أدار «أبو حجر» جهاز التلفاز صباح اليوم الوطني؛ وتَسَمّر في مكانه وهو يسمع ويُشاهد مذيعاً يتغنى بمحبة الوطن، وهو يقول: محبة الوطن إحساس بالمسؤولية وبالمواطنة قولاً وعملاً، من يحب وطنه عليه أن يجعل كل أيام السنة أياماً وطنية، يعمل فيها بجد وحب وصدق وإخلاص وهمة عالية وصبر ومثابرة. من يحب وطنه عليه مسؤولية المساهمة في البناء والتطوير والحفاظ على إنجازاته ومكتسباته؛ فالمحب لوطنه هو ذاك المواطن الذي يرفض التقصير، والتقاعس، ويُنكر العبث والتهاون، وكل عمل يقود إلى التراجع والإحباط، ويعمل بكل طاقاته وجوارحه للحفاظ على أمنه واستقراره ورخائه، ويسهم في حماية جبهته الداخلية من العابثين والحاقدين والمتآمرين على الوحدة والتآخي. من يحب وطنه عليه أن يستشعر عِظَمْ الأمانة الملقاة على عاتقه في الرخاء والشدة، ويقف بحزم وقوة أمام كل من تسول له نفسه نشر الفساد والرشوة والمحسوبية، والتلاعب بالأنظمة واختراق القوانين من أجل المصالح الشخصية. من يحب وطنه عليه أن يكون قدوة حسنة، والملهم لأبنائه ومجتمعه في ترجمة هذه المحبة على أرض الواقع من خلال قيم الإنتاج والسلوك القويم، وعليه أن يعمل بضمير، ويكتب بضمير، ويتحرك من أجل ترسيخ مبادئ النزاهة والأمانة، ويحمل على كفيه وروداً تنشر ثقافة الإبداع والتَميّز، والإسهام في خدمة المجتمع، وخطوات جادة تزرع الأمل والتفاؤل لمستقبل وطن يكبر بالخير والمحبة والرفعة والعطاء. أيها الفاسدون: الوطن ملك للجميع، وأنتم ليس لكم مكان في وطني. أسرع «أبو حجر» وأقفل جهاز التلفاز، وهو يرتجف، واتصل على الفور بصديقه ورفيق دربه «أبو رملة»، وقال له: على غير عاداتك جالس في المنزل - نعم «يا أبا حجر» إنها إجازة اليوم الوطني، وأعتبرها إستراحة محارب - تقصد «يا أبا رملة» إستراحة فاسد! قهقه الإثنان، ثم استدرك «أبا رملة» للموقف وقال: كأني بك مرتبكاً ولغتك قاسية - ما خطبك «يا أبا حجر»، تهمة في يوم الوطن؟! قاطعه «أبو حجر» بدعوة على الإفطار في الفندق القريب من منزله، ولم يكن أمام «أبا رملة» في ظل إصرار عجيب من صاحبه إلا الاستجابة لرغبته. إلتقى الإثنان في مطعم فندقي يعج بالناس، وبعد سلام وتحية غير اعتيادية، بادر «أبو حجر» صاحبه بحديث ليس بالذي تعوّد على سماعه منه، مال إلى الموعظة تارةً، وإلى تهيئة صديق المال والأعمال والمصالح للبوح بما تكتنزه نفسه من صراع ظل يطارده وتفجّر من موقف أنشودة حفيدته الصغيرة في محبة الوطن، وكلمات المذيع التي ألقت به خارج أسوار المواطنة «أيها الفاسدون ليس لكم مكان في وطني». صديقه المشغول بالتهام لقيمات الخبز مع الفول، وقطع الجبن مع الكعك، والكروسان وعصير البرتقال، ترك صاحبه يهذي بما يريد، ثم صرخ بعدها في وجهه قائلاً: الحق عليّ لأنني لم أسافر بك خارج البلاد، فقلبك ضعيف، والرياح تأخذك يميناً وشمالاً، على رغم حجرية كنيتك، تهزمك إنشودة، وتُربك مستقبلك ومستقبل أسرتك عبارات مذيع! أنت دائماً منغمس في ملذاتك، ألا تشعر «يا أبا رملة» بالحصار الذي نواجهه من نظرات وعوز العاطلين عن العمل، ونحن نتلاعب في أرزاقهم من خلال المتاجرة في التأشيرات ونفوز بمناقصات المشاريع «باللتي واللتيا»، ألا تشعر بتأنيب الضمير وأنت ترى وتسمع عن آلاف الشباب الذين لا يستطيعون بناء مساكن لهم، ونحن مع شركائنا نستحوذ على عشرات الآلاف من قطع الأراضي، منها ما جاء عن طريق المنح، والأخرى بمساهمات عقارية، كسبنا منها مئات الملايين من الريالات، وحَمّلناهم أعباء القروض والديون، لدينا ولدى شركائنا وأصحابنا الذين تعرفهم من مساحات الأراضي البيضاء ما يُمكنها المساهمة في حل مشكلة الإسكان لو أننا قنعنا بالأرباح المعقولة ويسّرنا على عباد الله، ماذا سنفعل بهذه البلايين، إن لها عند الله حساباً عسيراً؟! - من يسمعك «يا أبا حجر» يقول إننا أصبحنا من أكبر أغنياء العالم، لا يزال الطريق أمامنا طويلاً، اغنم زمانك ما دامت كل الطرق مفتوحة تؤدي إلى الثراء، نحن لم نسرق من أحد شيئاً وأموالنا جاءت بالكد والتعب! - كيف تَسمح لنفسك «يا أبا رملة» بهذا القول، وأنت تعرف أننا نملك مصنعين كبيرين، يعمل بهما ما يقارب خمسة آلاف عامل من إداريين ومهندسين وفنيين، ونسبة توطين الوظائف لدينا لا تتجاوز 10 في المئة، حصلنا على جميع الامتيازات، أراضٍ مطورة بأسعار زهيدة، وكهرباء ووقود ومياه بأسعار رخيصة، نسوق منتجاتنا داخل وخارج المملكة، وأسألك بالله ماذا فعلنا للوطن؟ هل قمنا بتأهيل وتدريب الشباب من أبناء الوطن، وهل أسهمنا في خدمة المجتمع، أرصدتنا تزداد، ومشكلات الوطن تتراكم، وكل منا يُلقي باللائمة على الحكومة، نحن جزء من المشكلة وجزء من الحل؟! - أعتقد «يا أبا حجر» أنك وصلت إلى مرحلة حرجة بوضعك كل مشكلات الوطن على رؤوسنا، وكأننا الوحيدون الذين ينهجون هذا النهج، وأنت تعرف أن أمورنا ومصالحنا ترسخت عبر سنوات طويلة، ولم تعد تواجهنا أي عوائق، كل ما نريده نستطيع تحقيقه بأقل التكاليف، وكثير من رجال الأعمال يتمنى أن يصل إلى ما وصلنا إليه! - لكن تهمة الفساد تحاصرنا «يا أبا رملة»، حتى لو تجاوزناها بما استطعنا أن نؤسسه من شبكة علاقات المصالح التي تعرفها، كيف سنواجه ضمائرنا، وماذا سنقول لأبنائنا وأحفادنا، والمجتمع الذي يردد «أيها الفاسدون ليس لكم مكان في الوطن»، إنهم يشيرون بأصابع الاتهام إلينا؛ إن ضميري يؤنبني بصورة لم أعهدها من قبل، ولا بد أن أتخذ خطوات جادة لإصلاح ما أفسدناه؟ - تحدث عن نفسك «يا أبا حجر»، يا من ارتجف من أنشودة طفلة وحديث مذيع، ومن أجل العِشْرة والصحبة والشراكة أنصحك بألا تتخذ قراراً ستندم عليه. - جئتك «يا أبا رملة» والقرار يهز صدري ويسيطر على وجداني، جئتك وصحوة الضمير تدفعني نحو الوفاء لوطني، وقبل هذا وذاك رجاء المتوسل إلى خالقه بالعفو والمغفرة، موعدنا صباح الغد عند مكتب المحاماة لفض شراكة تحوم حولها الشبهات، وبعدها سأعيد الأمور إلى نصابها. - عاد «أبا حجر» إلى منزله، وكانت مفاجأة العائلة تنتظره، «قالب حلوى» كبيرة غُرس عليه 82 شمعة للذكرى الوطنية، أُشعلت الشموع، ثم أُطفئت بأنفاس طاهرة وأنفاس تطهرت، ودموع «أبا حجر» غسلت قلبه من آثام الفساد قبل أن تُبلل «قالب حلوى» الاحتفال بيوم الوطن. [email protected] alyemnia@