حين دار الطرح في المقالة السابقة عن انتظارنا مسلسل «علي» بعد مسلسل عمر، لم أحسبها رغبة جمع لا بأس به، وردتني إيميلاتهم وبعض اتصالاتهم يطالبون فيها بالتركيز أكثر على الموضوع ولسان حالهم: «نريد أن نفهم»، وهو ليس انتقاصاً من ثقافة الكثيرين، ولكنه الواقع، فمن منّا ويعي بالضبط حقيقة الخلاف بين السنة والشيعة! ومع أني قد أثرت الفكرة وما قولي هنا إلا تكراراً لما أثير، غير أني لم أجد بأساً في معاودة الكرة، والتأكيد على أهمية وجود مسلسل يحكي عن الخليفة الرابع، وبالمستوى اللائق الذي خرج به مسلسل عمر، ولو ألحق واستكمل ببنيه، (ولو عولج قبلاً) لعمّت الفائدة، ولاستوعب الناس ما يتحرجون من السؤال عنه، فلا قدرة الكل ولا جَلَدهم على البحث عن أصل الأمور ما يمكن التعويل عليه، بل وأكاد أجزم أن بعضنا لا يتلقّى ثقافته إلاّ سماعياً في المجالس، أو بصرياً مما يتابع، فإلى هؤلاء وغيرهم نحن في حاجة إلى التخفيف من حدة جهلنا بتاريخنا، ولن يكون بأقرب من صوت وصورة يمرّرها العقل وتختزنها الذاكرة. أمّا من يعارض ويتشنّج في رفضه تجسيد الصحابة، ومهما سقنا إليه من منافع وفتاوى مجازة، لا يتزحزح عن تشدّده، فما الفرق بينه وبين من عاند قبل البعثة مصراً على سنة آبائه وأجداده، ومن عاند بعد البعثة مهما كان في الأمر اختلاف! فإن كان أبو جهل يومذاك واحداً، فاليوم آباء للجهل يتباهون بجهلهم وبتعطيلهم، فلا يغيّرون ولا يمسكون ولا يرحمون زماناً أتى بغير ما أتى به زمانهم، فمن يتابع مسلسل عمر وينصت إلى الحوار، فلن يجد فيه اختلافاً كبيراً عن جدال عصرنا، فإن اقتنع القوم بينهم وبين أنفسهم وبعض خاصتهم، غير أنهم ما إن يخرجون على الناس إلاّ ويتفوّهون بغير ما يسِّرون، غير آبهين بصالح المسلمين، وإنما بما يستنبطونه من منظومة الصالح العام، ويخدم مصلحتهم ومكانتهم، بدغدغة خدمة الدين وأهله، ثم إننا لو لم نجتهد ونجزها، ألا يفعلها غيرنا غداً وبروايته؟! فلا مناص إذاً من تملّصنا، أو إعلائنا للسيئات والمصلحة هي المقدّمة. هب أنه جرى استفسار شعبي عن حقبة علي - رضي الله عنه - بمقتل عثمان بمعاوية بعمرو بطلحة بالزبير بالسيدة عائشة بمن اعتزلهم.. وبكل الأسماء والأحداث الثابتة آنذاك، لو جرى هذا الإحصاء لبرهن وبالدليل على تصحّر أغلبنا المعلوماتي، بل، ولا أسوأ من مدّعي الثقافة، من التقط جملة من مقالة، وفقرة من كتاب، وعبارة من مقابلة، ثم ألّف ما بينها، وخرج بقناعة مغلوطة، ولو ناقشته لدافع مستميتاً عن مخزونه المزعوم، ففي تسليمه بمنطقك اعتراف بجهله وبرجوعه عن الخطأ، ولهذا المقنّع بثقافته لو أنك أخرجت عملاً روائياً جامعاً للروايات المدقّقة، تكون قد رفعت عنه الحرج، ووفرت له ولغيره المعلومة التاريخية الأقرب إلى الصحة من «كوكتيل» جُمع كيفما كان، فتثقيف المسلمين بتسلسل أيامهم وتحليل ناضج لوقائعهم أهم ما يمكن للتقنيات الحديثة نقله إلينا، فمن عرّفنا بشخصية المجاهد الليبي عمر المختار غير فيلم مخرجه العقاد! دع عنك فيلم الرسالة، فحق علينا ومع إمكاناتنا المادية والبشرية أن نعي جيداً حتمية إنتاج مسلسل «عليّ» اليوم. من يقرأ تاريخه - كرم الله وجهه - يتعجب مما لاقى من قومه وهم يأتمرون عليه، وقد لاقى أبوبكر في أول خلافته شيئاً مما لقيه علي، ولكنه وجد من أصحاب النبي أعواناً سرّعوا إخماد الفتنة، ثم جاء عمر فدفع القوم إلى الفتح فأشغلهم، فسار عثمان على سيرة الشيخين فأمعن المسلمون في الفتح، أمّا علي فلم يكد يستلم مقاليد الخلافة حتى تنكّر له قوم من الذين كانوا يعينون أبا بكر وعمر، ثم لم يلبث أن انتشر الأمر وأصبح المسلمون حرباً على بعضهم البعض، وعليّ لا ييأس من الصلح واجتماع كلمة المسلمين، حتى خرج من خرج وعاد من عاد ونتج ما نتج، هذا بالذات ما نئن إلى معرفته بتفاصيله الممتدة، وهذا بالضبط ما ننتظره من الرعاة المنتجين.