فريق DR7 يُتوّج بطلًا ل Kings Cup MENA في موسم الرياض    زلزال بقوة 5.7 درجات يضرب قبالة سواحل مملكة تونغا    ارتفاع أسعار النفط وسط مخاوف بشأن الإمدادات    العنزي يحقق فضية المواي تاي وزن 67 كجم.. وأخضر اليد يكسب العراق    أخضر اليد يتغلب على نظيره العراقي في «الرياض 2025»    الأخضر السعودي يهزم ساحل العاج بهدف أبو الشامات وديًا    مكتب وزارة البيئة والمياه والزراعة بينبع ينظم فعالية "يوم الغذاء العضوي" في الدانة مول    جامعة أم القرى تختتم الموسم الثاني من هاكاثون "أنسنة المشاعر المقدسة"    معهد البحوث بجامعة أم القرى يطلق 13 برنامجًا نوعيًّا لتعزيز مهارات سوق العمل    مساعد وزير الداخلية يرأس وفد المملكة في المؤتمر الوزاري لبلدان الاتحاد الأوروبي ومنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا    قمة تنافسية بين بيش والخالدي عصر غدٍ السبت    الشريك الأدبي قريبا مساحة بين الأدب والفن في لقاء مع الفنانة التشكيلية مريم بوخمسين    المملكة توزّع (1,514) سلة غذائية بولاية شمال كردفان في السودان    الصين تحذر اليابان من هزيمة عسكرية «ساحقة»    ارتفاع أسعار النفط وخام برنت يصعد إلى 64.39 دولار للبرميل    مجمع هروب الطبي يفعّل مبادرتين صحيتين بالتزامن مع اليوم العالمي للسكري    القبض على إثيوبي في جازان لتهريبه (108) كجم "قات"    قتلى وجرحى إثر هجوم روسي كبير على كييف    بلدية الدلم تضبط 13 مخالفة جسيمة وتغلق منشآة تجارية    «الأرصاد» يراقب تطورات الحالة المطرية من خلال تقنيات أرصادية تغطي أكثر من 90% من مساحة المملكة    اختتام دورة "فن احتراف الديكور الداخلي" ضمن "انطلاقة نماء" بجازان    شاهين شرورة ب 351 ألف ريال    غيابات منتخب السعودية عن مواجهة كوت ديفوار    حرم ولي العهد تتبرع لصندوق دعم الأطفال المصابين بداء السكري من النوع الأول ب10 ملايين ريال    اختتام فعالية التطوع الاحترافي بمشاركة 24 خبيراً و250 مستفيد في جدة    من النص إلى النشر".. نادي مداد وبيت الثقافة بجيزان يناقشان تجربة الكاتب وقارئه الأول    جمعية عين لطب العيون تنظم فعالية توعوية بمناسبة اليوم العالمي للسكري في جازان تحت شعار "فحصك اليوم    ديوان المظالم يفوز بجائزتين دوليّتَين في تجربة العميل 2025    الأسهم العالمية تتراجع بشدة مع تبدد آمال خفض أسعار الفائدة    البعيجان: الإخلاص أصل القبول وميزان صلاح الأعمال    الدوسري: برّ الوالدين من أعظم القربات إلى الله    جامعة الإمام عبدالرحمن بن فيصل تعزز الوعي بداء السكري في سكرك بأمان    152 توأماً من 28 دولة.. والمملكة تحتفل بالإنجاز الجراحي رقم 67    جامعة محمد بن فهد تستذكر مؤسسها في احتفالية تخريج أبنائها وبناتها    موسم الدرعية 25/26 يستعد لإطلاق مهرجان الدرعية للرواية الأحد المقبل    الفن يُعالج... معارض تشكيلية في المستشفيات تعيد للمرضى الأمل    أفضل خمس خدمات بث فيديو    رحلة الحج عبر قرن    غدٌ مُشرق    عدسة نانوية لاكتشاف الأورام    انطلاق "موسم شتاء درب زبيدة 2025" في محمية الإمام تركي بن عبدالله الملكية    مفتي عام المملكة يستقبل وزير العدل    غرفة القصيم توقع تفاهمًا مع الحياة الفطرية    الدفاع المدني يهيب بأخذ الحيطة والالتزام بالتعليمات مع توقع هطول أمطار رعدية على معظم المناطق    منسوبو وطلاب مدارس تعليم جازان يؤدّون صلاة الاستسقاء    "محافظ محايل" يؤدي صلاة الاستسقاء مع جموع المصلين    محافظ صبيا يؤدي صلاة الاستسقاء تأسياً بسنة النبي واستجابة لتوجيه خادم الحرمين الشريفين    أول اجتماع لمكتب المتقاعدين بقوز الجعافرة    مصرية حامل ب9 أجنة    الثقوب الزرقاء ورأس حاطبة.. محميتان بحريّتان تجسّدان وعي المملكة البيئي وريادتها العالمية    محافظ محايل يزور مستشفى المداواة ويطّلع على مشاريع التطوير والتوسعة الجديدة    ذاكرة الحرمين    ترمب يواجه ردة فعل مشابهة لبايدن    القيادة تعزي رئيس تركيا في ضحايا تحطم طائرة عسكرية    آل الشيخ ورئيسا «النواب» و«الشورى» يبحثون التعاون.. ولي عهد البحرين يستقبل رئيس مجلس الشورى    استعرض مع ولي عهد الكويت التعاون.. وزير الداخلية: مواجهة الجريمة والإرهاب بمنظومة أمنية خليجية متكاملة    وسط مجاعة وألغام على الطرق.. مأساة إنسانية على طريق الفارين من الفاشر    طهران تؤكد جديتها في المفاوضات النووية.. إيران بين أزمتي الجفاف والعقوبات    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



ضجة في صف الفلسفة عنوانها "ومن الحب ما قتل" . الفيلسوف الذي خنق زوجته بانتظار لقاء الخلاص بين موسكو والفاتيكان
نشر في الحياة يوم 23 - 08 - 1999

هل خنقها لأنه كان يحبها وشاء لها الخلاص، ليس من داء معين بل من المصير الاسود الذي ينتظر البشرية؟ ام لانه لم يعد قادراً على تحمّل سطوتها وشخصيتها الشرسة؟
هو لوي التوسير، اكبر فيلسوف فرنسي في النصف الثاني من القرن العشرين، والمفكر الذي تتلمذ على كتبه ملايين من ثوريي وماركسيي العقود الاخيرة الذين اكتشفوا في كتبه مثل "قراءة رأس المال" و"انتصاراً لماركس" "الرد على جون لويس" طريقاً للوصول الى الماركسية عبر نقدها وتجديدها الدائم.
وهي هيلين، رفيقته طوال ثلاثين عاماً، وزوجته خلال السنوات الاربع الاخيرة من حياتهما معاً. المناضلة ضد النازيين التي طردت من الحزب الشيوعي الفرنسي بتهمة التعاون معهم، وامضت بقية حياتها كلها تحاول العودة الى الحزب، جارّة معها اليه فيلسوفها العاشق الذي لولاها لما كان جمعه شيء بحزب لم يكفّ عن انتقاده.
لوي خنق هيلين ذات يوم خريفي فضجّت فرنسا كلها. وحين مات بعد ذلك بعشرة اعوام تحدثت عنه الصحافة الشعبية كقاتل غريب الاطوار، ناسية انه مفكّر كبير. ومع هذا لئن كان التوسير بحاجة لمن يدافع عنه بعد رحيله ويضفي على جريمته ابعاداً فلسفية وجودية، فقد وجد هذا "المحامي" في شخص المفكر الكاثوليكي الكبير جان غينون، الذي اكد في كتاب له، ان ازمة التوسير الحقيقية خلال سنواته الاخيرة كانت ايمانه بان العالم مقبل على ازمة وجودية، لن يكون خلاص البشرية منها، الا بفضل لقاء عجائبي يتم بين موسكو زعيمة العالم الاشتراكي في ذلك الحين والفاتيكان رأس الكنيسة الكاثوليكية. وهنا عرض لهذه الحكاية التي تتداخل فيها الجريمة مع الحب، الايمان مع القلق، الفاتيكان مع موسكو، والفلسفة مع النضال والاسئلة الوجودية العميقة.
"هاكم مشهد الجريمة كما عشته بنفسي. فجأة، في ذلك اليوم، وجدتني واقفاً، بثوب المنزل عند حافة السرير في شقتي ب"المدرسة العليا" كان يوماً اغبر من ايام تشرين الثاني نوفمبر، وكان الوقت نحو التاسعة صباحاً. كان ضوء ذلك اليوم الخافت يأتي من اليسار. من النافذة العليا المحاطة، منذ زمن بعيد، بستائر حمراء على الطراز الامبراطوري. امامي كانت هيلين راقدة على ظهرها، مرتدية هي الاخرى ثوباً منزلياً، كان الجزء الاسفل من جسدها مسترخياً حتى حافة السرير، وساقاها مرخيتين على السجادة. كنت راكعاً قربها، منحنياً على جسدها، أقوم بتدليك رقبتها. كان غالباً ما يحدث ان ادلّك لها رقبتها وظهرها وخاصرتيها … ولكنني هذه المرة كنت أدلّك الجزء الامامي من رقبتها. فجأة احسست بأنني اضغط بإبهامي على لحم الرقبة، واصلاً ببطء وقوة بين ابهام يدلك ذات اليمين وآخر يدلك ذات اليسار، وصولاً الى المنطقة الصلبة تحت الاذنين … ذات لحظة احسست بتعب عضلي كبير في ذراعيّ. كنت اعلم ان التدليك دائماً ما يتعب ذراعي. لكن، في هذه المرة، بدا لي وجه هيلين جامداً ورزيناً. ولاحظت كيف ان عينيها المفتوحتين تحدقان في السقف. بشكل مباغت اصابني رعب شديد، كان ذلك حين تبين لي، كالكابوس، ان نظرة عينيها وهي تحدق، شديدة الجمود، في اللحظة نفسها بدا لسانها مستقراً بهدوء غريب بين اسنانها وشفتيها. في الماضي سبق لي ان رأيت اشخاصاً ميتين. ولكن ابداً لم يسبق لي ان شاهدت وجه انسان مخنوق. ومع هذا ادركت ان امامي وجه انسان مخنوق. كيف حدث هذا؟ انتصبت واقفاً وصرخت: "لقد خنقت هيلين!" ثم ركضت بكل ما لدي من قوة، وعبرت الشقة ونزلت الدرج الصغير الموصل الى الفناء وتوجهت الى المستوصف حيث كنت اعلم ان في امكاني ان اعثر على الدكتور اتيان الذي يقطن الطابق الاول من المبنى نفسه، لم التق خلال ركضي احداً. كان اليوم يوم احد. والمدرسة نصف خالية، ومن فيها لا يزالون نياماً. صعدت الدرجات اربعاً اربعاً، نحو الدكتور وانا اصيح "لقد خنقت هيلين!" ورحت اطرق بعنف على باب الدكتور الذي انتهى به الامر الى فتح الباب حائراً، فيما كنت اواصل صراخي الهاذي بأني قد خنقت هيلين. وسحبت الطبيب من ثوبه طالباً منه ان يأتي لرؤيتها و"الا فانني سوف احرق المدرسة كلها". في البداية لم يصدقني اتيان "هذا مستحيل" قال. لكنه مع هذا ركض معي حتى وقفنا معاً قرب هيلين. كانت عيناها جامدتين. ولسانها لا يزال مستقراً بين الاسنان والشفتين. فحصها اتيان ثم قال: "عبثاً نحاول. لقد فات الاوان"، سألته "أفلا يمكننا احياؤها؟" قال حاسماً "لا". ثم تركني وحدي بضع دقائق. ولقد فهمت لاحقاً ان خلال ذلك اجرى اتصالاً هاتفياً بالمدير وبالمستشفى وبمركز الشرطة، بينما كنت انا انتظر الى ما لا نهاية. كنت احدق في الستائر الحمراء، واستعيد منظر صديقنا جاك مارتان، الذي مات في غرفته الصغيرة في شهر اب اغسطس 1964. وحين تم العثور عليه كان راقداً في سريره ميتاً منذ بضعة ايام. ارعبني منظر هيلين فسحبت جزءاً من الستار الاحمر الممزق وغطيت به جسدها، من الكتف اليمنى حتى اسفل الصدر. في ذلك الحين كان اتيان قد عاد، وبدأت الامور كلها تختلط في وعيي. ويبدو لي ان اتيان اعطاني حقنة ما ثم قادني الى غرفتي حيث شاهدت شخصاً، لست اذكر الآن من هو، يجمع بعض الكتب، وبدأ اتيان يتحدث الى المستشفى فيما رحت انا اغيب فاقداً وعيي في ليل طويل. لم افق منه الا وانا نزيل مستشفى سانت آن…".
لم يرد هذا الوصف التفصيلي في رواية بوليسية، وليس - بالطبع - جزءاً من فيلم سينمائي، بل هو الحكاية الحقيقية التي حكاها الفيلسوف الفرنسي لوي التوسير حين افاق بعد سنوات من صدمة ما حدثت له، ورأى ان في امكانه ان يحوّل تلك الذكريات الكابوسية الى كلمات. وهو نشر هذا الوصف تحت عنوان "المستقبل يدوم طويلاً" في كتاب صدر بعد رحيله ويضم فصولاً من سيرته الذاتية. والتوسير يصف هنا كيف قتل زوجته هيلين، في تلك الحادثة التي شغلت فرنسا عن بكرة ابيها يوم انتشر النبأ في خريف العام 1980 وكان ذلك قبل عشرة اعوام من موته في خريف العام 1990.
جريمة فيلسوف
طبعاً ليس من الامور النادرة ان يقتل رجل زوجته، او ان تقتل امرأة زوجها، غير ان ما استوقف الرأي العام في تلك الحادثة، كان امرين: اولهما مكانة لوي التوسير في الثقافة والتاريخ الفكري الفرنسيين، من ناحية، وكون الجريمة كما روتها الصحف وحللها المحللون، اتت من ناحية ثانية تتويجاً لحكاية حب غريبة عاشها لوي وهيلين طوال عقود من السنين. ولقد اكد كاتبو سيرة التوسير ان الرجل ظل يحب هيلين حتى اللحظات الاخيرة. بل ان الفيلسوف جان غيتون، صديق التوسير، اكد مراراً وتكراراً، ان القتل نفسه كان التعبير الاسمى عن ذلك الحب. وهو تأكيد يناقضه، كما سنرى، نص لفيلسوفة ايطالية صديقة التوسير وتلميذة له هي ماريا - انطونييتا ماكيوكي.
ولكن قبل العودة الى هذا كله سيكون من المفيد تذكير القارئ بمن هو لوي التوسير، لكي يدرك سبب ذلك الضجيج الكبير الذي احاط بالجريمة. ولكي يحكم بنفسه ما اذا كانت الجريمة عملاً مدبراً، ام انها تنضوي ضمن اطار ما يعبر عنه المثل العربي القائل "… ومن الحب ما قتل".
في المقاييس كافة كان لوي التوسير اكبر مفكر وفيلسوف ماركسي فرنسي واوروبي خلال النصف الثاني من القرن العشرين، وهو رغم التزامه الملتبس بالحزب الشيوعي الفرنسي الذي انتمى اليه دائماً، كان واحداً من الآباء الفكريين لثورة الشبيبة الفرنسية والاوروبية في العام 1968، التي هاجمت الاحزاب الشيوعية الرسمية بقدر ما هاجمت "الطبقات البورجوازية الحاكمة" في اوروبا الغربية. في اذهان تلك الشبيبة كانت لالتوسير مكانة مميزة، اكتسبها بفضل كتاباته التي كان النقد واحداً من اسلحتها الرئيسية. والحال ان التوسير، رغم التزامه الحزبي، كان واحداً من الذين بكّروا في انتقاد ما آل اليه وضع الفكر والممارسة الماركسيين، منبهاً الى ان ذلك كله سوف يقود الفكر الاشتراكي الى كارثة حقيقية.
ولد التوسير في العام 1918، وتعلم في ليون على يد استاذين كاثوليكيين ظلا صديقين له على الدوام، هما جان غيتون وجان لاكروا. وهو بدأ حياته مفكراً كاثوليكياً، لكنه حين خاض غمار الحرب العالمية الثانية، ووقع في أسر الألمان حيث ظل خمس سنوات نزيل المعتقل، انطبعت حياته بذلك الى درجة انه صار منذ ذلك الحين عرضة لاضطرابات نفسية رافقته حتى سنواته الاخيرة. وهو في الوقت نفسه راح يبتعد عن الفكر الكاثوليكي ليقترب الى الماركسية، الى حد انه انتمى في العام 1948 الى الحزب الشيوعي الفرنسي. وسوف تقول ماريا - انطونيتيا ماكيوكي انه لم ينتم الى ذلك الحزب، الا لرغبته في ان يدفع الحزب الى القبول بدخول هيلين فيه. فهيلين كانت قبل الحرب العالمية الثانية، عضواً في الحزب، وكانت مناضلة صلبة وشرسة. وساهمت خلال الحرب في المقاومة ضد الألمان. لكن الحزب اتهمها بالعمل لصالح النازيين فطردت. وهيلين تعرفت على التوسير في العام 1946 في وقت كانت تسعى فيه الى العودة الى صفوف الحزب، وهو مسعى ظلت تحاوله طوال عقود بعد ذلك من دون نجاح. ومن المؤكد ان التوسير الذي وقع في هوى هيلين منذ لقائهما الأول - وكانت تكبره بسنوات عديدة -، لم يكن من النوع الذي يمكنه ان ينخرط في احزاب، لكنه انخرط بدافع منها. لأنها، رغم مشاكلها مع الحزب ظلت تحن اليه، وهي لاحقاً ستقوم بدور الوسيط بينه وبين التوسير عندما اختلفا.
امرأة شرسة مسيطرة
ترى هل كان ما بين لوي وهيلين حبا؟ ام انه وقع تحت سيطرتها؟
اذا صدقنا ما كتبه لوي عن هيلين، هو الذي نادراً ما كتب قبل سنواته الاخيرة عن امور شخصية، سنجدنا امام حكاية حب غريبة ونادرة. لكنها لم تكن حكاية ثنائية، بل ثلاثية، اما الطرف الثالث فيها فكان الحزب الشيوعي الفرنسي. والغريب هنا هو ان الحزب رفض هيلين دائماً، وهي كانت تدفع لوي الى الحزب. في المقابل تروي ماريا - انطونييتا ماكيوكي انها، راحت تحاول، منذ تعرفت على التوسير، في بداية السبعينات، ابعاده عن الحزب لصالح فكر تحرري مستقل. وهي، في سبيل ذلك خاضت صراعاً عنيفاً ضد هيلين. وإذا صدقنا الفيلسوفة الايطالية سنجد ان هذا الصراع قد طبع مسار الثنائي لوي - هيلين، خلال السنوات الاخيرة.
والفيلسوفة الايطالية تشكك بحقيقة الحب بين لوي وهيلين، وتقول ان العلاقة الحقيقية هي علاقة سيطرة مارستها هيلين على لوي. ما يعني انه حين قتلها كان يحاول التخلص من سيطرتها عليه، ومن سطوة شخصيتها النزقة القوية. هنا لا بد ان نذكر ان لوي وهيلين عاشا سوية منذ لقائهما وارتباطهما في العام 1948، لكنهما لم يتزوجا رسمياً الا في شهر تشرين الثاني نوفمبر 1976، اي قبل اربع سنوات تماماً من خنقها. وهما حين تزوجا كانا قد اصبحا في عمر متقدم جداً، وكان هو يشعر انه على وشك الرحيل لذلك، كما تروي الصديقة الايطالية، آثر ان لا ترث حقوق كتبه وكل ما يمتلكه في الحياة ان عاشت من بعده.
ولئن كانت الفيلسوفة الايطالية ترى ان كل هذا كان استجابة لسيطرة هيلين، ونتيجة لضعف شخصية التوسير، فإن الفيلسوف المؤمن جان غيتون، الذي كان خير صديق واستاذ لآلتوسير، يرى الامور من وجهة نظر مختلفة، اكثر روحانية وحيوية. فهو يروي في كتاب ذكرياته، كيف ان حواراته مع آلتوسير كانت لا تهدأ، وانهما في لحظات كثيرة كانا يشعران بتقارب فكري بينهما. وان التوسير كان كثيراً ما يحدثه عن حبه الحقيقي لهيلين. ومن هنا فإن غيتون يرى بعداً نفسياً وجودياً في حكاية القتل. يقول غيتون: "في العام 1980، دعاني لوي الى الغداء عنده في شقته داخل المدرسة. كان يخامره شعور قلق بأن الانسانة في طريقها الى الدخول في ازمة لا سابق لها. رأيت هيلين على حدة. روت لي فصولاً من حياتها الفقيرة كإبنة للطبقة العاملة. وقالت لي ان الكاثوليكيين، مثل الشيوعيين، كانوا وسيظلون بورجوازيين، عاجزين ابدا عن الوصول الى عمق ذاتهم الحقيقية. وبدا لي ان هيلين ولوي قد ارتبطا فيما بينهما ارتباطاً مطلقاً، متخلين عن أية رغبات مهينة وعن كل تكريم بشري. وكان الاثنان، كما فهمت، ارتبطا بعلاقة مع جمعية راهبات اتخذن قصراً لهن قرب المدرسة".
موسكو والفاتيكان
بعد ذلك، كانت لقاءات اخيرة بين الثنائي وجان غيتون: "لقد زارني لوي في منزلي برفقة هيلين قبل اشهر قليلة من الحادثة. وقالا لي انهما واثقان الآن من ان البشرية تدخل مرحلة اخيرة من ظلامها. وقال الاثنان انهما لا يجدان سوى مكان واحد يمكن فيه لهذه المرحلة ان تجد حلاً لها: هذا المكان هو موسكو. ولكن وراء موسكو كانت هناك روما. ومن هنا فإن الاثنين يجدان ان خلاص العالم لن يكون الا في قيام علاقة مباشرة بين موسكو وروما، اي بين الحكم الشيوعي والفاتيكان. وسألني التوسير ان اذهب الى البابا وأقول له "كن ذلك الرجل الذي يجتاز تلك الحواجز الاخيرة، لأنك الشخص الوحيد الذي لديه، الآن، سطوة معنوية على الانسانية". ويقول غيتون ان التوسير سافر بالفعل في ذلك الحين الى الفاتيكان حيث التقى مستشاراً للبابا. وهذا المستشار رفع الى الحبر الاعظم تقريراً خلاصته ان الفيلسوف الماركسي الفرنسي يحرص على عقد لقاء مع رأس الكنيسة الكاثوليكية. بعد ذلك التقى غيتون البابا الذي قال له انه مستعد للقاء "هذا المفكر المنطقي الذي اعتاد ان يصل الى منتهى افكاره".
وبالفعل جرى الحديث عن تحديد موعد. ولكن التوسير قتل هيلين في ذلك الحين. ولم يحدث اللقاء. ثم انهارت موسكو وبقيت روما. وبقي غيتون ليروي هذا كله، وليعيدنا الى السؤال الأساسي: هل كان قتل لوي لهيلين، تخلصاً منها، ام تعبيراً عن أزمة وجودية، ام نتيجة لاضطراباته النفسية ولسطوتها وشراستها؟
غيتون كان يرى ان العلاقة بين الزوجين كانت متينة. وماكيوكي كانت ترى ان لوي كان يحاول بين الحين والحين ان يتخلص من سيطرة هيلين. غير ان ماكيوكي نفسها تعترف في لحظة من اللحظات ورغم عدائها المطلق لهيلين، انسانياً وسياسياً، انها تفهم الآن، اذ تقرأ ما كتبه التوسير نفسه حول دوافع قتله لهيلين، ان هذه الاخيرة كانت هي التي طلبت من "العبقري المجنون ان يقتلها. ويبدو ذلك الطلب وكأنه دعوة غرامية اخيرة فيما بينهما". من هنا تختم ماكيوكي كلامها قائلة: "لقد فعلها، وقتلها. ومن الآن وصاعداً لن يستطيع احد ان يفرق بينهما".
والآن بعد نحو عقدين من قتل لوي لهيلين، وبعد نحو عقد من رحيله، هو الآخر، حزيناً منطوياً على نفسه مؤمناً بأنه خسر كل شيء، لا يزال شيء من الغموض يحيط بالأمر كله، وهو غموض لم يبدده لا نصّ ماكيوكي ولا نصّ غيتون، ولا بالطبع، النص الذي كتبه التوسير نفسه. ومع هذا ثمة من يرجح، استناداً الى شهادة غيتون المتحدثة عن عمق العلاقة بين لوي وهيلين، وعن الازمة الوجودية التي كان يمر بها الاثنان معاً، في سنواتهما الاخيرة، ان الامر قد يكون اتفاقاً بينهما على القيام بما سبق لستيفان زفانغ وزوجته وارثر كوستلر وزوجته ان فعلوه: الانتحار سوية احتجاجاً على اسوداد الصورة المقبلة للعالم. فبدأ هو بقتلها املاً في ان يتمكن من الانتحار بعدها. لكنه تراجع في اللحظات الاخيرة. تراجع لأنه تذكر - مثلاً - ما كان تحدث عنه مع جان غيتون: الامكانية الاخيرة لخلاص العالم، امكانية التقاء موسكو والفاتيكان، فأجل انتحاره حتى يحقق ذلك الخلاص. وكانت هيلين الضحية


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.