يقف محمد المغربي الذي تخطى عقده السابع، امام الجامع الصغير الذي آواه لليلة واحدة قبل اكثر من نصف قرن. تنهمر دموعه من دون مقاومة. «لم يتسن لي أن ابكي حياتي السابقة من قبل، يحق لي البكاء الآن»... يوجه محمد حديثه بالهولندية الى الكاميرا التي رافقته من بيته في بلجيكا، الى أمكنة طفولته في الريف المغربي ومدينة طنجة، وقبل هجرته نهاية عقد الخمسينات، كجزء من الهجرة الواسعة لشباب من دول المغرب العربي الى اوروبا، القارة التي كانت تبحث عن سواعد شابة لبناء ما دمرته الحرب العالمية الثانية. محمد الذي سجل التلفزيون البلجيكي الناطق بالهولندية رحلته في برنامج عرض أخيراً على قناة «كنفاس»، لم يعد لديه الكثير من الاهل في المغرب. قصته ايضاً لا تشبه قصص كثر. فهو لم يعرف والده الذي توفي وهو في الثالثة من عمره، لتربيه الأم التي رحلت هي ايضاً ولم يكن محمد تجاوز السادسة عشرة. وعلى رغم المآسي العائلية، فإن محمد ما ان يطأ ارض قريته الصغيرة وبيت طفولتة القديم، حتى يكتشف بأنه في هذا الجزء الصغير المنسي من العالم فقط، عرف السعادة الوحيدة في حياته. هجرة محمد الاولى لم تكن الى برد البلد الاوروبي الذي سيتوجه اليه بعد سنوات. هي تبدأ من قريته الصغيرة، وبعد رحيل الام، الى طنجة، ليعيش سنوات صعبة جداً بسبب غياب فرص العمل آنذاك، وغياب اي نوع من الدعم لإكمال دراسته مثلاً. كل ذلك يدفعه مع آلاف غيره من الشباب المغربي، ليقف على ابواب سفارات دول اوروبية، بحثاً عن فرص عمل على الجانب الآخر من البحر. لا يكتفي البرنامج التلفزيوني بتتبع آثار صبا محمد في بلاده. هو يحاول ان يرصد التغييرات التي مرت على المغرب بعيون احد ابنائه المهاجرين ويسلط الانتباه اليها. يعود محمد الى احدى صالات السينما في طنجة والتي كان يرتادها قبل هجرته، ليجدها مقفلة، بعد ان قل زوارها في مدينة تتغير بسرعة هي الأخرى، لتكون نسخة عن مدن اوروبية (كما يراها محمد نفسه)، بحيث لم تعد المدينة نفسها التي قضى فيها سنوات قليلة قبل هجرته الى بلجيكا. قبل بداية الرحلة التلفزيونية الطويلة التي قطعها المهاجر المغربي الى بلده الاصلي، قال على ظهر السفينة التي ستقله من الميناء الاسباني الى طنجة، انه وافق على الاشتراك في هذا البرنامج التلفزيوني بسبب رغبته بأن يتعرف ابناء الجيلين الثاني والثالث من المهاجرين العرب في اوروبا الى اصولهم والرحلة التي قطعها الجيل الاول. ليس اكيداً ان البرنامج سيقدم اي «دروس» نافعة لأحد. ولا حتى لشباب من اصول عربية يعيشون في اوروبا، فالرحلة التي يقدمها ستهيمن عليها العاطفة والذاتية. ولكن ربما سيعزز البرنامج، ما تناولته افلام وبرامج تلفزيونية مشابهة، في ان البلدان الاصلية لم تعد هي الاوطان «العاطفية» الاولى للمهاجرين الاوائل، وهو الامر الذي يثقل قلب محمد الذي يكشف في نهاية الحلقة الثانية من البرنامج، بأنه لا يشعر بأن المغرب هو بلده بالكامل، بالمقدار ذاته الذي لا يجعل بلجيكا وطنه ايضاً. هو يعيش بين بلدين وانتمائين لبقية حياته. البرنامج يوجه انتباه مشاهديه، بخاصة الاوروبيين الى النموذج الذي يمثله محمد، والذي تحاصره الصور النمطية التي كرس بعضها الاعلام. فتحت اللحية البيضاء وغطاء الرأس الذي يشير الى دين صاحبه، هناك انسان شديد الحساسية والذكاء، والذي ربما لو توافرت له فرص مختلفة في المغرب، لكانت حياته توجهت وجهة أخرى.