يُنصح بقراءة قصائد غونتر غراس قراءة أولى بواسطة العينين، ثم الاستعانة بمفك في قراءتها الثانية. وثمة وجه شبه بين القصائد هذه ورفوف «إيكيا» (ماركة الأثاث السهل التركيب البخسة الثمن). وهي شأن هذه الرفوف، تبدو على الورق بسيطة وغير معقدة التركيب. ولكن حين يبسط المرء أجزاءها جنباً الى جنب، يبدو جمعها محالاً وكأن الأجزاء متنافرة لا يجمعها جامع. ولا شك في ان القصيدة ليست رفاً خشبياً وأوجه الشبه بينهما ضعيفة. فهي (القصيدة) تخفي ما في داخلها وتحجبه. والقصيدة ترتقي قصيدة لحظة لا تفصح عن موضوعها الفعلي. ولذا، يُسأل تلامذة المدارس عن معاني القصائد وعما تخفيه. والقصيدة هي على خلاف الافتتاحية الصحافية، وهذه لا تتستر على موضوعها وفكرتها الرئيسية. ودرج القراء على مناقشة الافتتاحيات صباح كل يوم، وعلى إدلاء الواحد منهم برأيه فيها: أهي مصيبة في ما تسوقه أم غير مصيبة؟ وحين يجمع كاتب بين قصيدة وافتتاحية في نص واحد، يفترض بالقارئ أن يتساءل إذا كان ما يخفيه الشاعر يجافي الصواب أم لا؟. وهذه حال قصيدة حائز جائزة نوبل للآداب (1999)، غونتر غراس، «ما يجب قوله» أو «ما ينبغي أن يقال» المؤلفة من تسعة مقاطع شعرية التي نُشرت في بقاع المعمورة كلها، وأحجمت صحيفة «نيويورك تايمز» عن نشرها. وللوهلة الأولى، يبدو فهم القصيدة هذه يسيراً وأن بنيتها سلسة وبسيطة. و«ما يجب قوله» يُقال في المقطع السابع» «اسرائيل قوة نووية» تتهدد السلام في العالم. ويدور الكلام على إيران وإسرائيل، وعلى «قوة نووية محتملة» وعلى «معاداة السامية»، وبيع (ألمانيا) «غواصات» (لأسرائيل)، و«نفاق الغرب»، و«السلام في العالم»، و«المنشآت النووية الإيرانية»، و«الرقابة المستدامة» و«السلطة الدولية». وهذه عناصر تتناولها الافتتاحيات السياسية. ويسع المرء مناقشة القصيدة هذه على ما يناقش افتتاحية. وإذا استُثني ما قاله عن تهديد دولة اسرائيل السلام في العالم، يلاحظ المرء أن غراس لا يسوق رأياً شخصياً خاصاً به أو يأتي بما لم يأتِ به غيره. وسبق للكاتب الإسرائيلي، دايفيد غروسمن، أن ساق مثل هذه المواقف على صفحات هذه الصحيفة. وقبل أيام، نقلت صحيفة «هآرتز» الإسرائيلية تحذير هيلاري كلينتون، وزيرة الخارجية الأميركية، من عواقب هجمة اسرائيلية استباقية. وخلاصة قصيدة غراس في أول قراءة لها مفادها أن حائز جائزة نوبل للآداب يصدر بياناً عن السلام في العالم صاغه صياغة أدبية تتفوق على نظيرها الشائع في الأدب اليوم. ولكن مطالعة القصيدة مطالعةً من كسب لتفكيك أجزائها، تتكشف عن قصيدة ثانية تقلب رأساً على عقب خطاب ألمانياالغربية ما بعد الحرب الثانية. وكأن غراس يصوغ افتتاحية غنائية ليتمكن من حمل نفسه على انه ضحية اسرائيل (المحتملة). ويقول ان التاريخ الألماني حال، الى اليوم، دون التوجه الى اسرائيل مواجهة صريحة، وأن الحاجة تدعوه اليوم الى الكلام: «لماذا أصمتُ وأتستر وأبقي طي الكتمان وقتاً طويلاً ما هو بائن ويُعرض عرضاً يحاكي واقعاً أمامه، نحن الناجين لسنا سوى تفاصيل (على هامش التاريخ)» ويشير سيد اللغة الماهر هذا في القصيدة هذه اشارة لماحة الى عدد من المسائل. فيتكلم عن «ناجين» محتملين لن يكونوا «سوى تفاصيل التاريخ (الهامشية)» أو «سواقط التاريخ»، إذا لم تقيد يد اسرائيل. وهو يتوسل كلمة «الناجي» ويحوز سلطة الناجين من قمع الرايخ الثالث المعنوية. ويداعب كلمات خطاب ذكرى «ليلة الكريستال» الملقاة في 9 تشرين الثاني (نوفمبر) 2008. ويومها نددت شارلوت كنوبلوك، رئيسة المجلس المركزي اليهودي الألماني، بخطر تحول ضحايا الهولوكوست «تفاصيل ثانوية على هامش التاريخ». وردت أنغيلا مركيل، المستشارة الألمانية، على المخاوف هذه بعبارة ذاع صيتها:»المانيا ملتزمة وجود اسرائيل». وتحمل القصيدة رسالة يحسب القارئ، إذا غيّر عدداً من الكلمات، أنها تعود الى مقاوم فذ البصيرة في 1934. ويقول غراس: 1) صمتّ طويلاً، ولكنني لن اصمت بعد اليوم؛ 2) صمتُّ مكرهاً وخشيت الاضطهاد؛ 3) سأتهم بمعاداة السامية (وهي بدل لغوي عن «الخيانة الكبرى»)؛ 4) ولكن اليوم أتكلم لأن العدة تعد لإبادة شعب كامل. والحق ان مدار الكلام هذا ليس على اسرائيل او إيران. ويذكّر غراس بأن الجرائم الألمانية «شاذة/استثنائية» و»لا نظير لها». وما يدحضه بالكلمات، يوحي به تلميحاً. فهو يتوسل لغة الناجين من الهولوكوست (المحرقة). ولا ينسب غونتر غراس نفسه الى الناجين المستقبليين من إبادة مبرمجة فحسب، بل يميط اللثام عما حال دون قوله «الحقيقة»: «صمتُّ لأن أصلي هو أسير عيب لا يُشذب يمنعني من البوح بهذه الوقائع البينة لإسرائيل التي انا مرتبط بها وسأبقى مرتبطاً بها» وليس مرد صمت غراس الى فعل أقدم عليه. وهو ليس ثمرة تفكير عميق ومتأنٍ، بل مرده الى جيناته. «فالأصل عيبٌ أو خطأ». وهو لم يقل «جيلي» (الجيل الذي انتمي اليه) أو «بلدي» أو «تاريخنا» أو «تاريخي»، بل توسل مفهوم النسب:» الأصل». والتوسل هذا يقرن غراس بضحايا العنصرية وحاملي وصمتها. ولا يزعم أنه مضطهد بسبب أصله. ولكنه يرى ان الثمن المترتب على كلامه هو صنو الإعدام في العالم الأدبي: فأصوله حملته على الكذب. وإثر فك رموز القصيدة هذه على النحو هذا، لا تعود الى حالها الأولى. وليست القصيدة عن اسرائيل أو ايران أو السلام. ولكن من أين لغراس أن يصفي حسابه مع المنكرين الإيرانيين للإبادة ويصفه (النفي هذا أو الانكار) بالاستفزاز والتحدي، وأن يتهم اسرائيل بتهديد السلام العالمي في وقت واحد؟ ربما الجمع هذا هو ثمرة ضغينة جيل محبط اخلاقياً اصابته الخيبة الأخلاقية مدى الحياة، على ما يقال اشغال شاقة مدى الحياة. فغونتر غراس يدعو النقاش الى تناول حق الألمان في توجيه النقد الى اسرائيل. وحبذا لو يدور النقاش على مشروعية تصوير العالم كله على انه ضحية اسرائيل ليتصالح انسان في ال85 من العمر مع سيرته. وإثر نشر القصيدة، انهالت الاتهامات ب «معاداة السامية» على غونتر غراس من كل حدب وصوب، وطعن في تماسكه الإدراكي، وقيل انه يعاني عوارض الخرف. وهو يرى ان الاتهامات هذه جارحة ومخيبة. وأسرّ غراس لصحيفة «سودوتشي زيتونغ» أنه لو قيد له اعادة كتابة القصيدة وتعديلها، لاستخدم كلمة «حكومة نتانياهو» بدل اسرائيل». وإعلان نتانياهو أن غونتر غرانس شخص غير مرحب به في اسرائيل هو منعطف في الهجمات على الكاتب. وعدد من الشخصيات يدعو الى التسامح معه، وبعض آخر يتضامن معه على غرار جاكوب أوغستشاين الذي اعلن على موقع «دير شبيغل» الإلكتروني أن الفضل يعود الى غراس في «قول ما يجب قوله». * صحافي وكاتب وناقد فني، عن «فرانكفورتر ألغيمايني تسايتونغ» الألمانية، 12/4/2012، اعداد منال نحاس