الذكاء الاصطناعي والتعليم.. أداة مساعدة أم عائق للتفكير النقدي    جمعية لدعم المباني المتعثرة في الأحساء    أقوى كاميرا تكتشف الكون    انحسار السحب يهدد المناخ    العثور على سفينة من القرن ال16    البرتغالي"أرماندو إيفانجيليستا" مدرباً لضمك    الجوز.. حبة واحدة تحمي قلبك    الميتوكوندريا مفتاح علاج الورم الميلانيني    استشارية: 40% من حالات تأخر الإنجاب سببها الزوج    الطائف تستضيف انطلاق بطولة السعودية تويوتا صعود الهضبة 2025    "الرواشين" نموذج لفن العمارة السعودية الخشبية بالمدينة المنورة    بوسطن: أمر قضائي يعرقل منع الأجانب من دخول هارفارد    71 شهيدًا في غزة بينهم 50 من منتظري المساعدات    بنفيكا يهزم بايرن ميونيخ وينتزع صدارة المجموعة الثالثة    ولي العهد لأمير قطر: عدوان إيران سافر لا يمكن تبريره    نائب أمير الرياض يؤدي صلاة الميت على فيصل بن خالد    امتدادا لإستراتيجيته التمويلية المرنة.. صندوق الاستثمارات يؤسس برنامجه للأوراق التجارية    بعد حلوله وصيفاً ل" الرابعة".. الأخضر السعودي يواجه نظيره المكسيكي في ربع نهائي الكأس الذهبية    سمو ولي العهد يتلقى اتصالًا هاتفيًا من رئيس الجمهورية الإسلامية الإيرانية    سيناريوهات عبور الهلال لربع نهائي مونديال الأندية    الإطاحة ب 4 أشخاص لترويجهم أقراصاً خاضعة للتداول الطبي    شدد على تطوير "نافس" وحضانات الأطفال.. "الشورى" يطالب بربط البحث العلمي باحتياجات التنمية    المملكة تنضم إلى توصية منظمة "OECD".. السعودية رائد عالمي في تعزيز حوكمة الذكاء الاصطناعي    برامج التواصل الاجتماعي.. مفرقة للجماعات    أشاد بالتسهيلات خلال المغادرة.. القنصل العام الإيراني: ما قدمته المملكة يعكس نهجها في احترام الشعوب وخدمة الحجاج    حوافز جديدة للقطاع الصناعي    قطر توجه رسالة إلى الأمين العام للأمم المتحدة ومجلس الأمن بشأن الهجوم على قاعدة العديد الجوية    "التعاون الإسلامي" ترحب باتفاق وقف إطلاق النار بين طرفي التصعيد في المنطقة    أسرة الفقيد موسى محرّق تشكر أمير المنطقة على مشاعره النبيلة وتعزيته    إسرائيل تراجعت عن شن هجوم جديد على إيران    أول ورشة متنقلة لصيانة مساجد وجوامع مكة في "جمعية تعظيم"    نائب أمير منطقة جازان يتسلّم التقرير السنوي لسجون جازان للعام 2024م    إقفال طرح يونيو من الصكوك المحلية ب 2.355 مليار ريال    صور إنسانية من الماضي عن مدينة أبها    إنريكي: المنافسة الحقيقية في «مونديال الأندية» تبدأ الآن    ارتفاع مؤشر الأسهم السعودية 254 نقطة    الكعبة المشرفة تتزين بكسوتها الجديدة لعام 1447 ه    أكثر من 400 رحلة حج تغادر مطار المدينة    محافظ الأحساء يشيد بخيرية الجبر وبذلها نصف مليار ريال    الشؤون الإسلامية بالمدينة تكثف جهودها التوعوية    مجمع إرادة بالرياض يحتفل بتخريج 30 متعافيًا من منزل منتصف الطريق والرعاية اللاحقة    42.5 مليون عملية إلكترونية عبر "أبشر" في مايو 2025    تسجيل محمية عروق بني معارض في القائمة الخضراء للاتحاد الدولي لحماية الطبيعة    اعلان نتائج القبول لبرامج البورد السعودي في الاختصاصات الرئيسية والدبلومات 2025    من رواد الشعر الشعبي في جازان: سنام موسى مصيد البيشي    أمير تبوك يطلع على تقرير أعمال فرع وزارة التجارة بالمنطقة    أمين منطقة القصيم يوقع عقد مشروع صيانة الشوارع غرب مدينة بريدة بأكثر من 17 مليون ريال    جامعة أم القرى توقّع مذكرة تفاهم مع هيئة جامعة كامبردج لتعزيز التعاون الأكاديمي والبحثي في تعليم اللغة الإنجليزية    حرارة شديدة ورياح على أجزاء من عدة مناطق في المملكة    الهيئة الملكية تطلق حملة "مكة إرث حي" لإبراز القيمة الحضارية والتاريخية للعاصمة المقدسة    الإسلام دين الرحمة والتسامح لا مكان للكراهية والعنف    موعدنا في الملحق    أمير القصيم : عنيزة تمتاز بالسياحة الريفية والعلاجية    حكاية مؤرخ رحل    محمد بن سلمان: رؤية تُحوِّل الأحلام إلى حقائق    "البحوث والتواصل" يستقبل وفداً إعلامياً صينياً    السدو.. نسيج الذاكرة ومرآة الهوية    يرجى عدم المقاطعة!    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الاستشراق من وانسبرو إلى دونر ... بحثاً عن معرفة تاريخية
نشر في الحياة يوم 14 - 04 - 2012

إذا كان لنا بكلمة، أن نلخص إشكالات الدراسات الإسلاميّة وبخاصة في الغرب، فهي تتعلق ب «الميثودولوجيا»، ومدى منهجيّة النقد – التاريخيّ أو عدمه - في التعامل مع المصدر الإسلاميّ، أي مع «الرواية». وفي الحقيقة، هذا هو جوهر معركة المستشرقين في ما بينهم منذ بداية الربع الأخير من القرن العشرين وإلى الآن في دراسة ما يُعرف ب «تاريخ الإسلام وأصوله». سيَفتتح جون وانسبرو، المستشرق الأميركيّ، هذه المعركة سنة 1977 من خلال ما كتبه «Quranic Studies» (أكسفورد 1977)؛ إلا أنّ أول – وربما أقدر - من تصدى له بعد سنوات، هو فرد دونر، أيضاً المستشرق الأميركيّ، عن الرواية الإسلاميّة والتدوين «Narratives of Islamic Origins: The Beginnings of Islamic Historical Writing» (برينستون 1998). لكن مرة أخرى يعاود دونر، منذ وقت قريب، خوض تلك المعركة (إلا أنّه من خلال تقديم رؤيته الخاصة) في كتابه الجديد «Muhammad And The Believers, At The Origins Of Islam» (كامبريدج 2010).
في الوقت الذي كانت مناهج العلوم السوسيولوجيّة مهيمنة على الساحة الغربيّة عموماً في منتصف القرن العشرين، كان السيد هاملتون جب ومن بعده مونتغمري وات، اللذان نهلا من تلك المناهج، يغلقان باباً أمام معرفة وضعانيّة تاريخية وفيلولوجيّة... في دراسة التراث الإسلاميّ، هذه المعرفة التي دُعيت لاحقاً ب «الاستشراق الكلاسيكيّ». وفي الحقيقة، يُعتبر وات آخر من أغلق أبواب ذلك الاستشراق، ومهّد تالياً لنمط معرفي استشراقيّ في الغرب، سندعوه ب «الاستشراق الحديث». هكذا، فإن من الممكن توصيف وات بأنّه «الجسر» الواصل بين نمطين من المعرفة بما يخص تناول الإسلام. فهو من جهة، استوعب بنحو تام الدرس الفيلولوجيّ والنقديّ التاريخيّ الذي تزعمه ثيودور نولدكه (شيخ المستشرقين) وبلاشير وريتشارد بل وآرثر جفري... إلخ، وتجاوز من ثمّ ذلك، مبيّناً في أحيان كثيرة عيوبها وغلوها. إلا أنّه من جهة أخرى، فتح الباب على مصراعيه لإعادة لملمة، أو بمعنى أدق، هيكلة التراث الإسلاميّ، لكن بأدوات سوسيولوجيّة. والسيرة النبويّة كانت عنده البداية في ذلك. وبكلمة، تُعتبر محاولة وات النقديّة، الأولى تقريباً في محاولة شقّ طريق جديد يختلف على حدّ سواء عن كلا المنهجين اللذين كانا يسودان مجال الدراسات الإسلامية: المنهج الإسلاميّ التراثيّ، والمنهج الاستشراقيّ الكلاسيكيّ (ومن المهم ملاحظة أنّ هذين المنهجين محكومان ببراديغم ميثودولوجيّ واحد في شأن التعاطي مع الرواية الإسلاميّة).
للأسف، لن يكتب لوات النجاح. فبدلاً من قيام باحثين غربيين (أو حتى عرب أو مسلمين) بتطوير ما قدّمه وات والدفع به قدماً إلى الأمام بنحو نقديّ، جاءت ما بعد البنيويّة والفينومينولوجيا لتلقي بثقلها حتى على الباحثين المستشرقين. ما هو مُهمل إلى الآن في تناول الاستشراق هو هذه النقطة: إلى أيّ مدى أثرت مناهج وكتابات مثل رولان بارت ومن ثم جاك دريدا... إلخ وما قدموه من قراءات جديدة في نقد النص على مناهج المستشرقين في التعامل مع النص الإسلاميّ التراثيّ؟ لأول مرة تسود نزعة عدائيّة بنحو كبير ضد التاريخ عند جمْع من المستشرقين بتأثير تلك المناهج؛ إنّ رؤيةً مثل «موت المؤلف» (التي ستترك أثرها على المستشرقين المشككين) تعني بكل بساطة في نهاية المطاف «موت السياق» الذي أنتج النص؛ وموت السياق يعني موت مجتمعه وموت أيّ معرفة نقدية تاريخانيّة تحاول أن تتعرف إليه... إلخ. السلطة من الآن فصاعداً هي ل «القارئ» فقط، وسرقة النص من تاريخه وتعليقه بين قوسين.
جون وانسبرو (1928 - 2002)، مملوء ومعبأ بذلك العبث المابعديّ، سيقول لنا سنة 1977 إنّه لا مكان للقرآن في منطقة الحجاز سوى أن نبحث عن ذلك في أراضي سورية وبلاد ما بين الرافدين (وبخاصة الأخيرة)، وأنّ لا تاريخ زمانيّاً له سوى أن نموضعه بدءاً من القرن التاسع الميلادي (الثالث الهجري) فما فوق... إلخ.
هل كان بإمكان وانسبرو أن يفجّر هذه القنبلة ويشدّ رحاله إلى واشنطن للتسوّح؟ قطعاً لا. عليه أن يتمتع بآثار ما خلّفته هذه الصاعقة. وانسبرو في حقيقة الأمر، افتتح مرحلة أخرى من الاستشراق هي مرحلة العبث والفوضى، والتي ستنتج لنا باحثين متحمّسين في العداء للتاريخ: باتريشا كرون، جيرالد هاوتينغ، أندرو رويبن، مايكل كوك... إلخ. وفي الواقع، بمقدار ما كانت أنظار هؤلاء تتجه في معظم كتاباتهم للبحث عن أصول الإسلام في التاريخ، بمقدار ما كان محرّكهم الأساسيّ هو سحب البساط التاريخيّ من تحت أرجل الإسلام.
إلى هذه اللحظة، ربما أفضل وصف أُطلق على ميدان الدراسات الإسلامية في الغرب، وبخاصة الدراسات القرآنية كحقل للبحوث الأكاديمية هو ذلك الذي أطلقه فرد دونر (ولد 1945) بأنّ تلك الدراسات هي «في حالة من الفوضى» (ما قدّمه وانسبرو تحديداً). لا شك في أنّ ما قام به دونر في كتابه عن الراوية الإسلاميّة والتدوين يُعتبر شديدَ الأهميّة، لإعادة النّصاب قليلاً إلى المعرفة التاريخيّة، سواء قبلنا بما توصل إليه دونر من نتائج أم لا. ذلك أنّ الإشكال هنا لا يتعلق بالأفكار، بمقدار ما يتعلق بإشكالية المنهج، وتأصيل نقد أو معرفة تاريخيّة ميثودولوجيّة.
نحن نعلم أنّ غالباً ما تكون نتائج المنهج النقديّ متضمّنة في المنهج ذاته، أي يمكن أن نقرأ النتائج من خلال المنهج ذاته؛ لكن ماذا لو كان هناك انعدام أيّة رؤية منهجيّة بالأصل؟ كيف ستكون الحال؟ ما هو قائم بالفعل في هذه الفوضى هو العبث اللامنهجيّ، ورفض تناول الرواية الإسلاميّة نقديّاً. حتى ما قدمه إيغناس غولدزيهر وجوزيف شاخت في شأن ما أسّساه من رؤى نقديّة في تناول الرواية الإسلاميّة، تمّ نسفه بواسطة هذا العبث المابعدي. الملاحظة الأشد بروزاً في هذا التطرف الاستشراقيّ الحديث أنهم منذ البداية لا يتعاملون مع النصوص الإسلاميّة سوى أنها «كلّها» مواد «ذهنية»، «مخيالية»، أنتجتها طوائف المسلمين سواء في جدالاتهم فيما بينهم، أو أمام الشعوب اليهودية والمسيحية التي كانوا يفتحون أراضيها (لغاية خلق تراث و «أبطال» لهم لمماثلة أبطال الآخرين وتراثهم الربانيّ، التراث اليهو - مسيحيّ).
دونر بيّن عيوب كتابة الرواية الإسلاميّة برؤيته هو؛ لكنه أصرّ على أن نبتدئ من الرواية الإسلاميّة، لكن ك «مؤرخين، علينا أن نتساءل ما هي المظاهر التي يمكن أن تفيده هذه الرواية عن السياق التاريخي الكامل الذي ظهر فيه أولاً الإسلام». لقد وصل الحدّ عند باتريشا كرون بإلغاء السياق التاريخي للإسلام كاملاً، وبأنّ الكعبة ومكّة تقعان في مكانٍ غير الذي نعرفه اليوم! (قدّمت هذه الرؤية في كتابها «Meccan Trade» /برينستون 1987/) هل هذا نقد أم عبث؟ لكنْ بإمكاننا القول إنّ هذا أحد نتائج عبث وانسبرو.
ما الذي يمكن تقديمه من دلائل نقد - تاريخيّة في تدعيم هذه الرؤى؟ بكل صراحة: لا شيء. الشك هنا ليس من أجل الدفع قدماً بالنقد، بل الشك من أجل الشك. إنه برفض ممارسة نقد الرواية الإسلاميّة، (برفضها كليّة) والاستعاضة عن ذلك ب «اللامنهج»، والاكتفاء فقط بالنقد المجاني، وممارسة مجرد دعايات إعلاميّة، سيزيد من تعقيدات الإشكالات المطروحة حول التراث الإسلاميّ من دون تقديم أيّة بدائل نقديّة يمكن أن تفيد في درسه. وفوق ذلك، إنه من دون الاستناد إلى أيّة قاعدة ممنهجة بمعرفة تاريخيّة نقديّة، فإننا مع هؤلاء التشكيكيين سنصل إلى نقطة عدم الوصول إلى أيّ حل، ما دمنا غير منضبطبن بقواعد النقد التاريخيّ، أي سنبقى (كما يعبر الفينومينولوجيون في درسهم «الظواهر») معلّقين في الهواء بين قوسين!
* كاتب سوري


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.