مع بدايات العالم الحالي 2012 كان الرئيس اوباما يعلن من البنتاغون ما يشبه التنازل الأميركي عن فكرة تسيّد أو زعامة العالم عبر تقليص النفوذ العسكري والإنفاق العسكري الأميركي حول العالم، ما يعني تنازل الزعيم عن سدة الزعامة. البعض الآخر كان يرى وربما لا يزال إن القرن الحادي والعشرين سيكون قرناً صينياً بسبب الطفرات الاقتصادية الناجحة للصين في العقود الثلاثة الأخيرة، غير أن المتتبع الجيد للمشهد الصيني يرى أن الصينيين أنفسهم لا تزعجهم كثيراً فكرة الوصول إلى القطبية العالمية، والأهم بالنسبة لهم هو تثبيت أقدامهم وتعزيز نمو اقتصادهم ورخاء شعبهم. لمن يكون القرن الحادي والعشرون إذن؟ يقطع مارك ليونارد مدير قسم السياسة الخارجية في مركز الإصلاحات الأوروبية والمتخصص في العلاقات على جانبي الأطلسي والشرق الأوسط في احدث كتبه، «لماذا ستدير أوروبا القرن ال21؟»، بأن هذا القرن سيكون أوروبياً بامتياز. هل يعقل هذا لا سيما في ظل الأزمة المالية الطاحنة التي تشهدها أوروبا... وكيف؟ يرى ليونارد انه بالرغم من كل الحديث عن الإمبراطورية الأميركية فإن السنين الأخيرة كانت أولاً وأخيراً برهاناً على محدودية القوة الأميركية. لقد اختفى السبق الاقتصادي الأميركي على بقية العالم. كان الناتج القومي الأميركي في 1950 ضعفي ناتج أوروبا الغربية، ويزيد على اليابان بخمس مرات، لكنه اليوم يتساوى مع نواتج الاتحاد الأوروبي، وأقل من ضعفي اليابان. كذلك تتضاءل قوة أميركا السياسية، ففشلها في ضمان الدعم من أوروبيين لا بل حتى من دول تعتمد اقتصادياً عليها مثل المكسيك وتشيلي، اظهر أن تكلفة رفض الطلب الأميركي في تراجع مستمر. وفي الواقع تظهر الهيمنة الأميركية واضحة تماماً على مستويين هما القدرة على القتال والانتصار في حروب تقليدية مكثفة، وشيوع الثقافة الشعبية الأميركية. ولكي نفهم طبيعة القرن الحادي والعشرين بحسب ليونارد فإننا نحتاج إلى ثورة في الطريقة التي ننظر فيها للقوة. فالحديث المفرط عن الإمبراطورية الأميركية يتجاهل واقعاً أن باع الولاياتالمتحدة اقتصادياً وديبلوماسياً، ضحل ومحدود، فالقوة العظمى الوحيدة قادرة على الرشا والتخويف أو فرض إرادتها في أي مكان في العالم تقريباً، لكنها ما أن تدير ظهرها حتى تتضاءل قوتها ونفوذها. وبالمقابل فإن قوة الاتحاد الأوروبي واسعة وعميقة، والدول التي ما أن تنجذب لدائرة نفوذه حتى تتغير إلى الأبد. على مدى خمسين عاماً وتحت غطاء الحماية الأميركية كانت أوروبا تخلق أسرة ديموقراطية، وتستخدم حجم سوقها وكذلك الوعود لإقامة علاقات واتفاقيات مع دول لإعادة صياغة مجتمعات من الداخل. ومع تطور الهند والبرازيل وجنوب إفريقيا وحتى الصين اقتصادياً، والتعبير عن نفسها سياسياً، فإن النموذج الأوروبي يمثل طريقة جذابة لا يمكن مقاومتها لتلك الدول لتعزيز استقرارها، وذلك في الوقت الذي تحمي فيه أمنها، وستنضم أيضاً إلى الاتحاد الأوروبي لتخلق جميعاً «قرناً أوروبياً جديداً». لا تغير أوروبا الدول بتهديدها بالاجتياح بل إن تهديدها الأكبر أن لا تلقي اهتماماً لتلك الدول، وبينما يتدخل الاتحاد الأوروبي بثقل لإعادة إعمار صربيا ويدعم رغبتها في التأهل لتصبح دولة أوروبية، لا تقدم الولاياتالمتحدة بالمقابل لدولة كولومبيا مثل هذا الأمل بالاندماج من خلال المؤسسات المتعددة أو صناديق الأموال المخصصة للاستثمار في البنية التحتية، بل جل ما تفعله هو تلك المساعدة الموقتة لبعثات التدريب العسكرية الأميركية والمعونات، والحرية المطلقة للسوق الأميركية. لقد أصبحت أوروبا بإقامتها لأكبر سوق داخلية موحدة في العالم، استناداً لبعض التقديرات، عملاقاً اقتصادياً والسوق الأكبر في العالم، لكن ما يجعلها نموذجاً ليس الضخامة إنما نوعية اقتصادها. فتدني التفاوت في المساواة يسمح لدول الاتحاد بتوافر الأموال بدلاً من إنفاقها على الجريمة والسجون، وكذلك فاقتصادها ذات الكفاءة في استخدام الطاقة يحميها من الارتفاع الجنوني في أسعار النفط، ونموذجها الاجتماعي يوفر للناس الوقت والمتعة مع عائلاتهم. تمثل أوروبا بحسب ليوناردو علاقة عضوية من الحيوية والحرية الوافدة من الديموقراطية الاجتماعية. وهكذا فإنه مع تزايد الغنى في العالم وتحول الناس إلى ما هو أبعد من إرضاء الحاجات الأساسية مثل الجوع والصحة فإن طريقة العيش الأوروبية تصبح إغراء لا يمكن مقاومته. في كل زاوية من زوايا العالم تستمد الدول الإلهام من النموذج الأوروبي، وتنمي وتتعهد بالرعاية لأنديتها الخاصة على شاكلة النادي الأوروبي. هذا النوع من العدوى من شأنه أن يغير أفكارنا عن السياسة والاقتصاد ويعيد تعريف مفهوم القوة للقرن الحادي والعشرين. هذا الكتاب محاولة للدفاع عن أوروبا من أعدائها الذين يحاولون إخفاء إنجازاتها بإنحاء اللوم عليها ظلماً في اغلب الأحيان، ناسبين إليها كل أنواع الشر، أو الذين يريدون باسم القضية الأوروبية أن يحولوها إلى شيء آخر، دولة فيديرالية على النموذج الأميركي. هذان الصنفان نجحا في إضفاء التشاؤم على قلوب الأوروبيين، ولذا فإن هدف الكتاب هو مد يد العون للتخلص من هذا الجو التشاؤمي الظالم الذي غطى القارة قبل أن يصبح نبوءة محققة. * كاتب مصري