المملكة في صدارة الدول بالترفيه الرقمي ب34 مليون مستخدم    انطلاق مباريات المجموعتين الخامسة والسادسة بكأس أمم أفريقيا.. صراع عربي يجمع الجزائر والسودان.. وبوركينا فاسو أمام غينيا    «الشورى» يطالب جامعات بتطوير المشاريع الأكاديمية    موسم جازان هوية ثقافية ومنافسة شبابية    ثورة الخوارزميات الرحيمة    إنجاز تقني يجسد الريادة    11 شكوى يوميا بهيئة السوق المالية    السعودية تتصدر سوق القهوة ب 5100 علامة تجارية    عبدالعزيز بن سعود يدشّن عددًا من المشروعات ومركزًا تاريخيًّا لحرس الحدود بمنطقة الجوف    موسكو ودمشق تناقشان التعاون العسكري    تركيا: طائرة رئيس الأركان الليبي أبلغت عن عطل قبل تحطمها    14 دولة تدعو إسرائيل إلى وقف التمدد الاستيطاني    نائب أمير تبوك يواسي أسرة الخريصي في وفاة الشيخ أحمد الخريصي    "كلاسيكو" الاتحاد والشباب يشعل الجولة 11    الشباب يعلن غياب مهاجمه عبدالرزاق حمد الله لقرابة شهرين    النصر يسحق الزوراء بخماسية    نيفيز يُشعل الصحف الأوروبية.. انتقال محتمل يربك حسابات الهلال    "خيسوس": قدمنا أداءً مميزاً رغم التوقف الطويل    عبدالعزيز بن سعود يلتقي أهالي منطقة الجوف    الشتاء والمطر    مدير تعليم الطائف يتفقد مدارس شقصان وبسل    أوروبا تندد بحظر أميركا منح تأشيرات لشخصيات من القارة    الصالحاني يضع أسس البداية عبر «موهبتك لا تكفي»    معرض «وِرث» ينطلق في جاكس    «النسر والعقاب» في ترجمة عربية حديثة    مرحوم لا محروم    النيكوتين باوتشز    مؤسسة كأس العالم للرياضات الإلكترونية توقّع مذكرة تفاهم مع "غدن"    العثور على مسجلات طائرة تحطمت في تركيا    هياط المناسبات الاجتماعية    القبض على (3) باكستانيين في جدة لترويجهم (3) كجم "حشيش"    القيادة تهنئ رئيس المجلس الرئاسي الليبي بذكرى الاستقلال    مساعدات إنسانيّة سعودية جديدة تعبر منفذ رفح متجهة إلى غزة    أمانة القصيم تصادر 373 كيلو من المواد الغذائية الفاسدة خلال الربع الأخير للعام 2025م بمحافظة الرس    سفير المملكة في جيبوتي يسلّم درع سمو الوزير للتميّز للقحطاني    30 مليار ريال مبيعات التجارة الإلكترونية في أكتوبر الماضي    فيصل بن بندر يستقبل رئيس وأعضاء مجلس إدارة جمعية "مكنون" لتحفيظ القرآن الكريم بالرياض    كلية الطب بجامعة الإمام عبد الرحمن بن فيصل تحتفي ب50 عامًا من العطاء في يوبيلها الذهبي    الجوازات تصدر 17.767 قرارا إداريا بحق مخالفين لأنظمة الإقامة والعمل وأمن الحدود    «قصاصات المطر»… الشعر بوصفه ذاكرة مفتوحة على التأمل    البرلمان الجزائري يصوّت على قانون يجرّم الاستعمار الفرنسي    فلكية جدة: النجوم أكثر لمعاناً في فصل الشتاء    10.5 مليون ريال إيرادات السينما السعودية في أسبوع    روح وريان    تأكيد على أهمية دور لجان الصداقة البرلمانية.. آل الشيخ ورئيس النواب الماليزي يبحثان تعزيز العلاقات    رعى «جائزة مدن للتميز»..الخريف: الصناعة السعودية ترتكز على الابتكار والاستثمارات النوعية    موجز    مسجد القبلتين.. شاهد على التاريخ    اطلع على سير العمل في محكمة التنفيذ.. رئيس ديوان المظالم: تفعيل المبادرات الابتكارية في مفاصل «التنفيذ الإداري»    «فايزر» تعلن وفاة مريض بعد تلقيه دواء لعلاج سيولة الدم في تجربة    القيسي يناقش التراث الشفهي بثلوثية الحميد    الضحك يعزز صحة القلب والمناعة    المشروبات الساخنة خطر صامت    نجاح أول عملية للعمود الفقري بتقنية OLIF    فلتعل التحية إجلالا وإكبارا لرجال الأمن البواسل    الكلام    أمير جازان يستقبل رئيس جامعة جازان الدكتور محمد بن حسن أبو راسين    إنفاذاً لأمر خادم الحرمين الشريفين.. وزير الدفاع يقلد قائد الجيش الباكستاني وسام الملك عبدالعزيز    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.




نشر في الحياة يوم 13 - 07 - 2006

لعل أفضل مدخل للتعرف إلى حقيقة فكر ابن خلدون، هو الوقوف عند بعض لمحاته الرائعة في الفكر السياسي القائم على التشخيص المجتمعي الدقيق لأوضاع المجتمع العربي في سياقه التاريخي، الذي مازال ماثلاً ومؤثراً إلى درجة كبيرة ومن لا يستفيد من أخطاء تاريخه، محكوم بإعادتها.
وإذا كان فكر ابن خلدون قد جاء في الماضي في ختام المشهد الحضاري العربي، فلم يتأسس عليه بناء فكري يذكر، كما لم يستوعبه فكر النهضة الحديثة الذي افتقر إلى الواقعية الاجتماعية وانشغل بالرومانسيات التاريخية، فالمفروض، قبل فوات الأوان، أن نؤسس عليه اليوم فكراً مجتمعياً للمراجعة والتصحيح، فواقعنا الاجتماعي المتوارث تاريخياً من زمن ابن خلدون، وما قبل، يحتم علينا الرجوع لابن خلدون، والبدء به، في فكرنا الاجتماعي الجديد، إن أردنا له أن يحقق فهماً للواقع وقدرةً على تغييره. ولن نتجاوز ابن خلدون إلا بعد استيعاب الخلدونية!
بداية نذكر ما أشار إليه باحثون عدة في فكر ابن خلدون إلى أنه كان رائداً في الإرهاص والإيماء إلى مسألتين هامتين تنبّه اليهما الفكر الحديث بعامة، وذلك قبل أن نركز على ما خص به الواقع العربي من تشخيص ونقد:
اولاً: ان القيمة الاقتصادية للسلعة يحددها الجهد الإنساني العمالي المبذول فيها وليس مجرد قيمتها المادية. وهي مسألة بني عليها الفكر الاجتماعي الحديث - الاشتراكي خاصة - في دعوته إلى إنصاف العمال الذين يضيف جهدهم إلى قيمة السلعة، أحياناً في ظروف قاسية. وهي قيمة يستفيد منها الرأسماليون عادة في النظم التي لا تنصف العمال. لم يصل ابن خلدون إلى هذه الدعوة الصريحة لكنه اقترب كثيراً من مضمونها الفكري. وذلك ما يفسر احتفاء كتاب يساريين عرب به وإن لم يكن حكراً عليهم، إذا لاحظنا، منذ مطلع النهضة اهتمام الشيخ الإمام محمد عبده به، وكذلك طه حسين وساطع الحصري. ولكن الحقيقة أن هؤلاء المفكرين الكبار لم يستطيعوا إدماج فكره"الإجتماعي"في ثقافة النهضة أو الحركة القومية. ومن أسوأ ما تعرض له ابن خلدون إتهام د. محمود إسماعيل له 1976 بالسطو على أفكار"إخوان الصفا"في فلسفته الاجتماعية على الرغم من عقلانيته البارزة وقصور فكر"الإخوان"عنها أساساً. ومازال ابن خلدون يثير حماسة الكتاب العرب فتتراوح أعمالهم بين نقد لاذع وروايات تدمج التاريخ بالمتخيل. كما في كتابات الدكتور سالم حميش التي وجدها أكثر الباحثين العرب المعاصرين متابعة للخلدونية في تلاوينها.
ثانياً: انه أومأ إلى شيء قريب جداً من الفكرة القومية الجامعة عندما تحدث عن"دولة العرب"، ثم"دولة الفرس"، ثم"دولة الترك"في سياق التاريخ الإسلامي. صحيح أنه بنى فكره في تفسير الاجتماع والتاريخ لدى العرب على"العصبية القبلية"-وهو واقع لا يستطيع أي مفكر حقيقي تجاهله - لكنه أشار أيضاً إلى أن تلك العصائب القبلية إذا تحالفت، خاصةً في ظل"دعوة دينية"تستطيع أن تؤسس لتحالف أوسع بينها يستند إلى حقيقة كونها منتمية إلى"قوم"متميز من الأقوام.
يقول في المقدمة:"... فتتألف كلمة القوم لإظهار الحق، ويتم اجتماعهم، ويحصل لهم التغلب"أي بتأثير الدعوة"المزيلة للغلظة والأنفة ومذمومات الأخلاق... وسرّه أن القلوب إذا تداعت إلى أهواء الباطل والميل إلى الدنيا حصل التنافس ونشأ الخلاف، وإذا انصرفت إلى الحق، اتحدت وجهتها، واتسع نطاق الكلمة لذلك فعظمت الدولة...".
وهذا يعني أن ابن خلدون يسجل ويقّر لمثاليات الدعوة والقيم دورها في لم الشمل القومي، لكنه لا يغفل ان لم الشمل ممكن أساساً لتشابه"القوم"كما تقدم. راجع دراسة الكاتب في مجلة"العربي"آذار/ مارس 1983 بعنوان"ابن خلدون وسيطاً بين العروبيين والإسلاميين"وفي كتاب العربي"مراجعات في الفكر القومي"، رقم 57 الصادر 15/7/2004.
إلا أن أهمية ابن خلدون وطرافة فكره، وإن تمثلت في إيماءات فكرية تتخطى عصرها كالفكرة الاقتصادية والفكرة القومية كما أوجزنا، فإنه كان محدداً وواضحاً في أفكار أخرى مازالت واقعاً لا يمكن إنكاره في حياتنا العربية الراهنة. نورد منها على سيل المثال لا الحصر، تدليلاً على أن ابن خلدون مازال"معاصراً"لنا كعرب، واننا سنحتاج إلى وقت حتى نتجاوزه في واقعنا الاقتصادي والاجتماعي والسياسي:
1- من أهم المسائل التي حذر منها ابن خلدون اشتغال رجال السلطة بالتجارة ومنافستهم لأهل البلد وتجاره بما يؤدي إلى عرقلة الاقتصاد وتدميره وانعكاس ذلك وبالاً على الدولة نفسها في نهاية الأمر، كما يتضح من تجارب عربية معاصرة. يقول ابن خلدون في نص كأنه كتب اليوم عن هذه الظاهرة وخلاصته:"إن التجارة من السلطان مضرة بالرعايا ومفسدة للجباية"أي لنظام الضرائب الذي تستعين به الدول وفي"المقدمة"إسهاب فكري مهم في إيضاح جوانب هذا الأمر والوبال الذي يجلبه على"الرعية" وكيف إن رؤوس الأموال تهرب وتهاجر من بلد التسلط إلى بلدان أخرى، خصوصاً إذا استغل المتسلط نفوذه في السلطة لمنافسة أهل البلد في أرزاقهم. وعلى العكس من ذلك كان ابن خلدون يشيد دائماً بالسلاطين الذي يكتفون بسلطة الحكم ولا يخلطون بين الإمارة والتجارة، وهو ما بقي مثلاً أعلى للحكام العرب القلائل الذين تميزوا عن غيرهم بالنزاهة ونظافة الذمة، على ندرتهم في تاريخنا وواقعنا.
2- كما حذر ابن خلدون من أنواع الاستبداد والتسلط الأخرى لأن ذلك يؤدي إلى تنفير أهل البلد، وانقلابهم على السلطان وتعاونهم مع أعدائه وقد لخص ابن خلدون رؤيته لآثار مختلف أنواع الاستبداد والتسلط بمقولته الرائعة"الظلم مؤْذِن بخراب العمران"، داعياً السلاطين إلى كسب قلوب رعاياهم بالمودة والعفو والإحسان، تعزيزاً لدولهم ذاتها.
3- يُنبه ابن خلدون إلى أن الدعوة الدينية بلا عصبية قبلية أو قومية لا تتم لاحتياجها إلى وازع طبيعي، وذلك ما يحاوله - معكوساً - في أيامنا بعض المشتغلين بالإسلام السياسي تحديداً بإثارة النعرات الطائفية أو العشائرية لدى إتباعهم ليقينهم أن مواعظ المنابر الدينية في حد ذاتها لا تملك التأثير الكافي لاحتياجها إلى قوى اجتماعية مؤثرة وراءها، لذلك لا نراهم ينادون بإسلام نقي مبرأ من الطائفية أو العشائرية كما ينبغي أن يكون دينياً وإنما هم يتخندقون وراء هذه العصبيات لأنهم بدونها لا نفوذ لهم، ولم نسمع بحركة إسلامية واحدة، فوق المذاهب، ومن مختلف المذاهب - كما كان الأمر في حركة التحرر العربي - لأن الناس لا يجتمعون خلف الدعوة الدينية بالمطلق وإنما يتحركون بعصبياتهم القائمة المتوارثة فذلك ما ورثوه عقيدياً ويبدو من الصعب جداً تجاوزه. وعليه فإذا انتفت القوة الاجتماعية الدافعة يتحول الدعاة إلى مجرد أصوات صارخة في البرية بلا أثر، أو حسب تعبير ابن خلدون:"ومن هذا الباب أحوال الثوار القائمين بتغيير المنكر من العامة والفقهاء، فإن كثيراً من المنتحلين للعبادة وسلوك طرق الدين يذهبون إلى القيام على أهل الجور من الأمراء داعين إلى تغيير المنكر والنهي عنه والأمر بالمعروف رجاء الثواب عليه من الله، فيكثر أتباعهم والمتمثلون بهم من الغوغاء والدهماء ويعرضون أنفسهم في ذلك للمهالك، وأكثرهم يهلكون في هذا السبيل، مأزورين غير مأجورين لأن الله سبحانه لم يكتب ذلك عليهم... وأحوال الملوك والدول راسخة قوية لا يزحزحها ويهدم بناءها إلا المطالبة القوية التي من ورائها عصبية القبائل والعشائر... وهكذا كان حال الأنبياء... في دعوتهم إلى الله... وهم المؤيدون من الله بالكون كله لو شاء، لكنه إنما أجرى الأمور على مستقر العادة...".
هذا النص الخطير لابن خلدون كتب قبل أكثر من ستة قرون، لكنه كمن يشخص"الظاهرة الارهابية"في أيامنا ومن يندفع وراءها من فقهاء وعامة وغوغاء ودهماء فيقضون ويهلكون حسب تعبيره"مأزورين غير مأجورين لأن الله لم يكتب ذلك عليهم..."، حيث تذهب أعمالهم عبثاً، أما أحوال الدول فقائمة لا تؤثر فيها إلا القوى الاجتماعية الفاعلة سواء كانت قبائل أو غيرها من قوى مجتمعية كما في عصرنا. وهذا يعني، من منطلق ابن خلدون إن الموعظة تبقى موعظة، سلفية كانت أم علمانية، وان الفكرة مهما كانت لا تهبط إلى واقع الناس إلا إذا حملتها قوى فاعلة من ذلك الواقع، وما عداه حرث في البحر! ولو كان"تنويراً"وعظياً من جانب أخطر المفكرين والدعاة!.
* مفكر وكاتب من البحرين


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.