أياً كانت أهداف من حلموا في أوائل الخمسينات من القرن العشرين، ثم حققوا في أوائل التسعينات من القرن الماضي الاتحاد الاقتصادي الأوروبي، ليس على غرار اتحاد الولايات الأميركية كما قد يبدو، التي بدأ تكوينها باتحاد ثلاث عشرة ولاية في عام 1776، إلى أن وصلت إلى خمسين ولاية في يومنا هذا، فإن لإقامة الاتحاد الأوروبي الاقتصادي مبررات اقتصادية كثيرة، لعل أهمها إيجاد سوق ضخمة وعدد كبير من السكان، مما يسمح بالتخصص في الإنتاج الذي تدعمه وترفع مستوى كفاءته إزالة عوائق التبادل بين الدول الأعضاء وكأن التبادل يتم بين أقاليم ومناطق في دولة واحدة. ومعنى التبادل، ما يتم بين كل بائع وكل مشترٍ لتبادل منفعة أو خدمة بثمن. فرب العمل يشتري خدمةً، وأجيره يبيع خدمة، والمصرف يبيع خدمة، والمتعامل مع المصرف يشتريها، وكذلك شركة التأمين. ولا تختلف أسواق هذه الخدمات في جوهرها عن أسواق السلع المعيشية المعتادة، أو أسواق العقار من أسواق بيع وشراء وأسواق المؤجرين والمستأجرين. كل ما تم ذكره وغيره كثير ما هو إلا أسواق يتم فيها البيع والشراء. وما المدن، بل وجميع المجمعات البشرية سواء كانت بالعشرات أو بالملايين، إلا أسواق يتبادل بعض من سكانها مع بعضهم الآخر أو مع غيرهم بالبيع وشراء السلع والخدمات. وعلى خلاف ما قد يبدو، ليس بالضرورة أن يكون السوق في مكان محدد. ما دام يوجد من يتنازل عن شيء مقابل الحصول على شيء آخر، فهناك سوق سواء تم ذلك في شارع أو في ميدان أو في الصحراء الواسعة القاحلة. ولكن الخوض في معنى عبارات التبادل والأسواق في حد ذاتها ليس موضوعنا لولا علاقة ميزة إيجاد أسواق تشمل عدة دول أكبر بكثير من سوق دولة واحدة حتى لو كانت ألمانيا وفرنسا دع عنك قبرص والبرتغال. وفي العام الماضي (18/10/2011) وفي هذا الحيز من «الحياة»، وتحت عنوان «مرض اليورو مزمن» وبعد مناقشة علاقة الكارثة المالية التي سببها لصوص أسواق المال، خصوصاً في نيويورك في عام 2008 بأزمة اليورو حينئذٍ (أي في آوخر 2011)، جاء الآتي: «غير أن معضلة اليورو التي لا بد من أن تتعايش معها دول الاتحاد النقدي الأوروبي مثلما يتعايش المصاب بمرض مزمن كسكر الدم أو ارتفاع ضغطه، حتى لو أدى ذلك الى قطع أحد الأعضاء، هي أزمة «مزمنة». وتتلخص في التفاوت الهيكلي الاقتصادي الضخم، دع عنك الإرث الثقافي والسياسي المختلف بين دول عملة اليورو. لقد أخطأ الأوروبيون الذين توهموا ان الاتحاد النقدي بلسم يعالج كل الأمراض الاقتصادية التي تختلف طبيعتها ونوعيتها بين كل دولة وبقية دول الاتحاد. إن الاتحاد النقدي يفيد الأقدر على المنافسة في سوق السلع والخدمات كألمانيا وفي الوقت ذاته يكبل أيدي واضعي السياسات النقدية في دول أخرى اقل كفاءة اقتصادية كاليونان والبرتغال. وعاجلاً أم آجلاً لا بد لدولة أو دولتين أو أكثر من الخروج من الاتحاد النقدي. ولو انتهت أزمة اليورو خلال السنوات القليلة المقبلة، فالأرجح أنها ستعود وفقاً للدورات الاقتصادية العالمية بسبب فوارقها الهيكلية التي لن يزيلها الزمن في المستقبل القريب أو المنظور». غير أن أزمة اليورو لم تنته في وقتنا الحاضر، والأرجح أنها لن تنتهي في المستقبل القريب. وإذا كُتب لليورو ان يبقى بعدد محدود من الدول المتشابهة هيكلياً، فإن معضلة اختلاف السياسات المالية، والتي بطبيعتها تخضع لاعتبارات سياسية محلية لكل دولة من أعضاء الاتحاد، ستكون مصدر الخطر الأهم الذي يحدد بقاء عملة واحدة لدول ذات حكومات مختلفة. * أكاديمي سعودي