تنمية جازان تفعل برنامجًا ترفيهيًا في جزر فرسان    الإيرادات تقفز بأرباح "تداول" 122%    رونالدو: لا أركض وراء الأرقام القياسية    أجواء "غائمة" على أجزاء من 5 مناطق    المملكة تعين وتروي المحتاجين حول العالم    "ميدياثون الحج والعمرة" يختتم أعماله    اللحوم والبقوليات تسبب "النقرس"    السعودية تؤكد ضرورة إعادة هيكلة منظمة التعاون الإسلامي وتطويرها    القبيلة.. وتعدد الهويات الوطنية    «الجمارك»: استيراد 93,199 سيارة في 2023    «السبع» تتخلى عن مصادرة أصول روسيا    بأمر خادم الحرمين.. تعيين 261 عضواً بمرتبة مُلازم تحقيق في النيابة العامة    «المظالم» يخفض مدد التقاضي و«التنفيذ» تتوعد المماطلين    الأرصاد: توقعات بهطول أمطار على أجزاء من منطقة الرياض    السعودية.. دور حيوي وتفكير إستراتيجي    «مهندس الكلمة» عاصر تحولات القصيدة وغيَّر أبعاد الأغنية    البدر «أنسن العاطفة» و«حلّق بالوطن» وحدّث الأغنية    يسله وجيسوس يحذران المهددين من «الإنذارات»    أنقذوا «سلة الحقيقة»    عضوية فلسطين بالأمم المتحدة.. طريق الاستقلال !    لا تظلموا التعصب    «كاكا» الصباغ صرخة سينمائية مقيمة    معالي الفاسد !    مجلس الشؤون الاقتصادية يشيد بالنمو المتسارع للاقتصاد الوطني    أبعاد تنموية    الهلال يستأنف تدريباته استعداداً لمواجهة الأهلي    الطائي يتعادل مع الخليج سلبياً في دوري روشن    بتنظيم وزارة الرياضة .. "الأحد" إقامة المؤتمر الدوري للقطاع الرياضي    القيادة تعزي رئيس الإمارات وتهنئ رئيس بولندا    مليون وظيفة في «السياحة» عام 2030    وفاة صاحب السمو الملكي الأمير بدر بن عبدالمحسن بن عبدالعزيز آل سعود    رعى حفل التخرج الجامعي.. أمير الرياض يدشن مشروعات تنموية في شقراء    تحت رعاية ولي العهد.. وزير الدفاع يفتتح مرافق كلية الملك فيصل ويشهد حفل التخرج    الذهب يتأرجح مع تزايد المخاوف بشأن أسعار الفائدة    موسكو: «الأطلسي» يستعد لصراع محتمل    منح تصاريح دخول العاصمة المقدسة    مفاوضات هدنة غزة.. ترقب لنتائج مختلفة    الأمم المتحدة تغلق ممر المساعدات إلى دارفور    مركز الملك سلمان يواصل مساعداته الإنسانية    تقدير الجهود السعودية لاستقرار السوق العالمية.. المملكة تعزز تعاونها مع أوزبكستان وأذربيجان في الطاقة    "زرقاء اليمامة".. أول أوبرا سعودية تقدم تفسيراً لإحدى أقدم الأساطير    ملتقى الصقارين ينطلق في الرياض بهدف استدامة هواية الصقارة    رئاسة وزراء ماليزيا ورابطة العالم الإسلامي تنظِّمان مؤتمرًا دوليًّا للقادة الدينيين.. الثلاثاء    70 % نسبة المدفوعات الإلكترونية بقطاع التجزئة    يجنبهم التعرض ل «التنمر».. مختصون: التدخل المبكر ينقذ «قصار القامة»    انطلاق فعاليات «شهر التصلب المتعدد» بمسيرة أرفى    سفير خادم الحرمين في الفلبين يستقبل التوءم السيامي وأسرتهما    طريقة عمل بسكويت النشا الناعم بحشو كريمة التوفي    النملة والهدهد    «ذبلت أنوار الشوارع.. وانطفى ضيّ الحروف»    لا توجد حسابات لأئمة الحرمين في مواقع التواصل... ولا صحة لما ينشر فيها    ضبط مواطن في حائل لترويجه مادة الإمفيتامين المخدر    أمير الجوف يعزي معرّف جماعة الشلهوب بوفاة شقيقه    وزير الخارجية: السعودية تؤكد ضرورة إعادة هيكلة «التعاون الإسلامي» وتطويرها    محمية عروق بني معارض.. لوحات طبيعية بألوان الحياة الفطرية    "الفقه الإسلامي" يُثمّن بيان كبار العلماء بشأن "الحج"    كيفية «حلب» الحبيب !    بيان صادر عن هيئة كبار العلماء بشأن عدم جواز الذهاب للحج دون تصريح    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



شن حملة على الرئيس الجزائري مطالباً برحيله بالقاسم الشريف : الجيش خرج من "ورطة بن جديد" ليقع في "ورطة بوتفليقة"!
نشر في الحياة يوم 09 - 04 - 2001

كنتم من الذين عارضوا بشدة ترشيح عبدالعزيز بوتفليقة قبل سنتين، ترى ما رأيكم الآن وقد انتخب وأمضى سنتين من عهده الرئاسي؟
- كانت معارضتي لترشيح بوتفليقة ثمرة تجربة طويلة تناهز 40 سنة، ولم تكن حكماً مسبقاً بناء على اعتبارات شخصية كما قد يخيل للبعض. وبعد التنبيه الوارد في معارضة ترشيح بوتفليقة، سارعت بعد سبعة أشهر فقط من انتخابه إلى دق ناقوس الخطر، على أمل أن يتدخل من يعنيهم الأمر بالدرجة الأولى لوقف الخسائر، حتى لا يذهب بعيداً في تعميق المأساة الوطنية.
وللتذكير، فإن بوتفليقة رفع في بداية عهده الرئاسي ثلاثة شعارات تعهد بتحقيقها في أسرع الآجال، وهي: تحقيق الوئام الوطني، وتمكين الجزائر من استعادة مكانتها على الصعيد الدولي، وأخيراً انعاش الاقتصاد الوطني. ويحق لنا أن نتساءل بعد سنتين من اطلاق هذه الوعود: ماذا حقق بوتفليقة من كل ذلك؟ في تقديري الخاص، أن الأوضاع على مستوى الأصعدة الثلاثة المذكورة ازدادت تعقيداً وتدهوراً.
فالشعب الجزائري ما زال يدفع ضريبة الدم من دون أن يعرف لمن؟ ولماذا؟! ولم يعد انعدام الأمن من فعل الارهاب وحده، بل الفقر أيضاً أصبح يغذي هذه الحالة، فضلاً عن المافيا التي وجدت فرصتها الذهبية في مثل هذه الوضعية.
وعلى الصعيد الاجتماعي، سارع بوتفليقة إلى الاستماع لانشغالات المواطنين من خلال اتصالاته الأولى المباشرة بهم في مختلف أنحاء البلاد، لكن ماذا كانت النتيجة؟ لقد رهن كل شيء بشرط مسبق هو تحقيق "الوئام المدني".
وعلى الصعيد الاقتصادي، لا تزال عملية التحول إلى اقتصاد السوق تراوح مكانها لانعدام خطة مدروسة واضحة، بل أصبح هذا التحول - مثل الوئام الوطني - شرطاً مسبقاً لانطلاق حركة التنمية من جديد.
فهل يمكن أن ننتظر استثمارات وطنية وأجنبية في مثل هذه الآفاق الاقتصادية والاجتماعية الغامضة؟!
وكعادته، تحرك بوتفليقة كثيراً على الصعيد الخارجي. لكن ماذا كانت النتيجة بعد سنتين؟ وهل أعاد للجزائر سمعتها ومكانتها الدولية السابقة؟
في تقديري الخاص، أن الأمور تراجعت على هذا الصعيد أيضاً، نتيجة تضارب المواقف والتصريحات المتناقضة، إضافة إلى كثرة الهفوات التي تلازم عادة كثرة الكلام لمناسبة وغير مناسبة.
إن مثل هذه المواقف المتذبذبة والتصريحات المتناقضة كان من الطبيعي أن تؤثر سلباً على مصداقية الرجل الخارجية وعلى سمعة الجزائر تبعاً لذلك. فلا ينبغي أن ننخدع بالنشاطوية المحمومة التي تشهدها الجزائر منذ سنتين، فهي لا تعدو أن تكون، من حيث النتائج الملموسة، مجرد "جعجعة بلا طحين". والأدهى أن بوتفليقة لم يقم حتى بما كان عليه أن يقوم به على مستوى المشاكل المطروحة على المواطنين.
صرحتم أخيراً بأن "اللوبيات" عجلت برحيل الرئيس اليمين زروال ومجيء الرئيس بوتفليقة. فهل يُفهم من ذلك أن هذه "اللوبيات" لعبت دوراً حاسماً في ترشيح بوتفليقة؟
- لا أذكر انني قلت ذلك بهذه الصيغة، فزروال، حسب معلوماتي، استقال بمحض ارادته، وإنما كنت أشير إلى "خطيئة أصيلة" في موضوع السلطة التي تحولت إلى واحدة من امهات المشاكل في الجزائر. وبعبارة أخرى، ان الحكم ذاته يعيش منذ سنوات تدهوراً واضحاً، ونوعاً من التفكك أدى إلى تعدد مراكز القوى وبروز ظاهرة "اللوبيات" كنتيجة طبيعية. وقد أصبحنا نخشى أمام مثل هذه الظواهر أن تتأثر الأواصر الاجتماعية بها، مما قد يكون أكبر جريمة في حق الشعب.
إن التفكك قد يكون مقبولاً على مستوى السلطة، أما ان يهدد كيان المجتمع نفسه فذاك هو الخطر الحقيقي. لقد صمد النسيج الاجتماعي طيلة 132 سنة من الاحتلال الذي حاول نسفه بشتى الوسائل والأساليب، وبعد الاستقلال أخذ الشعب يلملم شتاته ويسترجع أنفاسه، لكن الانحطاط الذي ضرب نظام الحكم - فكراً وممارسة - منذ سنوات، أصبح يشكل تهديداً جدياً لهذا النسيج، لأنه نسف تقريباً أهم المرجعيات القيمية على الصعيد السياسي والتاريخي وحتى المعنوي. وقد ترك ذلك المجال مفتوحاً لتسلل الأفكار المسبقة والشعارات الزائفة التي تجترها بعض شرائح الرأي العام بوعي أو من دون وعي.
ونعود إلى سؤالكم حول "من رشح بوتفليقة" لنقول إن هناك أكثر من سابقة تؤكد أن فكرة ما ظهرت أولاً في دوائر نفوذ، أو "لوبيات" ان شئتم، معينة، ثم ما لبثت أن وجدت طريقها إلى الحكام لتصبح قراراً نافذاً. قد تكون استقالة زروال شجعت بعض الدوائر المذكورة على التحرك لفرض مرشح بعينه كنوع من المضاربة السياسية - الاقتصادية.
ويمكن أن نجد ما يؤكد ذلك في ما حدث لبعض الشخصيات السياسية التي بادرت بإعلان اعتراضها على ترشيح بوتفليقة، بل حاولت ثني الحكام الفعليين عن ذلك، لكنها ما لبثت أن تراجعت عن موقفها الأول معتذرة علانية لبوتفليقة ومرشحيه.
حكمتم في اللقاء نفسه على الرئيس بوتفليقة بالفشل وعممتم الفشل على الأحزاب التي ساندته و"اللوبيات" التي مولت حملته الانتخابية. ألا ترون أن لقيادة الجيش نصيبها أيضاً من هذا "الفشل"؟
- لو أمعنتم النظر في التصريح الذي استندتم إليه في سؤالكم، لتبينتم انني لم استثنِ أحداً، بما في ذلك الذين يعرفون المرشح جيداً ولم ينبهوا إلى خطأ اختياره في الوقت المناسب.
لكن الفشل يبقى مع كل ذلك فشل بوتفليقة بالدرجة الأولى. فأنا واحد من الذين يستبعدون فكرة "الخطوط الحمر" التي تكون وضعتها قيادة الجيش في اتفاقها المفترض معه، بدليل أنه يتصرف بمطلق الحرية، كما يتجلى ذلك في استغلال وسائل الإعلام الحكومية الثقيلة، وفي تعيين رجاله في أهم المفاصل الاقتصادية، وإقدامه على فتح ملفات حساسة كالتربية والعدالة والمحروقات وقانون العقوبات... الخ. فأين "الخطوط الحمراء"؟ علما أن مثل هذه الملفات يثير ردود فعل عنيفة سواء على مستوى الأحزاب أو المنظمات أو الشارع. فإذا كانت هناك مثل هذه الموانع وقفز عليها، فإن ذلك من شأنه أن يضع علامة استفهام على قدرة قيادة الجيش نفسها.
من البديهي أن المشكلة الجوهرية هنا لا يمكن اختزالها في فشل بوتفليقة ورحيله، طالما أن نظام الحكم الذي جاء به لا يزال قادراً على اختيار رؤساء مثله.
فالمشكلة هنا تكمن أساساً في أننا اخفقنا طيلة الأربعين سنة الماضية في بناء دولة القانون والمؤسسات. فكانت النتيجة الحتمية لذلك أن الدولة أصبحت مشخصة في نظام الحكم، والجزائر مجسدة في رئيس هذا النظام. لذا من الضروري الاسراع ببناء سلطة تمارس بناء على حاجات الشعب، وليس حسب أهواء "اللوبيات" ومصالحها، كخطوة أولى في تأسيس دولة القانون والمؤسسات، وإذا لم نفعل ذلك، فلن يغير رحيل بوتفليقة أو بقاؤه من الأمر شيئاً.
ومع ذلك تصرون على ضرورة رحيله، فهل من توضيح؟
- أخشى أن تتجه الأنظار كلها إلى بوتفليقة، وهكذا نوهم انفسنا مرة أخرى بأن رحيله يحل مشاكل البلاد. ومع ذلك اراني انبه بأنه لا ينبغي أن نتنفس الصعداء لرحيله، بل علينا ان نجعل من ذلك مدخلاً لتجاوز الأخطاء المتراكمة التي أفرزها نظام الحكم وممارساته.
إن المشكل الجوهري هو تكوين سلطة تؤسس لدولة الديموقراطية والمؤسسات. ويبدو رحيل بوتفليقة في هذا السياق كشرط مسبق لتجاوز هذه الاشكالية، لأن البلاد اليوم تعيش حالة انسداد حقيقي.
لكن كيف يذهب وقد انتخب لفترة خمس سنوات؟ هل تقصدون اجراء انتخابات رئاسية مسبقة؟
- اثراء لثقافة الاقتراحات، أرى من الضروري العودة إلى المؤسسات، بدءاً بالانتخابات الرئاسية طبعاً، لكن شرط أن نحيط العملية هذه المرة بأكبر قدر من ضمانات النجاح، تجنباً لاحتمال الوقوع في الخطأ نفسه.
وليس من الضروري في مثل هذا الشأن الخطير، أن نلتزم الجانب الصوري كما ينص عليه الدستور، أي تعيين رئيس بالنيابة للاشراف على تنظيم الانتخابات الرئاسية المسبقة خلال 45 يوماً. فهذه المدة تبدو غير كافية في نظري لتهيئة الشروط الملائمة لاختيار على هذه الدرجة من الأهمية.
قد تسألني: وما العمل إذاً؟ الجواب يكمن في اجراء استشارة واسعة حول هذه المسألة الدقيقة، كأن يتم مثلاً توسيع المجلس الأعلى للأمن، على أن يكلف بمهمة محددة: وضع قواعد الاختيار الحر للناخبين طبقاً لدستور الجمهورية وقوانينها.
إن الاستعانة بآراء رجال السياسة والقانون - مع الأخذ بالوجيه منها - يمكن أن تخرجنا من الورطة وسيادة اللامنطق وما يتبعهما من "فوضى الأفكار والأشياء" معاً.
الملاحظ أن قيادة الجيش تفضل "الساسة الصامتين"، كما تدل على ذلك تجربة بوتفليقة الذي استفاد من "صمت 20 سنة"، ألا تعتقدون بأن جرأتكم ومواقفكم جنت عليكم إلى حد ما؟
- أن مثل هذا "التكتيك"، إن كان مفيداً حقاً، فإنه - لسوء الحظ - لا ينسجم مع مزاجي. فأنا من جيل لا يقبل الصمت عندما يكون مصير الجزائر في خطر، مهما كانت النتائج المترتبة على ذلك. ثم ان منصب الرئاسة لم يكن من مطامحي، وبالتالي لم أفكر في أي تكتيك قد يقربني إليه، بما في ذلك "حيلة الصمت" التي أشرتم إليها.
لقد كنت عضواً نشيطاً في جماعة من جيل ما بعد الثورة المسلحة نذرت نفسها لخدمة قضية، وكان يربط بيننا عقد معنوي قوي إلى درجة أنه عوض طيلة 15 سنة تقريباً الشرعية الشعبية والدستورية. لقد تكونت لدينا منعكسات شرطية، موجهة لخدمة المصلحة العامة قبل كل شيء. ولم تكن تحركنا اعتبارات سلطوية محضة حتى نلجأ إلى مثل هذا المنطق السخيف: منطق من يصمت أطول حتى يلفت اهتمام قيادة الجيش ورضاها عليه.
لكن عندما شعرت بأن العقد المعنوي الذي كان يربطني ببومدين ورفاق آخرين أوشك على نهايته، لم أتردد في الانسحاب مخاطراً بنفسي، من دون أدنى اهتمام بالامتيازات الشخصية. وقد اتخذ الموقف نفسه رفاق آخرون أذكر منهم العقيد محمد شعباني الذي اعدم في محاولة تمرد عام 1964، والسعيد عبيد الذي "انتحر" في المحاولة الانقلابية بقيادة قائد الأركان الطاهر الزبيري عام 1974، وقايد أحمد الذي تمرد على بومدين والتحق بالمعارضة في الخارج، وأحمد مدغري والطاهر الزبيري، وقد دفعوا بدورهم الثمن باهظاً بطريقة أو بأخرى.
عندما تؤكدون أنه يتعين على السياسيين استعادة المشروع السياسي، فهل تعتقدون فعلاً بأن الوقت مناسب لتولي السياسيين مقاليد الحكم في الجزائر؟
- لم يكن الأمر في عهدنا مثلما ذكرتم في سؤالكم، فالجيش كجهاز لم يقحم في السياسة إلا بعد وفاة بومدين، وكان رد الفعل يومئذ شبيهاً بالطريقة الانكشارية، أي اسناد الأمر إلى أقدم ضابط في أعلى رتبة، وهكذا جيء بالعقيد الشاذلي بن جديد من وهران وتم ترشيحه للرئاسة في ما يشبه المؤتمر التمهيدي لكبار الضباط قبل تزكيته - سياسياً - في مؤتمر جبهة التحرير الوطني، حيث انتخب عدد من الضباط أعضاء في اللجنة المركزية والمكتب السياسي.
وبعد هذه السابقة، أصبح البعض يفتخر بأنه هو الذي جاء بالرئيس بن جديد، وأن هذا الأخير ما هو إلا واجهة! ولم يكن بومدين قبل ذلك يقرر مع قيادة الجيش، بل مع مجلس الثورة الذي كان يضم قادة النواحي العسكرية، لكن بصفتهم أعضاء في المجلس. وحتى الوزراء آنذاك، كانوا - كل في قطاعه - يتمتعون بقدر كبير من الاستقلالية وحرية المبادرة، ضمن البرنامج العام لنظام الحكم طبعاً.
وفي تقديري الخاص، ان السياسة تراجعت تراجعاً واضحاً في ممارسات الحكم، منذ مجيء الرئيس بن جديد وربما منذ أواخر عهد بومدين، ويعني ذلك تراجع المشاريع السياسية والخطاب السياسي عموماً.
قد تعترض قائلاً: لكن الجيش ترك اللجنة المركزية للجبهة عقب المصادقة على دستور التعددية في شباط/ فبراير 1989، حدث ذلك فعلاً، لكن الالتباس مع ذلك ظل قائماً، نتيجة الدور الكبير الذي لعبه الجيش في رحيل بن جديد واستخلافه، ووجود وزير الدفاع خالد نزار في المجلس الأعلى للدولة. وجاءت الحالة الأمنية اثر كل ذلك، لتفرض على الحكم استراتيجيات أمنية أكثر منها سياسية.
واستغل بوتفليقة في بداية عهده هذا الوضع عندما خرج على المواطنين بخطاب جديد، جعلهم يتوهمون بعض الوقت ان السياسة على وشك العودة إلى الساحة الوطنية، لكن هذا الوهم الحلو لم يدم طويلاً، فقد اكتشفوا بسرعة أن الخطاب الجديد لا روح له، لأنه باختصار لا يستند إلى أي مشروع اقتصادي - اجتماعي.
هل يمكن أن نعرف لماذا انسحبتم من الحكم عام 1974؟ وهل كان لانسحابكم علاقة بالأزمة التي هزت "مجموعة وجدة" صيف تلك السنة؟
- سأكتفي هنا بتوضيح مهم من الناحية السياسية، وهو أن الزمن ما لبث أن فعل فعلته في مجموعتنا، مثلما حدث ذلك لمجموعات قيادية سابقة التفت حول شخصيات وطنية كمصالي وبن خدة.
والمهم في هذا الصدد، ان مجموعتنا عاشت فترة خصبة، تزامنت مع نهاية الثورة التحريرية ووضع اللبنات الأولى في صرح الجزائر المستقلة، وخاضت معركة التأميمات الكبرى، من المناجم 1966 إلى المحروقات 1971، مروراً بالبنوك وشركات التأمين 1967، لكن العقد المعنوي الذي كان يربط أعضاء المجموعة بعضهم بعضاً ما لبث ان انفرط في أواخر 1974، كما سبقت الاشارة. وأؤكد بالمناسبة أن وزير الخارجية آنذاك بوتفليقة لعب دوراً كبيراً في الاجهاز على هذا العقد الذي تآكل بفعل الزمن، وذلك بإصراره على التخلص من بعض الوجوه. وكانت النتيجة الحتمية لكل ذلك اهتزاز الثقة بين رفاق الأمس، وبناء عليه لم نعد نتحمل مزيداً من التنازل الذي لا مبرر له. وهكذا شهدت سنة 1974 "انتحار" مدغري وزير الداخلية، وإعلان أحمد قايد مسؤول الحزب سابقاً المعارضة من الخارج، واستقالتي أنا شخصياً وزير دولة.
كانت لكم بعد استقالتكم محاولات محتشمة للعودة إلى الواجهة، هل يمكن أن نعرف ملابسات ذلك؟
- تفضل بعض الأصدقاء في مجلس الثورة بطرح مشكلتي، وحاولوا التدخل كي أعود إلى صفهم، لكني رفضت ذلك في رسالة إليهم وإلى مدير التشريفات آنذاك عبدالمجيد علاهم، شرحت فيها موقفي قائلاً: إن الأسباب التي دفعتني إلى الانسحاب في صيف 1974 لا تزال قائمة. وبودي أن ألاحظ هنا بأن علاقتي بالحكم كانت من خلال العلاقة بالسياسة، ولم تكن من خلال العلاقة بالسلطة وحدها ولذاتها.
سؤال أخير، كيف تقدرون مكانة الجزائر اليوم على الساحة الدولية قياساً بمرحلة الستينات والسبعينات؟
- مكانة الجزائر بالأمس لم يصنعها فلان ولا علان، بل كانت من ثمار رصيد الثورة التحريرية التي ساعدت الجزائر في أن تصبح قوة معنوية حقيقية على الساحة الدولية. لقد قضت الحرب العالمية الثانية على نصف المستعمرات في العالم، وساهمت الثورة الجزائرية مساهمة فعالة في إتمام البقية الباقية.
وبفضل هذه القوة المعنوية، التي لم تكن تستند لا إلى قوة عسكرية ضاربة ولا إلى اقتصاد مسيطر، استطاعت الجزائر أن تعزل إسرائيل في افريقيا وتساهم في فرض أول حظر نفطي عقب حرب تشرين الأول اكتوبر 1973، أدى إلى أول صدمة حررت الأسعار من هيمنة الشركات البترولية العالمية.
لقد تراجعت مكانة الجزائر الدولية خلال العقدين الأخيرين بسبب سياسة الرئيس بن جديد الانطوائية من جهة، والتسيير الكارثي لشؤون السياسة الداخلية والاقتصاد الوطني من جهة ثانية. وعندما انتخب بوتفليقة قبل سنتين، جعل استعادة هذه المكانة على رأس قائمة أولوياته. لكن ماذا كانت النتيجة؟
في تقديري الخاص أن مكانة الجزائر الدولية إن كانت في تراجع قبل مجيء بوتفليقة، فإن وتيرة هذا التراجع أصبحت في تسارع أكبر منذ انتخابه
بالقاسم الشريف من أقطاب "مجموعة وجدة"، التي تألفت حول العقيد هواري بومدين قبل استقلال الجزائر، وساعدته في إطاحة الحكومة الموقتة عشية استفتاء تقرير المصير في مطلع تموز يوليو 1962، كما ساعدته في انقلابه على أول رئيس جمهورية للجزائر المستقلة أحمد بن بله في 19 حزيران يونيو 1965.
وتؤكد المناصب التي تولاها "سي جمال" الاسم الثوري لبالقاسم الشريف، غداة الاستقلال، مكانة الرجل لدى بومدين وموقعه في "مجموعة وجدة" في الوقت نفسه. فقد تولى في البداية وزارة التربية والارشاد وهي عبارة عن وزارة ضخمة تضم التعليم والثقافة والإعلام. وغداة انقلاب 19 حزيران كُلف بإدارة حزب جبهة التحرير الوطني على رأس لجنة خماسية عرفت ب"اللجنة التنفيذية"، وأصبح ابتداء من 1968 ثاني وزير دولة بعد رابح بيطاط مكلف بالتخطيط والمال، مع الاشراف على "المجلس الوطني الاقتصادي والاجتماعي"، وهو هيئة شبه تشريعية في ظل غياب البرلمان الذي لم ينتخب - بعد حله غداة الانقلاب - إلا في شباط فبراير 1977.
لكن "العقد المعنوي" الذي كان يربط بالقاسم الشريف ب"مجموعة وجدة" ما لبث أن انفرط في صيف 1974 مع بداية انكفاء على الذات وهجرة الشؤون العامة حتى أحداث تشرين الأول اكتوبر 1988.
وفي خضم هذه الأحداث خرج بالقاسم الشريف عن صمته، في إطار مبادرة عرفت ب"مسعى ال18"، بعدد الموقعين على عريضة رفعت إلى الرئيس الشاذلي بن جديد، تطالبه باجراء اصلاحات سياسية، فضلاً عن إدانته اقحام الجيش في قتل المتظاهرين.
ويلتقي الشريف مع بوتفليقة - كما سبقت الإشارة - في "مجموعة وجدة" من خلال قيادة "جيش التحرير الوطني" على الحدود الغربية، فضلاً عن كون الاثنين من مواليد المغرب، والتحقا بجيش التحرير في الفترة نفسها تقريباً 1956-1957. ومعنى ذلك أنه يعرف الرئيس الحالي جيداً، لأنه "عاشره قرابة 40 سنة"، حسب قوله. وظلت هذه العلاقة حسنة إلى عهد ليس ببعيد، كما تدل على ذلك استعانة قيادة الجيش به لإقناع رفيقه السابق بقبول منصب رئاسة الدولة قبيل انتهاء مهمة المجلس الأعلى للدولة مطلع 1994.
بيد أن هذه المعرفة القديمة والعلاقات المتينة بين الرجلين، لم تمنع الشريف من إعلان اعتراضه الصريح على ترشيح بوتفليقة للانتخابات الرئاسية الأخيرة. وأسباب هذا الموقف الذي يبدو غير مفهوم للوهلة الأولى، يشرحها بالقاسم الشريف في هذا الحديث الذي أجريناه معه لمناسبة مرور عامين من عهد الرئيس بوتفليقة الذي انتخب في 18 نيسان ابريل 1999.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.