اذا كانت اسرائيل قد نجحت في منع وصول لجنة تحقيق في احداث جنين خوفاً من كشف حقيقة جرائم الحرب التي ارتكبتها بحق اهالي المخيم الا ان هذا لا يعني ان بامكانها تبييض تاريخها أمام العالم والحق العام. وإذا كان الأمين العام للأمم المتحدة كوفي أنان قد فشل على رغم كل ضغوطاته، باظهار الحق الفلسطيني، فذلك لا يعني ان الفلسطينيين سيتنازلون عن حقهم بسهولة. وكما بدأ يتأكد فان المحكمة الجنائية الدولية التي ستباشر عملها في لاهاي في مطلع شهر تموز يوليو المقبل، ستفتتح أعمالها بملفات غنية بجرائم حرب ارتكبتها حكومة اسرائيل بواسطة جيشها المحتل منذ انتفاضة الاقصى. هذه الجرائم لا تزال مستمرة، خصوصاً قتل الاطفال والنساء الابرياء وسياسة التصفيات غير المشروعة. ملفات كثيرة لم يعلن عن تفاصيلها بعد، تظهر بشكل واضح الجرائم التي ارتكبت وقضت على حياة المئات بدم بارد. فما ذنب امرأة وابنتها جلستا على شرفة البيت ان تعيشا معوقتين بعد ان اصابتهما شظايا الصواريخ والاسلحة التي استعملت عند اغتيال الامين العام ل"الجبهة الشعبية" ابو علي مصطفى. وما دام ابو علي مصطفى داخل مكتبه وبامكان "اصحاب مهمة تصفيته" الوصول اليه واعتقاله، كما هو متبع في كل قوانين العالم، فلماذا اغتياله؟ وما ذنب خمسة شبان غير ناشطين سياسياً، هم من العمال الكادحين طاب لهم ان يتجولوا في كرم ان يموتوا تعذيباً وبدم بارد بعد ان أطلقت على كل واحد منهم على الأقل خمس رصاصات وتركوا ينزفون عشر ساعات. ولماذا اغتيال الدكتور ثابت ثابت، الذي لم يقاوم ولم يهدد حياة جندي ولم يحمل حتى السلاح بل كان أحد أبرز نشطاء السلام بين الفلسطينيين الذي عمل جنباً إلى جنب مع نشطاء سلام يهود واسرائيليين، شهدوا بعد مقتله على انه رجل سلام كبير. كان في سيارته متوجهاً إلى عمله. خلال دقائق تمت تصفيته ومُنع تقديم العلاج له. الم يكن بالامكان اعتقاله والتحقيق معه وتوجيه أية تهمة ضده تريدها اسرائيل، كما تنص القوانين الدولية من دون الحاجة إلى تصفيته؟ وماذا عن المعاقين الذين قتلوا في مخيم جنين والمسنين والأطفال والنساء؟ ألا تكفي صرخة طفل فلسطيني من داخل المخيم يبحث عن عائلته بين الركام، لان تظهر جرائم الاحتلال الاسرائيلي؟ ملفات سوداء وقصص مرعبة وقتل بشع... صور قاتمة سيضطر الى مشاهدتها قضاة محكمة لاهاي، وربما يضطر الفلسطينيون الى تحذير القضاة: "من يعاني من امراض قلب او لا يحتمل الرعب لا ينظر الى هذه الصور". التهمة فلسطينيون والعقوبة اعدام محمد العدل 27 عاماً وقصي زهران 22 عاماً وزياد زيد 17 عاماً ومحمد عدوان 23 عاماً ومهدي جبر 17 عاماً. خمسة فلسطينيين. كعادتهم، انطلقوا مع ثلاثة آخرين من أصدقائهم ليلة 26/11/2000 إلى كرم احدهم بالقرب من قلقيلية. كانت الساعة تشارف السابعة مساء، لم يحملوا سلاحاً ولا حتى الحجر. لكن، كما يبدو، فإنه لمجرد انهم فلسطينيون فهم في نظر كل جندي اسرائيلي "ارهابيون، لا حق لهم في الحياة، والموت افضل لهم"، هكذا يفكر كثيرون من ضباط الجيش الاسرائيلي وجنوده، والدورية التي كانت قريبة من المنطقة يبدو ان تفكير رجالها كان متطرفاً أكثر. بعد اقل من ساعة من جلوسهم في الكرم اقتربت الدورية مقررة إعدامهم جميعاً، ودوى اطلاق الرصاص الكثيف، ثلاثة منه زحفوا وتمكنوا من الهرب رفضوا الحديث خوفاً على أنفسهم، أما الخمسة الباقون فخرجوا باصابات شديدة. الرصاص اصاب الواحد تلو الآخر، وكما يظهر من تشريح الجثث فإن معظم الرصاص أطلق من مسافة صفر. أي أن الجنود اقتربوا وكان الخمسة عاجزين عن الحركة نتيجة الاصابة. لكن ذلك لم يشف غليل الجنود، فهم لا يريدونهم على رغم ان اسماءهم غير مدرجة في قائمة المطلوبين للسلطات الاسرائيلية، والهدف من هذه العملية مجرد قتل فلسطينيين. واستمرت عملية الاعدام البشعة. وتقرير تشريح الجثث يكفي لأن يظهر بشاعة الجريمة. ومنها يستدل ان الجنود لم يكتفوا باطلاق رصاصة واحدة ولا اثنتين ولا ثلاث على الشخص الواحد، بل زرعوا الرصاص في جميع انحاء الجسم. مهدي جبر: فتحة في الجزء الخلفي من الرأس بقطر 15 سنتم وتهتك دماغي وخروج نسيج الدماغ من الرأس. وجرح في الركبة اليسرى 8 سم وتهشم في العظم. وجرح في أعلى الرسغ الايسر مع كسور متهتكة لعظام الساعد الايسر. زياد زيد: مدخل الرصاص في منتصف الجبهة والعين اليمنى والكتف الايمن من الخلف، وأسفل القفص الصدري وأيسر عظمة القفص الصدري وأعلى الكتف الأيسر وتهتك في العظم، وفي الخصيتين، وحرق عرضي في أسفل الصرة بسبب رصاصة اخترقت الجسد، وأعلى الفخذ الأيمن. محمود العدل: مدخل الرصاص في أيمن القفص الصدري وأسفل أيمن الظهر، وعظمة الحوض اليمنى والخصيتين وأعلى الصرة. قصي زهران: جرح وتهتك بقطر 6 سنتم من رصاصة أعلى خلف الاذن اليسرى وخروج نسيج دماغي من الرأس، وجرح وتهتك عميق في الساعد الأيسر، مدخل رصاصة في القفص الصدري 5 سنتم. محمد عدوان: مدخل رصاصتين من قطر كبير في منتصف أيسر الظهر ومخرج الرصاص من البطن، وتهتك الخصية، ومدخل رصاصتين تحت الركبة مع كسور عظام الساق اليسرى بعد خروج الرصاصة من الساق اليمنى، وحروق أيمن القفص الصدري من الرصاصة. هذه هي تقارير تشريح الجثث التي ستقدم لقضاة محكمة لاهاي. قد تكون لوحدها كافية للكشف عن مجزرة بحق هؤلاء الفلسطينيين الخمسة. ولكن هذا الملف سيشمل أيضاً شهادات ستكون قاطعة في إدانة اسرائيل في هذه الجريمة. فالشبان الثلاثة الذين تمكنوا من الهرب أبلغوا سيارات الاسعاف. وكما تقول المحامية نائلة عطية التي تتابع هذه القضية، فإن الجيش الاسرائيلي أعلن على الفور المنطقة بأنها عسكرية مغلقة، ومنع سيارات الاسعاف التابعة للهلال الأحمر بداية ثم الصليب الاحمر من الدخول، وكان الجنود أبلغوا مكاتب الارتباط الفلسطيني انهم يهتمون بعلاج الخمسة ولا حاجة لان تنقلهم سيارات الاسعاف. عائلات الخمسة توجهت برسائل الى كوفي انان والعديد من الشخصيات والمؤسسات العالمية تطالب بالكشف عن المجرمين، يشرحون فيها كيف حسبوا ان ابناءهم في المستشفى، حسب ادعاء الجيش، ولكن لدى وصولهم الى الحقل الساعة السادسة صباحاً اكتشفوا الخمسة وقد شوهت جثثهم. وتبين ان محمد العدل كان قد زحف على بطنه لمسافة ما حتى عثر عليه بين الزرع ميتاً، وكما يبدو حاول الهرب لكنه مات وهو ينزف. لم يرد أنان على الرسالة، ولا أي طرف آخر حصل عليها، واليوم لم يبق امام المحامية نائلة عطية إلا أن تتقدم بالتماس إلى المحكمة العليا لالزام المستشار القضائي للحكومة الإسرائيلية بأن يحقق في الموضوع ويقدم القتلة للقضاء. ولكن تماماً كما حدث مع المئات من الملفات المشابهة التي تم اغلاقها بعد التسجيل ولأن الجيش الاسرائيلي لا يعتبر ان الجنود قاموا بمخالفة وأنه لا يملك الادلة على ما ورد في الدعوى، فإن الشيء ذاته سيحدث لهذا الملف. سياسة التصفيات التي اتبعتها اسرائيل، منذ انتفاضة الأقصى وأدت الى قتل حوالي مئة فلسطيني نفذت بشكل مخالف لكل القوانين الدولية. ويكفي في معرض طرح هذه القضية ان نتناول عمليتي اغتيال مدير عام وزارة الصحة في نابلس، الدكتور ثابت ثابت والأمين العام ل"الجبهة الشعبية" أبو علي مصطفى. اغتيل ثابت يوم 31/12/2000 وهو داخل سيارته التي توقفت في مقابل بيته. حمل ثابت حقيبته ومشى في الطريق في مقابل الجنود الإسرائيليين أو القناصة الذين تربصوا به وبدا كأنهم وقفوا في انتظاره. لم يحمل سلاحاً يهدد حياة الجنود ولم يملك أية أداة مقاومة. كان بالإمكان اعتقاله من دون ان يُمس بأي أذى، لكن قرار الاغتيال او التفسير الدقيق لعملية قتله "الإعدام" كان هدف الجنود. فما ان تحرك بسيارته إلى وراء حتى باغته الرصاص. خمس رصاصات اصابته وأردته قتيلاً. ومنع الإسرائيليون تقديم المساعدة عندما حاول جاره الطبيب الوصول اليه في محاولة لإنقاذه. منذ أكثر من سنة وقضية اغتيال ثابت أمام المحكمة الاسرائيلية العليا، بعد الالتماس الذي قدمته المحامية عطية. في البداية قدم طلب الى المستشار القضائي للحكومة للتحقيق في قضية الاغتيال، ومحاكمة منفذي القتل. لكن سرعان ما جاء الجواب الروتيني من المستشار: "لا مجال للتحقيق ولا أدلة للاثبات". بعدها وصلت القضية الى المحكمة العليا التي قررت ان يقدم المدعي العسكري خلال فترة محددة تفسيره حول الاغتيال، وكان ذلك منذ ستة أشهر. ست مرات قدم المدعي العسكري طلبات بتأجيل موعد تقديم التفسير، بحجة ان هذه المرة الاولى التي يطلب منهم تفسير كهذا. لكن في الجلسة الأخيرة قبل 21 الماضي أبلغته المحكمة ان هذه المرة الاخيرة التي تتم الموافقة على طلب تمديد الفترة وحددت جلسة يوم 10 تموز يوليو المقبل. وقضية اغتيال ثابت واحدة من القضايا التي تحمل الأدلة القاطعة على ارتكاب جريمة. وكذلك الأمر في قضية اغتيال ابو علي مصطفى. فعملية اغتياله نفذت بعد وصوله الى مكتبه. نزل من سيارته وسار في الشارع وصعد الى البناية ودخل إلى مكتبه وقضى وقتاً. كل هذا وجنود الاحتلال يراقبونه ويتعقبونه خطوة خطوة. كان بالإمكان اعتقاله وإلقاء القبض عليه من دون أي أذى. لكن الإسرائيليين كانوا قرروا تصفيته. ولم يكن ابو علي مصطفى الوحيد الذي أصابته الأسلحة القاتلة والصواريخ التي دمرت مكتبه. فاليوم تعيش زهرة الصلح في بيتها المجاور لمكتب زعيم الجبهة الشعبية حيث نفذ الإعدام، وهي تعاني من عجز بنسبة 60 في المئة نتيجة شظايا الصاروخ والاسلحة التي استعملت ووصلت إلى بيتها وأدت إلى اصابتها مع ابنتها نداء التي تعاني من عجز مستمر. هذه ثلاثة من عشرات وربما المئات من الملفات التي بوشر العمل في إعدادها، لتقديمها الى محكمة لاهاي، ولكن التفاؤل باظهار الحقيقة لا يسيطر على أصحاب الشأن الفلسطينيين. وربما ينبع تخوف الفلسطينيين من تجربتهم أيضاً في مجزرة صبرا وشاتيلا، ولكن كل هذا لن يمنعهم من اطلاق صرختهم من أجل اظهار الحقيقة، فقط الحقيقة الاسماء والتواريخ أكثر من مئة عملية تصفية واغتيال نفذت بحق الفلسطينيين منذ انتفاضة الأقصى. والتصفيات هي عمليات ممنوعة بتاتاً ولا يمكن تنفيذها، إلا إذا كانت هناك مواجهات، أي أن يشكل الشخص خطراً جدياً على الطرف الثاني، فعندها يمكن تصفيته، لكن ما حدث في الغالبية الساحقة من تصفيات الفلسطينيين ان لم تكن كلها فقد نفذت من دون أية مقاومة وبدم بارد. من بين هذه التصفيات: - فايز محمد الضميري 33 عاماً من الخليل اغتيل يوم 21/10/2000 بعيار ناري متفجر أطلقه قناص اسرائيلي. - حسين عبيات 30 عاماً من بيت لحم اغتيل يوم 9/11/2000 بصواريخ أباتشي اسرائيلية. - جمال عبدالرازق من رفح 30 عاماً اغتيل في 22/11/2000 بأعيرة نارية في كمين نُصب له على الطريق العام. - في اليوم نفسه اغتيل من رفح أيضاً عوني اسماعيل ضمير 38 عاماً. - إبراهيم عبدالكريم عودة من طمون 34 عاماً اغتيل يوم 23/11/2000 جراء انفجار قنبلة في السيارة التي كان يقودها داخل مدينة نابلس بعد تفخيخها من الاستخبارات الاسرائيلية بمساعدة متعاون اعترف في ما بعد. - فراس ابو حطب من جنين 26 عاماً اغتيل يوم 24/11/2000 جراء اصابته بأعيرة نارية اطلقتها عليه وحدات إسرائيلية خاصة أثناء وقوفه في باب منزله. - يوسف احمد من ارطاف قضاء طولكرم 28 عاماً اغتيل يوم 12/12/2000 جراء اصابته بأكثر من 17 عياراً نارياً من نقطة مراقبة إسرائيلية عند شارع التفافي قريب من بيته. ويوسف احمد كان معتقلاً في السجون الاسرائيلية، وقد أثبت براءته من التهم الأمنية الموجهة ضده، إلا أن تفاصيل قتله تؤكد ان اسرائيل تعمدت قتله. - عباس العوبوي من الخليل 26 عاماً اغتيل يوم 13/12/2000 بثلاث رصاصات من نوع "دمدم" الذي يتفجر في الجسم والمحظر استعماله. وقد اغتيل وهو في طريقه الى عمله. - هاني حسين أبو بكر من رفح 31 عاماً اغتيل جراء اصابته بعشرين عياراً نارياً بعدما اعترضت طريقه سيارة إسرائيلية عسكرية. والقائمة طويلة.