يعرف ياسر عرفات أن المشهد تغيّر فعلاً. فحين اندلعت الانتفاضة قبل 15 شهراً كان اسم رئيس الوزراء الإسرائيلي ايهود باراك، وكان حزب العمل في السلطة. وكان باراك يحاول الاقتداء باسحق رابين، أي السعي إلى الاستقالة من المصير الفلسطيني عن طريق الابتعاد عن الثقل السكاني الفلسطيني وإعادة معظم الأرض التي احتلتها الدولة العبرية في 1967 لتقوم عليها الدولة الفلسطينية. لم يعد باراك في السلطة. خسرها واندحر معه حزب العمل الذي تحول شريكاً في ائتلاف يقوده شارون. وأقصى ما يفعله شمعون بيريز في هذا الائتلاف تسجيل اعتراضه على جموح شارون والسعي في الوقت نفسه إلى تحسين صورة الدولة العبرية. يعرف ياسر عرفات أن المشهد تغير فعلاً. فحين اندلعت الانتفاضة كان اسم الرئيس الأميركي بيل كلينتون. كانت أبواب البيت الأبيض مفتوحة أمام الرئيس الفلسطيني. كان الرئيس الأميركي شريكاً في البحث عن السلام إلى درجة أنه حلم في نهايات عهده بدخول التاريخ من هذه البوابة الصعبة. اليوم تقيم الولاياتالمتحدة في عهدة رجل اسمه جورج بوش. لا لقاء ولا مصافحة قبل أن يدفع عرفات الثمن. وليس سراً أن الثمن باهظ، إذ عليه أن يدفعه من الانتفاضة التي كان يراهن على قدرته على الانتظار فيها. انتظار فشل شارون في إعادة الأمن إلى إسرائيل والإسرائيليين. وانتظار استعادة الأميركي دور الشريك بعد العثور على شريك إسرائيلي في البحث عن السلام. لا يحتاج ياسر عرفات إلى من يشرح له المشهد الدولي الجديد الذي لم يبدأ مع غياب كلينتون وباراك ومجيء بوش وشارون، بل مع الهجمات التي استهدفت نيويوركوواشنطن في 11 أيلول سبتمبر الماضي. فبعد ذلك التاريخ تغيرت أميركا وتغيّر جورج بوش وتغيّر الأميركيون. تغيّرت أولويات القوة العظمى الوحيدة بعدما ذهبت عملياً إلى حرب شاملة تتخطى المسرح الأفغاني لتدور في قارات عدة وبوسائل مختلفة. لم يعد النزاع العربي - الإسرائيلي في طليعة الاهتمامات. باتت مخاطره أقل من مخاطر غيره. لم يعد مصدر القلق الأول على المصالح والأمن. وحتى الذين اعتبروا أن الحرب على الإرهاب قد تستلزم، لتماسك التحالف الدولي الذي يقود هذه الحرب، نزع فتيل التفجير الفلسطيني - الإسرائيلي وفرض حل، حتى هؤلاء ذهبوا بعيداً في التوقع والتمني. لقد أظهرت الحرب في أفغانستان حقيقة مؤلمة مفادها أن هذه الحرب قادرة على التعايش مع مستويات غير مسبوقة من الاعتداءات الإسرائيلية وتبادل الضربات الدامية بين إسرائيل والفلسطينيين. وأظهرت أيضاً خطأ في حسابات من اعتقدوا أن الولاياتالمتحدة تورطت في فيتنام إسلامية وأنها ستخرج مثخنة وستضطر قبل الخروج إلى السعي إلى اطفاء الحريق في الشرق الأوسط. يدرك ياسر عرفات أن المشهد تغير فعلاً. روسيا بعد 11 أيلول هي غير روسيا قبل ذلك التاريخ. والأمر نفسه بالنسبة إلى أوروبا. وأوراق الانتظار تحت يافطة القمم العربية والإسلامية جربت وتكشفت محدودية مفاعيلها. لم تعد لدى ياسر عرفات محطات تصلح للانتظار. كان يطالب الولاياتالمتحدة بالضغط على إسرائيل لوقف اعتداءاتها وانتهاكاتها، وها هي واشنطن تطالبه بتحريك قواته ضد "الجماعات الإرهابية" الفلسطينية. كان يطالب إسرائيل بوقف النار والعودة إلى المفاوضات وها هي تطالبه ب"الوفاء بالتزاماته" وتضعه "خارج اللعبة" وتحوله سجيناً في رام الله. صحيح أن أميركا أطلت خلال الشهور القليلة الماضية، وعلى جرعات، ب"رؤية" تتضمن قيام دولة فلسطينية. لكن الصحيح أيضاً هو ان إعادة فتح الطريق إلى البيت الأبيض، كما إلى طاولة المفاوضات، يمر حتماً عبر وقف الانتفاضة. في ظل هجمات 11 أيلول وذيولها تابع شارون خطته لإخراج الفلسطينيين من الانتفاضة إلى حرب مفتوحة ضد إسرائيل. فالجيش الإسرائيلي أقدر على مواجهة الحرب منه على مواجهة انتفاضة. والعالم المذهول من أحداث نيويوركوواشنطن أكثر استعداداً لإدانة الهجمات الانتحارية، خصوصاً تلك التي تطول مدنيين. وفي الوقت نفسه سعى شارون إلى شطب ياسر عرفات الرجل القادر على زيارة رؤساء الدول الكبرى والذي حصل للسلطة الفلسطينية على شرعية دولية. نجح شارون في اطلاق الحرب ونجح في محاصرة عرفات إلى درجة أنه صار على الرئيس الفلسطيني، في ظل المشهد الدولي الجديد، اتخاذ قرار الرجوع من الانتفاضة لإنقاذ الفلسطينيين من آلة الحرب الإسرائيلية وانقاذ السلطة من محاولة إلغائها لتقويض حلم الدولة الفلسطينية. لم يكن في استطاعة ياسر عرفات أن ينضم إلى قافلة الانتحاريين والمقامرة بكل شيء. لكن قرار الرجوع من الانتفاضة نفسه سيتحول انتحارياً إذا كان يعني اندلاع حرب أهلية فلسطينية. ويبدو الانقاذ مطلوباً هذه المرة من المسؤولين عن اطلاق العمليات الاستشهادية. والانقاذ يعني اتخاذ قرار كان يفترض أن يتخذه غداة 11 أيلول وهو العودة من الحرب إلى قدر من الانتفاضة لا يوفر لشارون الذرائع التي يبحث عنها لشطب عرفات والسلطة وحلم الدولة الفلسطينية .