الحصيلة الثقافية لسنة 1995 جاءت حافلة بالأسئلة والنقاشات والأحداث التي حاولنا أن نرصدها في العددين الماضيين، متنقّلين بين مراكز النشاط والأنواع الابداعية على اختلافها. وننهي جولتنا هنا بالحركة الشعرية والمسرحيّة. ما هي السمات الغالبة على المشهد الشعري؟ وما عناوين السجال الدائر من القاهرة إلى بيروت مروراً بالخليج والمنافي الأوروبية، حيث يسود لدى الشعراء احساس بأنهم "يقفون اليوم على أطلال من كل نوع"؟ قليلة هي المجموعات الشعرية التي خرجت إلى النور خلال العام 1995، قياساً إلى الأعوام الثلاثة الماضية التي شهدت ظهور أعمال لشعراء مؤثرين من أمثال سركون بولص وأنسي الحاج وعباس بيضون وأمجد ناصر ووديع سعادة وسعدي يوسف وغيرهم. وإذا نظرنا عن كثب إلى اصدارات العام، أول ما تمكن ملاحظته أن المطبعة اللبنانية ظلّت الأجرأ والأكثر استعداداً للمغامرة في نشر الكتاب الشعري. لكنّنا لم نقرأ شعراً جديداً من لبنان هذا العام. فلا مجموعات جديدة لأنسي الحاج أو عباس بيضون، وديع سعادة أو بسام حجار، اسكندر حبش أو أنطوان أبو زيد أو يوسف بزّي على سبيل المثال... وباستثناء مجموعة لعقل العويط، وأخرى لعبده وازن صدرتا في الأيام الأخيرة ولم تجدا الوقت الكافي لدخول دائرة التفاعل والتداول والنقاش، فإن حركة الاصدارات في بيروت اقتصرت على نتاج أقطار عربية أخرى. فيما شهدت المدينة أمسيات لشعراء لبنانيين، بعضها ذو طابع احتفائي، كتظاهرة "مسرح المدينة" قبل أسابيع لتكريم أنسي الحاج أصدرت "دار الجديد" طبعة جديدة لأعماله، وكانت مجموعته السادسة "الوليمة" لاقت استقبالاً فيه الكثير من الاجحاف والتسرّع. نسوق هذه الملاحظة، للاشارة إلى الانسحاب شبه الكامل لنقّاد تميّزوا في الماضي بمقدرة لافتة على قراءة التجارب ومواكبتها، والاجتهاد في اقتراح أدوات واتجاهات لتذوق الجماليات الشعرية الجديدة. إذ ان الانطباع السائد الذي ترسّخ خلال العام 1995، هو هذه الهوّة الشاغرة التي تتمثّل بغياب النقد. فالنتاج الشعري الراهن يبدو رهناً بالاعتباطية والارتجال ، تحت رحمة كتابة صحافية متسرّعة وسطحيّة قائمة على الجهل بأدواتها وموضوعها على حدّ سواء. فراغ سافر الغياب النقدي خلال العام 1995، ليس إلا الوجه الآخر للأزمة التي تتجسّد في غياب نتاج شعري يستحقّ الاهتمام. وأغلب المجموعات الصادرة - لو أسقطنا قواعد المجاملة المعتمدة في الكتابة الصحافية - لا يستحق عناء الاشارة إليه. فبين المجموعات التي أصدرتها "دار الجديد" في بيروت، وعددها يتجاوز العشرة، نكاد لا نجد أكثر من ثلاث مجموعات قابلة للقراءة: "حياة مبيّتة" لعلاء خالد، "لا لزوم لي" لعبدالعزيز الجاسم و"أوهام صغيرة" لغسان الخُنيزي. ليس المقصود طبعاً إدانة الدار المذكورة التي تزال تجرؤ على خوض المغامرة، بل تسليط الضوء على الفراغ السافر. واللافت أن المجموعات المشار إليها هي لشاعر من مصر وآخر من الامارات وثالث من السعوديّة، يجمع بينها قاموس اهتماماتها واعتماد شعرائها تقنيات قصيدة النثر. والقاسم المشترك قد يكون أكبر بين الشاعرين علاء خالد وعبدالعزيز جاسم، خصوصاً في ذلك النزوع إلى التعبير عن الذات بصفتها نقيضاً كلياً للعالم، وذلك التطرف في التركيز على أشياء الذات المتمردة، في لغة تجريبية هي الأقرب - مفهومياً على الأقل - من التصور الجديد لقصيدة النثر باختيارها السرد عنصراً فعالاً في التعبير. أما غسان الخنيزي فيختلف عن هذين الشاعرين بتلك المسحة الرومانطيقية في لغته، وبنزعته إلى تأليف مناخات تبدو أقدر على ردم الفجوات بين اهتمامات شاعر قصيدة النثر وشاعر قصيدة التفعيلة. هذا على الرغم من انحياز الخنيزي، نهائياً، إلى اعتماد الوسيط النثري لتوليد الشعر. اقتصاد في اللغة قصيدة غسان الخنيزي مقتصدة اللغة، هادئة النبرة، أحياناً تبدو فاترة، لكنها متينة البناء، ولا تفصح اهتمامات شاعرها عن ادعاءات جمالية أو تعبيرية نافرة. وهي على الرغم من انشغالها بمرئيات العالم اليومي للانسان، أبعد ما تكون عن تلك الابتذالات التي بلغها هذا الانشغال كما عبّرت عنه نصوص شعراء آخرين. وسوف نجد أن الخنيزي يشترك في هذه الخصال مع شعراء من السعودية لعل أبرزهم محمد الدميني في مجموعته "سنابل في منحدر" التي صدرت قبل عامين، وأحمد الملا في باكورته "ظلّ يتقصف" التي صدرت نهاية العام الماضي. العراقيون شاكر لعيبي المقيم في جنيف، وهاشم شفيق المقيم في لندن، وسعدي يوسف المقيم في عمان، على سبيل المثال، لا الحصر أيضاً، أصدروا هذا العام مجموعات شعرية، هي على التوالي: "ميتافيزيك"، "صباح الخير يا بريطانيا"، "إيروطيقا". مجموعتا هاشم شفيق وسعدي يوسف أقلّ مما يمكن للقارئ أن ينتظر منهما. فقصائد "صباح الخير يا بريطانيا" منهكة فنياً، مستخرجة من تقصد كانت بداياته في مجموعة سابقة للشاعر هي "طيف من خزف"، فيما يبدو سعدي يوسف متعجلاً في الافصاح عن تجربة جديدة لديه، تعتمد الايروتيك الذي بدأ يشيع في اهتمامات بعض الشعراء الجدد. وربما أصاب سعدي يوسف شيء من اغراء هذه التجربة. لكنّ ما سبق لا يعني ذلك خلو هذه المجموعة الصغيرة لسعدي من الخصوصية. بل ان بعض قصائدها يبدو محبباً وآسراً. إنما لو قارنّا بين لغة "إيروطيقا" والقاموس الاستعاري الخاص بقصائد شعراء شبان يشتغلون ضمن الاتجاه نفسه أمجد ناصر مثلاً، لتوصّلنا إلى طرح سؤال قد يبدو مثيراً: هل بدأ بعض الشعراء من حاملي لقب الريادة يعجزون عن اخفاء تأثرهم بلغة ومشروعات بعض الشعراء الذي تلاهم؟ شاكر لعيبي يواصل في "ميتافيزيك" تطوير لغته الشعرية، وينتقل بنزوعه إلى تأسيس قصيدة ذات نفس ملحمي، إلى منطقة تمكنه من استثمار الميثولوجي في جنبات الإرث الاسلامي، من دون أن يعني ذلك قطعاً مع مصادر الميثولوجيا السابقة، لا سيما في وادي الرافدين. ولعيبي يحسن كثيراً المزج بين مصادر وعوالم كثيرة طبيعية، سحرية، تجريدية، تاريخية، وكذلك يومية معاصرة وخاصة بغريب في أرض غريبة، ليصوغ في النهاية قصيدة شائكة ومغرية. ويغلب على هموم شاكر لعيبي ذلك النزوع إلى مَوْقعة "الذات" الحضارية السحيقة في القدم على تخوم "الآخر" الراهن. الشعر أم السياسة؟ قبل أسابيع قليلة، صدر ديوان شعري جديد لأدونيس بعنوان "الكتاب"، رآى بعض النقّاد امكانية اعتباره مدخلاً إلى نقاش حول تجربة هذا الشاعر المؤسس ومآلاتها. إذ لا يمكن عبور هذه التجربة الجديدة من دون تناولها نقدياً، كما حصل مع ديوانه السابق "أبجدية ثانية". أما محمود درويش فلم يصدر هذه السنة كتاباً، إلا أن حضوره كان ساطعاً من خلال ترجمات فرنسية لشعره، ومن خلال أمسيات شعرية عدّة أحياها في أكثر من عاصمة عربية وأجنبية، من لندن إلى عمّان. وكان الاحتفاء النقدي العربي به في تونس مضرباً للمثل، وقدوة لا بدّ من احتذائها مع شعراء آخرين بمكانته. على مستوى الرواج، فإن بطل المشهد الشعري هذا العام هو نزار قباني وقصيدته "المهرولون". مرة أخرى كانت السياسة هي الحكم وسيّدة الموقف. تنتصر في الفن على الفن، وتستمر في صناعة الموازين، وصياغة المعيار. ففي وقت يعاني فيه الشعر من أزمة "قراءة"، شاءت عبثيّة الحياة الثقافية أن تقود القصيدة المشار إليها الشارعين الثقافي والسياسي إلى نقاش متوتر حول الحرب والسلام والعرب واسرائيل وأوروبا وأميركا وروسيا، والمثقف والعملية السلمية... لكنّ أحداً لم يتطرّق إلى الشعر وفنونه. وقد شارك في مناقشة المواقف التي تحملها القصيدة سياسيون وأدباء ومفكرون، لكن نقاد الشعر غابوا عن الاحتفال! انعدام الضوابط في محصلة هذه الجولة، يمكن القول إن الشعر ونقده كما انعكست صورتهما في الحياة الثقافية ومرآتها الصحافة، كانا على غياب. حضرت الندرة، وبقيت في الظل أغلب الأحيان. وغاب عنها الضوء بسبب غيبوبة النقد تارة، وسيطرة الشللية على المشهد الصحافي، تارة أخرى، ما أدّى إلى انعدام الضوابط الأخلاقية التي تتحكم بمسار حركة شعرية متطوّرة، خصبة ومزدهرة، قادرة على التفاعل مع مكانها وزمانها. لم نتطرّق هنا، بطبيعة الحال، إلا إلى بعض النماذج التي بوسعها أن تعطي فكرة عن الاصدارات الشعرية خلال العام 1995. فحالة الشرذمة وعدم التواصل التي يعاني منها النتاج الأدبي بشكل عام، إضافة إلى تعدّد الحواجز الثقافية والنفسية والجغرافية بين المبدعين أنفسهم، أو بينهم وبين نقّادهم وجمهورهم، لا مفرّ من أن تنعكس بشكل وآخر على المشهد الشعري، ووعينا النظري له عند كل مفترق طرق جديد. ولكن السؤال المطروح على هامش هذه الجردة السنويّة يبقى: ما هي الحصيلة العامة؟ وهل كانت هناك قضية بارزة شغلت الشعراء العرب الجدد في بيئاتهم المختلفة؟ للوهلة الأولى لا يبدو أن هناك جديداً. فقد استمر النزاع الجمالي الذي يفرق الشعرية بين بنائين، وعالمين شعريين نسبة إلى "قصيدة التفعيلة" و"قصيدة النثر". وما تزال القاهرة، كعاصمة ثقافية، مركزاً لهذا النقاش بفعل حركة الاصوات الجديدة التي اعتمدت النثر كخيار تقني وجمالي لتوليد الشعر. واستمرت منطقة الخليج مركزاً آخر يسهم في هذا النقاش، وإن بصوت أقل ارتفاعاً. في حين تبدو بيروت ضجرة ومتبرمة بهذا النقاش، ولا يبدو شعراء المهاجر الأوروبية في وارد المساهمة فيه، ربما لكونهم، وهذا بارز في احاديثهم الشفوية وملاحظاتهم المكتوبة، يشعرون أكثر من أي وقت مضى بأنهم يقفون اليوم على أطلال من كل نوع.