لقد اتسعت دائرة الفن، كما هو معروف، ولم تعد مقتصرة على الأدوات التعبيرية المتعارف عليها. وشهدنا منذ سنوات تنامي فنون أخرى، كما بهتت أدوات كانت في السابق هي الطاغية... ومنذ سنوات اكتشف الخليج العربي التصوير الفوتوغرافي كإحدى الوسائل التعبيرية الفنية، وانقسم الجمهور إزاء هذا الشكل التعبيري، بين مؤيد ومعارض. والمصوّْر السعودي صالح عبدالله العزاز أحد أولئك الذين يقفون بالكاميرا في نقطة متأرجحة بين الدهشة والبحث عن تقنيات تدخل الصورة الى عالم الشعر. إنّه فارس البحث عن اللحظة التي تحوّل الجامد والمهمش الى لوحة فنية حيّة. وكل معرض من معارض هذا الفنّان له مذاق خاص. فمعرضه الأوّل كان في الهواء الطلق، وسط صحراء الدهناء، وقد شكّل في نظر النقّاد والجمهور تجربة أساسيّة ومهمّة. أما الكتاب الذي يتهيّأ لانجازه تحت عنوان "المستحيل الأزرق"، فقد أراده "عابراً للقارات"، إذ اشتمل على مادة فوتوغرافيّة غنيّة، على عناصر ونماذج وموضوعات وخلفيّات متعددة، شاء هذا المصوّر أن يوصلها إلى أوسع دائرة ممكنة من الناس. وها هو يسعى إلى الجمع بين المدينة والصحراء، في معرضه الجديد الذي أقيم أخيراً في الرياض تحت عنوان "بلا حدود". كما أن العزاز يعمل حاليّاً على مشروع مشترك مع التشكيلي السعودي فيصل السمرا، يتمحور حول الصحراء الخليجيّة، ومن المتوقّع أن يشكْل هذا المشروع منعطفاً في مسيرته الابداعيّة. وفي مناسبة معرضه الثالث في الرياض، إلتقت "الوسط" صالح العزاز، وكان هذا الحوار: لنبدأ من الاشكالية التي يواجهها الفوتوغرافي العربي اليوم: هل التصوير فن أم مهنة؟ - التصوير بالنسبة إلي هو السلاح الذي أتمنطق به، أو هو خيمتي الوحيدة في صحراء التعبير الشاسعة، أو أغنيتي التي أفاخر بها. إنّه فنّ قائم بذاته والتقنيات تأتي في خدمته، وهو ملجأ داخلي أجد فيه أحاسيس الأمان، وأمارس من خلاله التفاصيل الحميمة والممتعة... تتكلّم كالشعراء.... - كنت مشروع شاعر وبسبب القوانين اللغوية، ورداءة الأساليب التربويّة، فسدت لغتي وجعلتني أتهيب الشعر. فوجدت في التصوير الحل الجذري، فأنا أنظر الى الصورة كقصيدة علي أن أبدعها... فهي في طقوسها تقترب من طقوس الكتابة الشعرية وكذلك في مخاضها وحرقتها ولوعتها أيضاً... وأظن أن معرضي الجديد يحقق المتعة التي أسعى إليها. هل يسبق التقاط الصورة فكرة ما؟ - تنتابني حالات من الهواجس. أكون في مكان ما، فإذا بي أحمل كاميرتي وأتحرك... أتحرك نحو اللحظة والفتنة الداخلية التي أشعر بها، وتتحول الحال الى ما يشبه الالهام حيث تطاردك تلك الهواجس، وتغمرك الفرحة حين تلتقط شيئاً وتترجمه إلى شكل حيّ ومادة ملموسة بالحواس. ثمة شعور داخلي يحركك في الغوص في المشهد وتحويله الى شيء نابض... شيء يقترب من الحلم، ويتداخل مع الحياة بصورة فاتنة. الفنان التشكيلي، على سبيل المثال، يتحرك وفق بوصلة داخلية لالتقاط لوحته، ويبدو أن هذه البوصلة هي الموجهة للفنان. هل ترى ان الصورة الفوتوغرافية تلتقي مع القصيدة في أجزاء من تفاصيلها؟ - لو تأملت في قصائد الشعراء، يستجد إجابة عن هذا السؤال. دعنا نتأمل على سبيل المثال قصائد للمتنبي، مثل "مكر مفر...". هذه القصيدة فيها صور متلاحقة ونابضة بالعنفوان، صور متعاقبة لخلق المشهد الشعري. ولو التقطت صوراً من وحي هذا المشهد المجرّد، لوجدت التلاحم واضحاً بين الصورة والكلمة، بين المشهد السينمائي واللغة الحيّة. وعندما يصف المتنبي جمجمة الأسد، يجعلك تراها بشكل بصري ملموس. وتجد تلك الصور النافرة في قصائد عنترة بن شداد وهو يصف حاله في المعركة، بينما ذاكرته منشغلة بالحبيبة... حيث أن القصيدة تقوم بتشكيل الصور، وتتداخل تلك الصور كمشاهد سينمائية طرأت عليها عمليّة توليف مونتاج متقنة. وتلك الصور المكثفة في الشعر دلالة على انفصال بين المخزون الثقافي لدينا كعرب، وبين الأدوات المعاصرة. فمخزوننا الثقافي تتشكل فيه المجسمات من خلال الكلمة، إذ نحن نستند إلى ثقافة لغوية تحرك الأشياء وتجسدها، فيما الغرب - على سبيل المثال - لديه ثقافة مجسمة. فلو شاهدت المذبح أو العشاء الأخير تجد الاستناد الثقافي لديهم إلى الشكل... بينما نحن نستند إلى اللغة في تشكيل الأشياء... أعطني على سبيل المثال فناناً تشكيلياً عربياً واحداً حاول تجسيد الخنساء أو ليلى الأخيلية أو هند بنت عتبة. الصورة واقع بينما الشعر خيال كيف تجمع بين المتضادين؟ - نعم التصوير لا يعتمد على الخيال مقارنة بالفنان التشكيلي الذي يرغب في تأسيس لوحة، أو بالشاعر الذي يستنبت الكلمات لتشكيل قصيدة. لكن هناك حال داخلية تجمع بين الفوتوغرافي والفنان التشكيلي والشاعر. تلك الحال هي القبض على اللحظة وتجسيدها كفن. منح الأشياء الميتة حركة وفرحة أن تتداخل مع قارئها أو مشاهدها. هنا يدخل الخيال ويتقاطع مع التقنيات وشروط انتاج العمل. وفي كل الفنون هناك قديم وحديث، فالمقاييس التي تنطبق على الشعر تنطبق على بقية الفنون. وأشعر انني قبل التقاط الصورة أتهيأ لها مسبقاً... بحثاً عن الفكرة وتطويرها. أنتظر ساعات لخلق اللحظة لدمج الضوء والظل، وسرقة المشهد الذي يغري الفنان في داخلي. وكل هذه الاستعدادات للقبض على اللحظة الهاربة تعتمد على جهد وعبقرية المصور. فالتصوير بالنسبة لي غدا وَلَهاً يجعلني أرى الأشياء التي لا ترى. وأنا عندما أرفع العدسة أرقب كيف تحدث الأشياء بهذه العظمة، وأصبح متورطاً ومتوتراً مع خلق لحظة الابداع. فلا تتركني أعيش بعيداً عن عين الكاميرا التي تثبت الزمن، وتقدمه كلحظة رائعة ومجسدة تغريني في كل اللحظات باقتراف هذا القلق. كيف يتواصل المتلقي مع صورك؟ - الصورة تسافر كالقصيدة أو اللوحة التشكيلية. وكانت صوري تسافر وتتواصل مع المتلقي بصرياً وتحدث أثرها تاركة اخدوداً من الانفعالات عند ذلك المتلقي. والصورة علاقة بصرية لا تحتاج الى ترجمان. وفي هذا السياق أتذكر أن سيدة فرنسية التقت بإحدى صوري، فقامت بمحاكاتها والتواصل معها من خلال الفرشاة، وجسّدت تلك الصورة في لوحة تشكيلية. عنوان معرضك الأخير "بلا حدود"... لماذا اخترت هذا العنوان؟ - عندما تم توزيع بطاقة التعريف الخاصة بالمعرض، اكتشفت ان هذا الاسم ملتصق ببرنامج تلفزيوني. لكنني كنت منطلقاً من المسميات التي تخترق الحدود مثل: صحافيون بلا حدود، أطباء بلا حدود... كان الهدف الاشارة الى أن الفن لا تقف أمامه الحدود. لك تجربة تشابكت فيها القصيدة بالصورة... هل تحدثنا عن هذا المشروع؟ - أنجزت مشروعي "المستحيل الأزرق"، وهو كتاب تتداخل فيه الصورة مع القصيدة. وقد بدأت الفكرة بمجموعة صور كتب لها الشاعر البحريني قاسم حداد مجموعة قصائد... وهنا جاءت القصيدة بعد الصورة ... ما جعلني أشعر بأن صوري أكثر ايغالاً وقرباً وشفافية... فقد منحها جزءاً من ذاته فتلاقت الصورة والكلمة لتشكل حياة نابضة. هذه التجربة حظيت بالاهتمام من قبل مجموعة من الفنانين. فقد قام الأستاذ الكبير عبداللطيف اللعبي بترجمتها الى الفرنسية، ونعيم عاشور ترجمها الى الانكليزية بمراجعة الأستاذة سلمى الجيوسي... فتلاقت أرواح عدة في صناعة هذا الكتاب الابداعي، وتجاورت الصورة والكلمة لخلق تلك اللحظة الابداعية. وأتصور أن هذا العمل سيتحول فراشة تطير في كل الاتجاهات، في محاولة مستميتة للدفاع عن جمال البيئة. فكلّ معرض جديد إيغال في الذاكرة الجماعيّة، وتظاهرة باسم الذوق والخيال والجمال، ومحاولة جذريّة لمواجهة القبح الذي يحاصر عالمنا المعاصر