصديقه ليخفي تحته ما هو أدهى من اتهامه بالسذاجة.
ما سبق قد يوحي بأن السوريين تجاوزوا المستوى التواصلي للغة لمصلحة مستواها المجازي، وكما هو معلوم فإن المستوى التواصلي يقضي غالباً بتمرير الرسائل والإشارات بلا مواربة أو تشتيت للمعنى، بينما يتكئ المجاز على الفائض التأويلي. غير أن اعتماد المواربة هنا كنسق دائم يبتغي أصلاً الهروب من المعنى، من دون الذهاب إلى إغنائه بفائض تأويلي أو دلالي.
فسلطة «البعث» واظبت خلال نصف قرن على تفريغ شعاراتها من أية دلالة جدية، وبمقدار ما كانت الشعارات تتراكم كانت معانيها تنحسر، حيث كان المعنى الوحيد المبتغى هو تكريس الهيمنة، ولم تكن الشعارات بمحتوياتها اللفظية سوى أدوات لإيصال رسالة واحدة. من جهة أخرى، يصح القول إن المواربة التي باتت سمة للغة الحكم أتت محايثة للمواربة التي باتت تتحكم بهرم السلطة. فمن طبيعة الفساد والاستبداد أن يتوسلا لغة متعرجة تنفصل باضطراد عن معانيها؛ هذا لا ينتسب إلى لغة السياسة المعهودة، والتي لا تخلو من الانحناءات وحتى المجازات، بل هو أقرب إلى الاحتيال التام على اللغة أو بالأحرى احتلالها وتهجير قدراتها التواصلية.
لقد سبق لجورج أورويل، في روايته الشهيرة «1984»، أن بيّن كيف تنفصل الألفاظ عن معانيها في ظل الفاشية، بحيث تصل الكلمة لتعني نقيضها. وسبق أيضاً للعديد من كتاب المسرح أن لعبوا على فشل المستوى التواصلي للّغة، الأمر الذي نجده مثلاً في المسرحيات غير السياسية لهارولد بنتر. في الحالتين تتحول اللغة لتصبح أداة تهديد وإرهاب، وتصبح على نحو معمّم وسيلة للتقية بدلاً من كونها وسيلة للتفاعل الجدي.
ليست مصادفة أن تحطم الفاشية أواصر اللغة بين الناس لأنها بذلك تحطم التواصل بينهم؛ كثير من اللغو وأقل ما يمكن من اللغة؛ هذا هو المنطوق الفعلي للفاشية، وكلما تجذرت زادت حاجتها إلى الأول على حساب الثانية.
أنشأت فاشية «البعث» فصاماً لغوياً يصعب ردمه سريعاً لدى السوريين، فاللغة نفسها لم تعد موضع ثقة من قبلهم، بل كثيراً ما تكون سبباً لسوء التفاهم أو التواصل. ينسحب هذا أيضاً على جزء من أداء المعارضة. فهي إما تتعثر أحياناً في التعبير عن رؤاها الحقيقية، وإما تكون عرضة لسوء الفهم أو التشكيك في ما تخفيه السطور. وقد نذهب أبعد إلى القول إن بعض المعارضة لم يتخلص من لغة «البعث» وألاعيبها اللفظية، وليست مصادفة أن يجد سبيلاً إلى الحوار مع النظام ضمن هذه القرابة اللَغْوية.
على هذا أيضاً يمكن أن نقرأ قلة الجدوى من التطمينات التي تصدرها المعارضة، بخاصة التي توجه إلى الأقليات، إذ يرجح أن مؤيدي النظام تشرّبوا رياء لغته بحيث يصعب عليهم تصور اللغة على نحو مغاير.
عموماً سيكون على السوريين التدرب على اللغة مجدداً، بحيث تعبّر عما يريدونه حقاً، لا عن كبتهم وخوفهم. ذلك سيعني عودة الثقة بأنفسهم، وعودة اللغة إليهم. لن يكون هذا سهلاً، وسيتطلب مراناً شاقاً على التخلص من رطانة «البعث»، وحتى من الفكرة العامية عن المجاز أو الرمز، فالمجاز لا يبقى مجازاً عندما يُفقر المعنى والترميز يفقد ثراءه عندما يصبح مكشوفاً. بالمثل، لن يكون إسقاط النظام، بالمعنى العميق الذي تنطوي عليه العبارة، أمراً سهلاً وسريعاً. ومن المرجح أن هذا المعنى لا يدور في أذهان نسبة لا بأس بها من الذين يرفعون الشعار. هنا أيضاً تبدو اللغة مخاتلة، إذ ثمة اتفاق لفظي موقت لن يقيّض له المضي قدماً على نحو ما يُفترض أن اللغة تشي به.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.