الأمير محمد بن عبدالعزيز يرفع الشكر للقيادة بمناسبة تعيينه أميرًا لمنطقة جازان    إحباط تهريب (43) كيلوجرامًا من مادة الحشيش المخدر بجازان    وزير الخارجية يستقبل نائب رئيس دولة فلسطين    الهند وباكستان تتبادلان الاتهامات بشنّ هجمات بمسيرات    جامعة أمِّ القُرى تنظِّم الملتقى العلمي الرَّابع لطلبة المنح الدِّراسيَّة    الهلال الأحمر يُفعّل اليوم العالمي للهلال الأحمر تحت شعار "الإنسانية تجمعنا"    رئاسة الشؤون الدينية تدشن أكثر من 20 مبادرة إثرائية    الربيعة يطمئن على صحة التوأم الملتصق الصومالي "رحمة ورملا"    بعد إلغاء جولة "باها تبوك" تويوتا 2025 بطولة السعودية تويوتا للراليات تواصل مسيرتها بثلاث جولات هذا العام    دوناروما : سان جيرمان أصبح فريقا حقيقيا بدون النجوم الكبار    اللغة تسهل اجراءات مبادرة طريق مكة في إسلام آباد    جناح "مكة عبر التاريخ" يأسر اهتمام الزوّار في معرض "جسور"بكوسوفو    ابناء علي بن محمد الجميعه رحمه الله يدعمون مبادرات حائل    المملكة تنضم إلى اتفاقية منظمة "الفاو" لمكافحة الصيد البحري الجائر    "جامعة نايف" تحصل على اعتماد دولي لكافة برامجها التدريبية    جامعي الخبر يحصل على الاعتماد الكامل من الهيئة المشتركة لاعتماد المنشآت الصحية الأمريكية    منظومة رقمية لإدارة دوري روشن بالذكاء الاصطناعي    تعليم جازان ينظم لقاءً تربويًا بعنوان رحلة التحول في منظومة حوكمة إدارات ومكاتب التعليم لمديري ومديرات المدارس    انخفاض أسعار الذهب مع تخفيف حدة التوترات التجارية    جامعة الإمام عبد الرحمن تكرم الفائزين ب"جائزة تاج" للتميز في تطوير التعليم الجامعي ب 18 جائزة    وزارة الثقافة الفلسطينية تطلق جائزة القدس للمرأة العربية للإبداع الأدبي في الرواية العربية المنشورة    قمة بغداد: نحو نهج عربي جديد    ريم العبلي وزيرة في المانيا حظيت باهتمام الناشطين العرب عبر وسائل التواصل الاجتماعي؟    إنجازان جديدان لجامعة إماراتية التنبؤ بالجلطات الدموية والعزل بمخلفات النخيل    أوكرانيا: قصف روسي لعدة مناطق رغم إعلان بوتين عن وقف إطلاق النار    الديوان الملكي: وفاة صاحبة السمو الملكي الأميرة/ جواهر بنت بندر بن محمد بن عبدالعزيز آل سعود    أمير منطقة المدينة المنورة يلتقي وزير التعليم    "النقل" تمهل ملاك القوارب المهملة شهرًا لمراجعتها    إطلاق أول دليل سعودي ل"الذكاء الاصطناعي" لذوي الإعاقة    صياحه يزعج الجيران.. غرامة بحق بريطاني بسبب ديك    90 مليار دولار إسهام "الطيران" في الاقتصاد السعودي    الخريف التقى قادة "إيرباص" في تولوز .. تعاون «سعودي-فرنسي» في صناعات الفضاء    أخبار وأسواق    في ختام الجولة 30 من روشن.. الاتحاد يقترب من حسم اللقب.. والأهلي يتقدم للثالث    11 فيلمًا وثائقيًا تثري برنامج "أيام البحر الأحمر"    في إياب نصف نهائي يوروبا ليغ.. بيلباو ينتظر معجزة أمام يونايتد.. وتوتنهام يخشى مفاجآت جليمت    الأهلي بطلًا لدوري المحترفين الإلكتروني (eSPL)    15 مليون دولار مكافأة لتفكيك شبكات المليشيا.. ضربات إسرائيل الجوية تعمق أزمة الحوثيين    تصاعد وتيرة التصعيد العسكري.. الجيش السوداني يحبط هجوماً على أكبر قاعدة بحرية    الزهراني يحتفل بزواج ابنه أنس    إنفاذًا لتوجيهات خادم الحرمين الشريفين وسمو ولي العهد.. وصول التوأم الملتصق الصومالي "رحمة ورملا" إلى الرياض    استخدام الأطفال المصاعد بمفردهم.. خطر    الرُّؤى والمتشهُّون    وأخرى توثّق تاريخ الطب الشعبي في القصيم    بين السلاح والضمير السعودي    ألم الفقد    الرياض تتنفس صحة    الدفاع المدني: استمرار هطول الأمطار الرعدية على معظم مناطق المملكة حتى الأحد المقبل    الخط السعودي في مدرجات الذهب.. حين يتجلّى الحرف هويةً ويهتف دعمًا    الأميرة دعاء نموذج لتفعيل اليوم العالمي للأسرة    همسة إلى لجنة الاستقطاب    أحمد الديين الشيوعي الأخير    تطوير قطاع الرعاية الجلدية وتوفير أنظمة دعم للمرضى    الموافقة على استحداث عدد من البرامج الاكاديمية الجديدة بالجامعة    أمير تبوك يرعى حفل تخريج طلاب وطالبات جامعة فهد بن سلطان    المرأة السعودية تشارك في خدمة المستفيدين من مبادرة طريق مكة    الرياض تستضيف النسخة الأولى من منتدى حوار المدن العربية الأوروبية    رشيد حميد راعي هلا وألفين تحية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



أحمد راشد ثاني الذي سرقه شقيقه الليل
نشر في الحياة يوم 26 - 02 - 2012

مات الشاعر أحمد راشد ثاني على «الحافة» مثلما عاش أعوامه كلّها على «الحافة»، غير آبه للأخطار التي طالما أحدقت به. إنها حافة الوجود التي تطلّ على الحياة من جهة وعلى الموت من جهة أخرى، الحافة التي تفصل بين البحر والجبل أو الصحراء في بلدته «خورفكان» في شمال الإمارات، الحافة التي تفصل أيضاً بين عالمه الأول الذي يفيض براءة وصفاء، وعالمه الثاني الذي صنعته القصيدة، بصفتها طريقة حياة وكتابة في آن واحد. رحل أحمد راشد ثاني قبل أن يكمل الخمسين، كانت تنقصه أشهر قليلة ليجتاز أزمة منتصف العمر التي كان بدأها أصلاً باكراً في الثلاثين ربّما، تبعاً لحياته التي لم تشبه يوماً ما نسمّيه الحياة. فهذا الشاعر الذي أدرك، على غرار الشاعر الفرنسي بودلير، أنّه دفع من رحم أمه إلى هذا العالم وليداً «مطروداً»، خامرته لعنة الشعراء المحذوفين والمهمّشين والصعاليك، الذين لم يملكوا سوى «بصيص الألم»، كما يعبّر، ولم يتركوا وراءهم سوى قصائدهم وميراث من المآسي الصغيرة والخيبات والهزائم.
كان أحمد راشد ثاني في حال من التواصل الدائم مع ماضيه الذي غادره بالجسد وليس بالروح. ظلّ مشدوداً إلى «الحوش» وإلى شجرة «الشريشة» وإلى خورفكان، البلدة التي تتوسّط البحر والجبل الصحراوي. أما الشجرة هذه، الشريشة، التي لا تنبت إلا في الصحراء، فكانت أشبه ب «البوصلة» التي كان يعتمدها حيثما رحل أو سافر أو تشرّد. إنها شجرة الطفولة التي كثيراً ما لاذ إلى أفيائها، في أوقات الشدّة والغربة. إنها وليدة البحر والجبل، البحر الذي ركب والده البحّار أمواجه والجبل الذي ولدت أمّه في كنفه، هي «سليلة المزارعين، سكان الجبال»، كما يقول. ولا غرابة أن يتراوح شعر أحمد راشد ثاني بين هذين القطبين المتواجهين، البحر في ما يعني من سفر وانعتاق، والجبل في ما يضمر من براءة وقسوة... ومثل هذين، البحر والجبل، كان أحمد راشد شاعر الرحيل وشاعر الإقامة.
عندما علمت أن شاعر «دم الشمعة» أصبح باحثاً رصيناً، شغوفاً بالتراث الإماراتي، لم أصدّق. فهو شاعر مفطور على الصعلكة، ولكن الصعلكة الجميلة، مجبول بهاجس الترحّل أو الترحال... «تحت كلّ طاولة تنتظرني قدماي كي نخرج» يقول أحمد. وإذا خرج فهو يعلم أنّ العودة هي ضرب من ضروب الخروج والصعلكة وليست رجوعاً إلى الوراء. ترى أليس هو مَن قال: «إلى أين أرجع والبيت عاصفتي»؟ لكنّ الخروج لم يعنِ له يوماً إلا هروباً إلى الأمام أو كما يقول «فراراً وافر الوحشة»، إنه الخروج من سجن إلى سجن رحب، من غرفة إلى صحراء، قد تكون مدينة أو بلاداً. والشاعر يعلم علم اليقين أنّه غدا «كمن ينتظر قطاراً في هذه الصحراء»، وسواء أطلق القطار صفيره أم لا، ف «القطارات تتصادم في رأسي»، يقول.
لم يكن أحمد راشد ثاني مقلاً في شعره، لكنه لم يكن مغزاراً، وقد كتب أعمالاً مسرحية ونصوصاً نثرية. ولعلّه بدا في ما كتب من قصائد، على اختلاف أنواعها وفنونها، كأنّه يكتب قصيدة واحدة، متقطّعة، زمناً ومراحل، هي قصيدة حياته في ما تخفي من مآسٍ وآلام وآمال وأحلام وخيبات وأسئلة. كأنّ أحمد راشد ثاني شاء أن يكتب لنفسه سيرة من خلال الشعر أو في قلب هذا الشعر وفي صميمه. وقد بدا شعره ذا منحى ذاتي بيّن، ليس من خلال الحضور الطاغي ل «الأنا» المسحوقة والرومنطيقية أحياناً فحسب، وإنّما عبر النَفَس الوجودي الذي يسم قصائده، والذي يجعل من الذات مرآة للعالم الداخلي والعالم الخارجي في الحين عينه. وعندما كان يخرج عن مساق هذه الأنا – الذات فهو كان يحيل المشهد الذي يبصره سواء بعينه أم بخياله، مشهداً ذاتياً، مضفياً عليه ظلّه الشفاف والكامد. «لماذا تفضل الأمواج/ الانتحار/ على الحياة في البحر؟»، يسأل الشاعر من غير أن ينتظر جواباً لأنّه يعلم أنّ هذا الانتحار يشبه رغبته في الارتماء الدائم في بحر الحياة التي تشبه الموت.
عاش أحمد راشد ثاني حياته أيضاً كأنها قصيدة مفتوحة على الحياة نفسها، الحياة بما تعني من مغامرة دائمة ومخاطرة ومواجهة وكشف أو اكتشاف. كان يحلو له مراراً أن يتمثل حياة الشعراء الصعاليك، القدامى والمحدثين، فكان يزور المدن «الغريبة»، يتنزه على أرصفتها، يتنقل بين حاناتها، مطفئاً في ليلها وحشته المرّة، التي كانت ترافقه دوماً. حتى النهار كان «ميتاً» في نظره، كما يقول، ويضيف: «ها أنا أدفنه في الكأس»... وكم كان يحلو له أن يتصعلك في القاهرة وبيروت ودمشق، كما في بعض المدن الأوروبية، علاوة على ليل الفنادق في أبو ظبي ودبي، وفق ما يعترف. وكان الفندق، في هذا القبيل معلماً من معالم حياته الهاربة إلى الأمام أو إلى الوراء، لا فرق. لكنّه كان دوماً على يقين أو ربّما إيمان، أنّه، مهما استبدّت به الظروف، يمكنه «من هناك» أن ينادي على جبال خورفكان، فتهب لملاقاته، كما يعبّر في إحدى قصائده.
كان أحمد راشد ثاني، شاعراً فطرياً ومثقفاً في آن، قارئاً نهماً، يطارد الكتب والصحف بنهم، يطلع على الجديد أياً يكن... لكنّ فطريته العظيمة كانت تطحن كلّ ما كان يأخذ من هنا وهناك وكلّ ما يؤثّر فيه أو يتأثر به. ولعلّها هي التي ساعدته في صنع صوته الخاص وكتابة قصيدته الخاصة. هذه القصيدة المشرعة على شعريات عدّة والمغلقة على نفسها، على شعريّتها ولغتها. هكذا لم يشبه أحمد راشد ثاني إلا نفسه، لم يشبه أحداً من شعراء جيله في العالم العربي ولم يشبهه أحد من هؤلاء الشعراء الذين جايلوه وصنعوا معاً تياراً أو موجة.
وكم كان يحلو له أن يتحدث عن العلاقة التي جمعته بالشاعر محمد الماغوط الذي احتضنه في بداياته أيام كان الماغوط يقيم في الشارقة ويشرف على الملحق الثقافي فيها، وكان ينشر قصائده ويشجعه على التحرر من ربقة الشروط المسبقة. وعندما كتب عنه مرة الشاعر أنسي الحاج مرحّباً بصوته فرح كثيراً وشعر بأنّ هذا الترحاب يحمل تحية من مجلة «شعر» التي يتمثّل شعراءها في وجدانه. كان أحمد شاعراً عبثياً وساخراً، طفلاً، «شريراً» في أحيان، ولكن في المعنى الجميل للشر، لا يداهن ولا يحابي، ينتقد بقسوة، وينفعل ثم يهدأ. وكان يغيظه كثيراً «المديح» المجاني الذي يكيله النقاد العرب للأدب الإماراتي، كيفما اتفق، طمعاً بمال أو هبات... كان أحمد راشد ثاني يهبّ منفعلاً وكان يلذع بكلامه العدائي، لكنّه سرعان ما كان يهدأ ويعتذر. كان شخصاً حقيقياً، لم يسع يوماً نحو منصب أو مجد أو ثروة. كان يكتفي براتبه حتى وإن لم يكن يكفيه، هو الفوضوي بامتياز، الذي لم يعرف كيف ينظّم حياته حتى خلال زواجه. وقبل بضعة أشهر من رحيله، احترق منزله وشاهد بعينيه مكتبته وكتبه وأوراقه تحترق وتستحيل رماداً. وقيل إنّ حزناً عميقاً حلّ به، بعدما خسر ثروته الوحيدة.
بعد هذا الحريق، جاء الليل وأخذ أحمد راشد ثاني، كما يعبّر عنوان ديوان له صدر عام 2007، لكنه حتماً لم يخف هذا الليل الذي خطفه، هو الذي قال: «الليل أخي بالرضاعة».


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.