تقضّ مضاجع اندية كرة القدم الاوروبية ظاهرة مقلقة وضع القضاء في عدد من بلدان القارة يده عليها. فقد تزايدت بشكل لافت منذ بضع سنوات ظاهرة اللاعبين القادمين من اميركا الجنوبية للالتحاق بالنوادي الاوروبية الغنية، التي يتقاضى لاعبوها رواتب مالية هي اضعاف اضعاف ما يتقاضاه لاعبو اميركا الجنوبية في بلدانهم. وتجاوزت المسألة حدود "قضّ المضاجع" لتبلغ حد السجن وفرض عقوبات على اللاعبين والاندية على السواء، بعدما تبين في اكثر من بلد اوروبي ان عدداً من اللاعبين القادمين من اميركا الجنوبية والذين وقّعوا عقوداً مع اندية اوروبية على اساس انهم يحملون جوازات سفر اوروبية، يحملون في الواقع جوازات سفر مزورة لا تخولهم اللعب مع الاندية الاوروبية التي تحظر عليها القوانين المحلية التعاقد مع اكثر من ثلاثة لاعبين من خارج الاتحاد الاوروبي. ولعلّ الأدهى في المسألة ان اللاعبين المتهمين يواجهون في الواقع ثلاث عقوبات: الاولى من السلطات الكروية في البلد المعني، والثانية من الاتحاد الدولي الفيفا، والثالثة من السلطات القضائية، حسب قانون كل بلد أوروبي. وفي الحالة الأخيرة يكون السجن خاتمة مطاف اللاعب المزوّر. اما في الحالة الثانية فقد تكون العقوبة منع اللاعب من ممارسة مهنته لفترة معينة سنة او اكثر او وقفه مدى الحياة وشطب اسمه من سجلات اتحاد بلاده. اما الاندية المعنية بالمسألة فهي تواجه عقوبات تهدد مستقبلها فعلياً، اذا ثبت انها ساهمت في التزوير او كانت على علم به. واقل هذه العقوبات حسم عدد من نقاطها في الدوري ما يجعلها تقبع في ذيل القائمة وتكون بالتالي اول المرشحين للهبوط الى الدرجة الثانية، خصوصاً أن بطولة الدوري في معظم البلدان الأوروبية هي في مراحلها الاخيرة. وتعود الفصول الاولى لانفجار هذه المسألة الى لاعبين برازيليين يحملان جوازي سفر برتغاليين ويلعبان لنادي سانت اتيان الفرنسي، وهما اليكس وألوازيو. وكان النادي استقدمهما من البرازيل بعدما قام ثلاثة من كبار مسؤوليه بجولة في بلاد الكرة حيث شاهدوا على الطبيعة مؤهلات هذين اللاعبين الواعدين. إلا أن التطورات شاءت ان يعزل سانت اتيان مدربه بعد تراجع أداء الفرق، لتسري على الفور اشاعات عن جوازات سفر مزورة سرعان ما تجاوزت سانت اتيان لتصل الى اندية اخرى مثل موناكو وميتز، الذي كان استقدم حارس منتخب كولومبيا اللبناني الاصل فريد موندراغون، باعتبار انه يحمل جواز سفر يونانياً. وكرّت السبحة واتسعت الحلقة ليتبين ان في فرنسا وحدها 78 لاعباً في الدرجتين الاولى والثانية يحملون جوازات سفر أوروبية. لكن وضع هذه الجوازات تحت المجهر ترك ظلالاً من الشك حول صحة عدد منها. وتجاوزت مسألة الجوازات الحدود الفرنسية عبر جبال الألب الى ايطاليا، وعبر بحر المانش الى انكلترا. فقد تبين ان هناك لاعبين في هذين البلدين يحملون جوازات اوروبية مشكوك في صحتها. وبرز في ايطاليا اسم اللاعب الارجنتيني المشهور خوان فيرون لاعب نادي لازيو روما، الذي تهدد قضيته بجرّ مسؤولي النادي الى المحكمة مع مترجمة وبضعة محامين وموظف في احدى البلديات. فقد ظهر ان فيرون حصل على جواز سفر ايطالي مزوّر كلّف نادي لازيو روما حوالي 125 ألف دولار، مع ان اللاعب يمكنه الحصول على الجنسية الايطالية بالطرق الشرعية باعتبار ان جده لأمه ايطالي، الا ان النادي اختار التعجيل بتسجيل اللاعب بدلاً من الانتظار سنة ونصف السنة، هي الفترة المعتادة لجمع المستندات وتقديم طلب الجنسية. فالانتظار طوال هذه المدة يلحق أضراراً بمصالح الطرفين، اللاعب الذي يخسر مبالغ مالية كبيرة والنادي الذي يخسر موهبة اللاعب. لقد أصبح الحصول على جنسية أوروبية هدفاً بالنسبة إلى اللاعبين في أميركا الجنوبية، منذ الفورة المالية التي شهدتها الأندية الأوروبية وارتفاع أجور اللاعبين. فالأسعار لا تقارن بين الأندية الايطالية أو الاسبانية مثلاً والأندية البرازيلية أو الأرجنتينية، فكيف بالأندية الأخرى في بلدان أميركا الجنوبية مثل الأورغواي والباراغواي والتشيلي وغيرها. ونتيجة لذلك ظهرت شبكات سرية منظمة تتجاوز في نشاطها كرة القدم لتصبح ظاهرة اجتماعية في بلدان أميركا الجنوبية. وتعود أسباب هذه الظاهرة إلى أواخر القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين عندما هاجر ملايين الأوروبيين إلى أميركا الجنوبية بحثاً عن حياة أفضل. فاستقر الايطاليون في الأرجنتين والاسبان والبرتغاليون في البرازيل خصوصاً وتوزع الألمان والفرنسيون والسويسريون على البلدان الأخرى. ومثل كل المهاجرين، كان حلم هؤلاء الأوروبيين أن يعودوا ذات يوم إلى بلدانهم وهم يحملون ثروة كبيرة. ولتسهيل عودتهم سنت بلدانهم الأصلية قوانين تسمح لهم بالاحتفاظ بجنسيتهم، بل وبمنحها لذريتهم من بعدهم. من هنا هذا "الزحف" الأميركي الجنوبي على القارة الأوروبية التي أصبحت تتمتع بمستوى معيشة لا تمكن مقارنته بمستوى المعيشة في أميركا الجنوبية. ويؤكد استطلاع رأي أجري أخيراً في الأرجنتين هذا "الوله الجنوني" بأوروبا، فقد تبين أن 30 في المئة من الأرجنتيين مستعدون لمغادرة البلاد إذا استطاعوا. والمشهد أمام القنصليات الاسبانية والبرتغالية والايطالية في بلدان أميركا الجنوبية يؤكد نتيجة الاستطلاع الأرجنتيني، حيث تقف طوابير طالبي تأشيرات الدخول الفيزا. وتفرض القنصليات إبراز وثائق تثبت أن أصول طالب الفيزا أو الجنسية هي من البلد الأوروبي، وهي مسألة ليست سهلة وتستغرق وقتاً طويلاً، لذلك ظهرت الشبكات السرية والعلنية التي تساعد على البحث عن الوثائق، وأحياناً عن "فبركتها"، وتضم هذه الشبكات محامين ومترجمين وموظفين رسميين. ولكل خدمة سعر. فثمن جواز السفر البرتغالي للعامل العادي يراوح بين 300 و400 دولار، لكن هناك نوع من الجوازات يتجاوز ثمنه 400 ألف دولار. ونتيجة لذلك ازدادت عمليات سرقة الجوازات "البكر" من البلديات والمؤسسات الرسمية في عدد من بلدان أميركا الجنوبية. هل هي مسألة كرة قدم فقط؟ انها المسألة المستمرة منذ قديم العهود: البحث عن الثروة لتوفير حياة هانئة!