يتحدث الايطاليون عن عودة "الكافالييري"، اي الفارس سيلفيو برلوسكوني، ويضعون موعداً لا يتجاوز عشرة شهور من الآن، ليستعيد موقعه في قيادة البلاد. فبعد خمس سنوات ونصف على تخليه عن السلطة بسبب اتهامه بالتورط في الفساد والرشوة، واربع سنوات على خسارته في الانتخابات التشريعية في مواجهة تحالف يسار الوسط بقيادة رومانو برودي، عاد برلوسكوني ليطرق مجدداً ابواب رئاسة الحكومة في قصر "شيفي". فعلى رغم مشكلاته القانونية المختلفة والمتعددة استطاع الرجل الأغنى في ايطاليا الذي تقدّر ثروته بنحو 7 بلايين دولار من استرجاع ديناميته التي سمحت له في العام 1994 وخلال اسابيع قليلة من تأسيس حركته اليمينية المعروفة باسم "فورزا ايطاليا" القوة الايطالية، وان يفرض نفسه طوال سبعة اشهر على رأس السلطة التنفيذية. وبعد الانتصار الكبير الذي حققه في الانتخابات الفرعية التي جرت في شهر نيسان ابريل الماضي، والذي تبعته استقالة حكومة يسار الوسط بقيادة ماسيمو داليما، بات باستطاعة برلوسكوني المطالبة باجراء انتخابات عامة قبل الوقت المحدد، وهذا ما بدأه بالفعل كونه يريد الاستفادة ما امكن من المعطيات الانتخابية الجديدة ليثأر من الذين حاولوا تحطيمه في المجال الوحيد الذي خسر فيه، ألا وهو السياسة. ان قراءة لتطور الاوضاع السياسية والاقتصادية في ايطاليا منذ حوالي الثلاث سنوات، تبين ان هامش المناورة لرئيس الوزراء الحالي جوليانو اماتو يبدو ضئيلاً. فالانتخابات التشريعية المقبلة ستنظم خلال ربيع 2001 كحد اقصى في حين ان الحكومة التي يقودها وزير الخزانة السابق لا تعدو كونها مجرد "توليفة انتقالية" ليس لها اي مستقبل. لذا يحق لبرلوسكوني ان يراهن على حظوظه المتاحة في هذه المرحلة. فالملياردير الايطالي، الذي نجح في جميع الميادين التي خاض غمارها، من الرياضة الى الاعمال، ومن الاعمار الى الاستثمار، لم يهضم قط الاهانة التي لحقت به في كانون الاول ديسمبر 1994 عندما أُجبر وبسرعة فائقة على التخلي عن مهامه في الوقت الذي عمل فيه يسار الوسط والنقابات وكذلك المؤسسات العامة للدولة على احتقاره، واصفين إياه ببائع التلفزيونات ذي الطموحات المستحيلة. كما لم ينس برلوسكوني كيف تخلى عنه ايضاً الرأي العام المتخوّف من برنامجه الليبرالي الطموح جداً. يعود برلوسكوني الذي يحب الشارع الايطالي ان يطلق عليه لقب "الرجل الاكثر شعبية في البلاد" بقوة وبسهولة، مستفيداً من ادارة بيروقراطية ومن اخطاء حكومات فرضت ضرائب باهظة، واعداً بتنفيذ برنامج متكامل لتخصيص شركات القطاع العام المترهلة بحد ادنى من التسريحات وبخفض مدروس وتدريجي للنظام الضرائبي. لكن برلوسكوني لا ينسى انه سبق له ان خلق عداوات في الماضي عندما تسرّع وحاول اجراء اصلاحات غير شعبية دفعت بأكثر من مليون ايطالي للنزول الى الشارع معترضين على اعادة صياغة نظام التقاعد. الا انه من سخرية القدر، ان الخصم الدائم لبرلوسكوني الشيوعي السابق ماسيمو داليما هو الذي اعطاه الادوات التي ساعدته في التأسيس لعودة مظفرة، وذلك حين عرض عليه في العام 1997، اعادة صياغة الدستور. ويتعلق الامر هنا بالنسبة الى داليما الظهور بمظهر احد الرجالات الكبار الذين يحاولون اعادة بناء الوطن. فما كان من برلوسكوني الا ان استغل هذه الفرصة، خصوصاً انه كان في تلك الفترة مهدداً من قبل القضاء بجرم الفساد والرشوة. لقد قَبِلَ زعيم "فورزا ايطاليا" عرض خصمه مقابل تجميد الاجراءات المُتخدة ضد امبراطوريته الاقتصادية، ومن ضمنها "فاين انفست" ابرز شركات مجموعته الاعلامية التي كانت ترزح تحت وطأة دين وصل الى حدّ افلاسها. انطلاقاً من هنا، بدأ برلوسكوني باستعادة مواقعه في حين عادت المصارف الى سابق عهدها بدعمه وفتح خطوط الاعتمادات له، واعطائه القروض التي تحتاجها شركاته. ولم تتوقف الامور عند هذا الحد، فقد وجد القضاة الذين كانوا ينغصون عليه عيشه شبه معزولين بين ليلة وضحاها. ومن ناحية، عرف زعيم اليمين الايطالي كيف يستخلص الدروس من اخطائه السابقة التي ادت الى خسارته لمواقعه في العام 1994، فطوال حرب كوسوفو لعب دور رجل الدولة المسؤول من خلال دعمه حكومة الاكثرية. وعلى الصعيد السياسي عمل على اعادة تنظيم حركته السياسية عبر الانخراط في صفوف "الحزب الشعبي الاوروبي" الذي يضم احزاب اليمين المعتدل في برلمان ستراسبورغ. فالحركة التي أنشئت على عجل في كانون الثاني يناير 1994 بفضل كوادر شركة "فاين انفست" الهواة في السياسة اصبحت الآن حزباً له ركائزه في جميع انحاء ايطاليا كما فاز بأكثر من 25 في المئة من الاصوات في الانتخابات الاوروبية واحتل المركز الاول. واذا كان برلوسكوني سريع الانفعال ككل الايطاليين، الا انه يُعتبر براغماتياً بالمفهوم السياسي. وخير دليل على ذلك، اختياره للحلفاء النافذين، متناسياً بذلك "خيانات" الماضي مستهدفاً اعداد مستقبل افضل. ففي العام 1994، ساهم زعيم "رابطة الشمال"، أمبرتو بوسي في الاسراع بسقوطه خوفاً من المنافسة الحادة التي بدأت تنعكس سلباً على اداء نواب الرابطة في البرلمان. فالمصالحة التي جرت عشية الانتخابات بين الطرفين سمحت لليمين بالفوز في ثماني مناطق في مقابل سبعة لتيار يسار الوسط، كما تمكن من فرض نفسه في الشمال، وفي روما وفي منطقتين من مناطق الجنوب الايطالي الذي يُعدّ تاريخياً معقلاً للحزب الشيوعي. من جهة اخرى، تعامل برلوسكوني بالاسلوب نفسه مع كبار الصناعيين الايطاليين الذين تخلوا عنه في السابق ودعوا للتصويت ل"اتحاد التقدميين". فالزعيم الايطالي يمثل اليمين الذي يخلق الخوف"، حسب تقييم "فرانكو دي بنيديتي" الذي انتخبه يسار الوسط على رغم كونه صناعياً يمينياً معادياً له. ومع ذلك، وضمن خطة التناسي دفع برلوسكوني بأولاده للتشارك مع ابناء صاحب شركة "بنيتون" الشهيرة للألبسة. كما تقرّب اكثر فأكثر من مصرف الاعمال "ميديو بنك" الذي كان حتى وقت قريب من ألد خصومه. ان التقارب الذي يجريه برلوسكوني حالياً يتم على حساب بعض التنازلات في الشكل بمعنى آخر على مستوى الخطاب السياسي. فالاتفاق الذي تم مع "رابطة الشمال" اساسه تقديم تنازلات على صعيدي الامن والهجرة، وبناء عليه لم يتردد لحظة واحدة في توقيع النص الذي يشير الى الدفاع عن "النموذج المسيحي" المتصدي للمجتمع المتعدد الاعراق. وفي هذا الاطار يؤكد المقرّبون من برلوسكوني ان الامر لا يتعلق سوى بالتزام شكلي تم اعطاؤه للحلفاء بهدف استخدامه للاستهلاك الداخلي. باختصار، لقد اعتادت الساحة السياسية الايطالية على مناورات زعيم "فورزا ايطاليا" الذي تارة يجاري اليمين وطوراً يساير اليسار والوسط وذلك حسب استطلاعات الرأي والظروف المحيطة. على ذلك، يعلّق المحلل السياسي الايطالي ايلفو ديامانتي بقوله: "لقد تعلّم برلوسكوني خلال فترة وجيزة نسبياً علم السياسة التقليدية، اي تغيير مواقفه حسب تغيّر الاوضاع ووفق نوعية وأمزجة حلفائه. ومن الامثلة على ذلك، مراعاته الزائدة لالتزام ايطاليا السير في ركب الاتحاد الاوروبي والاشادة بضرورة العمل على استخدام اليورو كوحدة نقدية اوروبية وابعاده لعدد من المقربين ممن وجهوا انتقادات حادة للعملة الموحدة. وتجدر الاشارة ايضاً الى انه خلال الحملة الانتخابية الفرعية الاخيرة عرف برلوسكوني كيف يستغل امكاناته المالية الكبيرة الى اقصى حد في خدمة خطة اعلامية متطورة جداً وضعت موضع التنفيذ من قبل اهم الخبراء في هذا الميدان. وفي هذا السياق، افادت المعلومات بأن زعيم المعارضة انفق ما مقداره 20 مليون دولار على تنظيم جولة انتخابية على المناطق حقق بنتيجتها مردوداً مهماً على قيمة اسهم شركاته المدرجة في البورصة خصوصاً بعد الانتصار اللافت الذي حققه. ففي اقل من اسبوع، ربح برلوسكوني حوالي 400 مليون دولار. وعلى رغم هذا النجاح الذي يمهّد لعودة "الاخطبوط" بقوة الى السلطة التنفيذية، الا ان عالم المال والاعمال لا يوافق برلوسكوني على الامساك بزمام السياسة والاقتصاد معاً. فإذا أراد ان يحظى بتأييده فعليه ان يفصل من الآن وبشكل واضح بين نشاطه السياسي وامبراطوريته الاقتصادية، وإلا سيخلق زعيم المعارضة القوي عداوات جديدة لا ينبغي التقليل من تأثيرها في اللعبة السياسية الداخلية التي يمكن ان تضعه مجدداً على حد السكين