يرى الفنان التشكيلي والنحات التونسي حافظ المساهلي، أنّ الهوية في تونس «لم تكن يوماً معطى ثابتاً بل هي في حراك دائم، وكل وافد جديد إلى البلاد يقع هضمه واستيعابه ضمن مقومات الشخصية التونسية... ولم يتمكن أيّ وافد من محو ما سبقه بل إنّ القديم يتواصل ولا يضمحل...». من هنا يمكن دخول عالم المساهلي التشكيلي الذي يبدو أنه مبني على الحراك الدائم وعدم الثبات، فالحركة في أعماله أشبه بالهواء لا غنى عنها، وربما هي ما يصنع الديمومة والتواصل والانعتاق من بوتقة «العادة» التي تحكم نظرتنا إلى العالم وتعاملنا معه... من قاعات دروس القانون إلى الفنّ التشكيلي والنحت خصوصاً، أية مفارقة هذه؟ كيف يمكن أن نقارب هذا الانزياح الكامل نحو الفنّ؟ يجيب المسيهلي: «دراسة القانون كانت في مرحلة غلب فيها البحث عن وضع اجتماعي مريح مادياً وأدبياً، ولكن سرعان ما تخليت عن هذه الفكرة قبل حتى إتمام الدراسة والتحقت بألمانيا لدراسة تاريخ الفنون وتاريخ الأديان وهما اختصاصان في صلب شعبة واحدة، لكنّ الفن لم يغب حتى وأنا أدرس القانون في كلية الحقوق بتونس...». ويضيف: «أذكر أنّني انتعلت حذاءً رياضياً أضفت إليه كثيراً من الأزرار والرقع مما أثار حفيظة زملائي الساعين إلى الظهور بمظهر رجل القانون المستقبلي». تجربة المساهلي فريدة من نوعها، فهو يعتمد المهمل من الأشياء كبقايا الخشب أو الأدوات المنزلية التي لا حاجة للناس بها أو الأشياء الطبيعية مثل الحجارة، ويوظفها بطريقة تجعل منها منحوتات مستفزة أحياناً ومربكة أحياناً أخرى، لكنها في النهاية تعطي المشاهد فكرة واضحة عمّا يريد هذا الفنّان قوله من خلال إعادة تشكيل «الخردة» وجعلها أشكالٍ وتوليفات فنيّة مدهشة في بعض الأحيان. يقول المساهلي: «بخصوص المواد التي استعملها هو اختيار واع وليس وليد حالة ما، مواد مستعملة هذا صحيح، لكن لا أختار أي مواد بل أسعى لأن تكون المادة المستعملة طبيعية أولاً، أي أنّني أتحاشى استعمال البلاستيك مثلاً أو الدهن وأميل إلى المواد الحاملة لمخزون ودلالة ثقافية». ويضيف: «في معرضي الأخير استعملت مثلاً القرداش، وهي آلة لتليين الصوف أو الخلالة وهي لباس قديم للمرأة التونسية، هي أشياء نستعملها في حياتنا اليومية بشكل يكاد يكون أوتوماتيكياً من دون التنبه لوجودها أصلاً». حرية ويواصل التشكيلي التونسي في السياق ذاته: «نحن نتعامل مع هذه الأشياء كصورة تماماً كما نتعامل مع الكلمات كصورة وليس كمفردات متكونة من حروف... لو كتبت لك كلمة حرية هل ستقرأها ح+ر+ي+ة أم أنّك ستراها كصورة كاليغريفية من كثرة استعمالها؟ والعقل من كسله ربما لم يعد يطرح الكثير من الأسئلة بل يكتفي بالصورة/ الظاهر من حياتنا». يحاول المساهلي في أعماله الفنية ارباك المتلقي الذي اعتاد الأفكار الجاهزة ويسعى لتمرير رسالة مشفّرة من خلال الأعمال، لا يفتحها إلا عندما يخرج من المعرض، ومفادها أنّ كل شيء يمكن أن ننظر إليه من زاوية مختلفة فتتسع الرؤيا - الرؤية. شوكة الأكل التي نستعملها يومياً يمكن أن تكون طائرة لو تحررنا من «عادة» استعمالها، هكذا يراها حافظ، ويوضح: «هناك فكرة أخرى أريد محاربتها وهي العادة القاتلة، العادة عدوّ كل ابتكار أو خلق. كل شيء نمارسه بالعادة نفكر بالعادة ونحلم بالعادة ونمارس الحب بالعادة». ويضيف: « ثمة صورة أخذتها لتفاحة تعمدت قصها بالعرض لنكتشف ان بداخلها شكل نجمة ولأننا اعتدنا قص التفاح بالطول وليس بالعرض فقد فوتنا على أنفسنا اكتشاف نجمة في كل تفاحة، ترى كم نجماً اغتلناه تحت وطأ العادة؟ وكم فكرة تقدمية قتلناها فقط لأننا عبيد العادة؟». ويقول المساهلي في تعليقه على عمل له في شكل طائرة: «حين تجلس إلى طاولة الطعام، اجعل من ملعقتك طائرة، ومن فطورك مناسبة لتقبيل الغمام، اجعل سكينك جناحاً للكلام، وأنت تغرس شوكتك في فخذ الحمام، تذكر أنك لست مركز الأرض، وللطير حق العيش بسلام...». يقيم النحّات التونسي حافظ المساهلي في ألمانيا، واحتضنت دار الجمعيات الطبية في مدينة تونس العتيقة أحدث معارضه بعنوان «النظرة الأخرى».