"أرامكو" ضمن أكثر 100 شركة تأثيراً في العالم    رصد 8.9 ألف إعلان عقاري مخالف بمايو    الإبراهيم يبحث بإيطاليا فرص الاستثمار بالمملكة    "كروم" يتيح التصفح بطريقة صورة داخل صورة    تدريب 45 شاباً وفتاة على الحِرَف التراثية بالقطيف    ضبط مقيمين من الجنسية المصرية بمكة لترويجهما حملة حج وهمية بغرض النصب والاحتيال    اختتام ناجح للمعرض السعودي الدولي لمستلزمات الإعاقة والتأهيل 2024    أنشيلوتي: كورتوا سيشارك أساسيا مع ريال مدريد في نهائي دوري أبطال أوروبا    ثانوية «ابن حزم» تحتفل بخريجيها    ترمب يصف محاكمته الجنائية في نيويورك بأنها «غير منصفة للغاية»    ضبط مواطنين في حائل لترويجهما مادة الحشيش المخدر وأقراصًا خاضعة لتنظيم التداول الطبي    «الربيعة» يدعو إلى تعزيز المسؤولية الدولية لإزالة الألغام حول العالم    الرئيس العام لهيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يقوم بزيارة تفقدية    شولتس: إصابات "بالغة" إثر هجوم "مروع" بالسكين في ألمانيا    أمر ملكي بالتمديد للدكتور السجان مديراً عاماً لمعهد الإدارة العامة لمدة 4 سنوات    مفاوضات غزة «متعثرة».. خلافات بين إسرائيل وحماس حول وقف الحرب    كذب مزاعم الحوثيين ..مسؤول أمريكي: لا صحة لاستهداف حاملة الطائرات «آيزنهاور»    الذهب يستقر قبل بيانات التضخم الأمريكية    الهلال يبحث عن الثلاثية على حساب النصر    مورينيو يختار فريقه الجديد    حجاج مبادرة "طريق مكة" بمطار سوكارنو هاتا الدولي بجاكرتا    «الجمارك»: إحباط تهريب 6.51 مليون حبة كبتاغون في منفذ البطحاء    وكيل إمارة حائل يرأس اجتماع متابعة مكافحة سوسة النخيل الحمراء    فاتسكه: دورتموند قادر على تحقيق شيء استثنائي أمام الريال    خلافات أمريكية - صينية حول تايوان    خطبتا الجمعة من المسجد الحرام والنبوي    فيصل بن فرحان يلتقي وزير الخارجية الصيني و وزير الخارجية العراق    رياح مثيرة للأتربة والغبار على مكة والمدينة    إسلامية جازان تقيم ٦١٠ مناشط وبرنامج دعوية خلال أيام الحج    5 مبتعثات يتميّزن علمياً بجامعات النخبة    وزير الداخلية يدشن مشاريع أمنية بعسير    ترقية 1699 فرداً من منسوبي "الجوازات"    "سامسونغ" تستعد لطرح أول خاتم ذكي    المملكة ضيف شرف معرض بكين للكتاب    توجيه أئمة الحرمين بتقليل التلاوة ب"الحج"    أطعمة تساعدك على تأخير شيخوخة الدماغ    الرياضة المسائية أفضل صحياً لمرضى للسمنة    البنك الأهلي واتحاد «القدم» يجددان الرعاية الرسمية للكرة السعودية    الغامدي يكشف ل«عكاظ» أسرار تفوق الهلال والنصر    ثانوية ابن باز بعرعر تحتفي بتخريج أول دفعة مسارات الثانوية العامة    جدة تتزين لأغلى الكؤوس    الأمير فهد بن سلطان: حضوري حفل التخرُّج من أعظم اللحظات في حياتي العملية    وزير الداخلية للقيادات الأمنية بجازان: جهودكم عززت الأمن في المنطقة    الخريف لمبتعثي هولندا: تنمية القدرات البشرية لمواكبة وظائف المستقبل    «الدراسات الأدبية» من التقويم المستمر إلى الاختبار النهائي !    كيف تصبح زراعة الشوكولاتة داعمة للاستدامة ؟    5 أطعمة غنية بالكربوهيدرات    المملكة تستضيف الاجتماع السنوي ال13 لمجلس البحوث العالمي العام القادم    المعنى في «بطن» الكاتب !    كيف نحقق السعادة ؟    العِلْمُ ينقض مُسلّمات    الحوكمة والنزاهة.. أسلوب حياة    تشجيع المتضررين لرفع قضايا ضد الشركات العالمية    عبدالعزيز بن سعود يلتقي عدداً من المواطنين من أهالي عسير    عبدالعزيز بن سعود يطلع على عدد من المبادرات التنموية التي تشرف على تنفيذها إمارة عسير    أمير القصيم يكرم 7 فائزين بجائزة الأميرة صيتة بنت عبدالعزيز    حفل تخريج طلاب وطالبات جامعة تبوك    تكريم الفائزين بجائزة الباحة للإبداع والتميز    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



"مهرجان القاهرة الدولي للمسرح التجريبي" في دورته السابعة : اشكالية التواصل بين ديكتاتورية النص وتمرد الجسد
نشر في الحياة يوم 25 - 09 - 1995

كعادته كل عام جاء "مهرجان المسرح التجريبي" ليحوّل القاهرة إلى مختبر هائل تعاد فيه صياغة الأسئلة وطرح الأفكار ومقارنة التجارب. عروض الدورة السابعة وندوتها ونقاشاتها تسلّط الضوء على راهن المسرح الطليعي العربي، بأزماته ومآزقه ومحطّاته المشرقة. "الوسط" حضرت هذه التظاهرة وعادت منها بمشاهدات وملاحظات.
خشبة "دار الأوبرا" المصرية، حيث تمّ افتتاح الدورة السابعة ل "مهرجان القاهرة الدولي للمسرح التجريبي"، احتضنت حالة نادرة، موقفاً ينتمي إلى عالم التفاصيل العابرة التي تعترينا كرعشة، فلا ينتبه إليها إلا قلّة. لحظة زائلة كالعرض المسرحي نفسه، تنتج عن التقاء أزمنة متناثرة أو أطراف معادلة بعيدة، وحدها المصادفات قادرة على جمعها واعطائها معناها الاستثنائي. فبين المبدعين الآتين من العالم ليحلّوا ضيوفاً على القاهرة، ويحظوا بتكريم مهرجانها، وقف جنباً إلى جنب تلك العشيّة، رجلان لم يسبق أن التقيا... إلا من خلال المسرح.
الأوّل لبناني، هو المسرحي ريمون جبارة، جاء مستنداً إلى عكّازه الذي يفضح تعب سنوات الحديد والنار، فاشتعلت القاعة بالتصفيق والهتاف احتفاءً بفنّان يقف على حدة بين مخرجي جيله العرب، وبالحركة المسرحيّة التي يمثّل. والثاني كاتب مسرحي بارز هو الأرجنتيني أوسفالدو دراكوني الآتي من قارة قريبة على رغم المسافات، معيداً إلى الأذهان حكايات "مقاومة" - ما أحوجنا إلى استعادتها في هذا الزمن الملتبس - لم يتقنها أحد كما مبدعو أميركا اللاتينية الذين تعاقبت عليهم الثورات والديكتاتوريات...
أما العلاقة الخفيّة بين الرجلين، فمسرحيّة كتبها دراكوني قبل عقود بعنوان "الرجل الذي صار كلباً"، واقتبسها جبارة على طريقته فأصبحت "زردشت صار كلباً"، واحدة من أجمل تجارب المسرح اللبناني خلال الحرب. هناك مخرج عربي آخر، قدّم النص المشار إليه أيضاً في الفترة ذاتها أوائل الثمانينات، لكنّ هذا الأخير صفق الباب خلفه منذ ذلك الحين، ومضى وهو في عزّ عطائه. إنّه الفنّان السوري فواز الساجر الذي مرّ عقد كامل على رحيله، وكان سبق لمهرجان القاهرة أن أحيا ذكراه في دورة ماضية.
مثل هذه اللقاءات الزائلة لا يمكن أن تتمّ إلا هنا، في القاهرة، ضمن اطار تظاهرة دخلت اليوم مرحلة النضج، وباتت موعداً لا غنى عنه لأهل المسرح المصري والعربي والعالمي. الموسم هذا العام جاء مُرْضياً، على رغم القحط المستبد بالمسرح العربي، بفضل التقاطع بين التجارب والنصوص. نشير في هذا السياق إلى التقاء فرقة رومانية وأخرى لبنانية مثلاً، حول نصّ "الحارس" للكاتب الانكليزي هارولد بنتر. هذه المصادفة تعكس روح المسرح بامتياز، دوره وعلاقته بالذات والآخر، حيث يبدو النصّ مرآة للواقع، وحقلاً خصباً من الاحتمالات والمستويات والدلالات لكلّ مخرج أن يقرأها ويغرف منها انطلاقاً من تجربته ورؤياه. "الحارس" اللبناني اخراج بطرس روحانا القادم من زمن "السلام الأهلي" الهشّ، جاء يعكس لعبة العنف، والحوار الصعب، وحلم البناء المجهض. أمّا "الحارس" الروماني اخراج دانييلا بيليينو الطالع من عصر ما بعد تشاوتسيسكو، فروى معاناة صعلوك يبحث بلا جدوى عن واحة أمان، محاصراً بأخطار مجهولة، في عالم تزعزعت ثوابته، وتعرّى من قناعاته.
كرّم "التجريبي" الأميركية هيلين ستيوارت مديرة مسرح "لا ماما" النيويوركي العريق، المصريّة محسنة توفيق، الجزائرية فضيلة عسّوس، المصري سمير العصفوري،التونسي المنجي بن ابراهيم والاسباني لويس باسكوال... ونشر مجموعة من الترجمات لمراجع مهمّة أحدها عن الكوريغراف الالمانية بينا باوش، وآخر عن "الكابوكي". ونظّم ندوة حول "التعبير الجسدي" ومحاضرات بمشاركة حشد من المخرجين والممثلين والنقاد والباحثين والمؤلفين بينهم: سمير سرحان، جواد الأسدي، سعد أردش، فوزية المزي، شريف خزندار، عز الدين المدني، رفيق الصبّان، بول شاوول، إحسان عسّوس، نهاد صليحة، حنان قصّاب وآخرين...
ولعلّ النقاشات والمواجهات والخصومات الكثيرة التي حفل بها المهرجان، تشير قبل كل شيء إلى أنّه فرض نفسه كبؤرة للمسرح العربي الطليعي. كأن المنظمين، وعلى رأسهم وزير الثقافة فاروق حسني، ورئيس المهرجان فوزي فهمي، يدركون جيّداً أن المختبر هو الخلاص الوحيد الممكن، وأن العودة إلى المحترف، هي الطريق إلى قطيعة لا بدّ منها مع السائد. طريق تفتح للمسرحيين الشباب آفاق الابتكار والتجديد واختراع المستقبل، وللمسرح أبواب الخروج من عزلته و/أو انحطاطه.
صراع الجسد والنص!
نجاح مهرجان القاهرة يقاس بمدى تحوّله إلى أرضية لطرح الاسئلة واعادات النظر، وبمدى تعبيره عن الواقع المسرحي العربي بكلّ تناقضاته، وتنافر اتجاهاته، وتفاوت مستويات الوعي والنضج بين فنّانيه ومدارسه وتياراته. أما سوء التفاهم الأساسي الذي يختصر اللحظة الراهنة، فدار حول موقع النصّ من الصرح المسرحي، ومدى أهميّته وأولويّته. وكما أن النقاش انتظم في العام الماضي حول ثنائية التجريب/ التراث، محاولاً التوفيق بين نقيضين، من تناقضهما تستمدّ الحركة المسرحية العربية زخمها... فإن الصراع دار هذه الدورة بين القائلين بأهمية النص الذي لا يمكن تجاوزه أو الاستغناء عنه، والمدافعين عن أولويّة الجسد كحجر أساس في أي "انتفاضة" من شأنها أن تؤدّي إلى انبعاث المسرح العربي.
"المسرح هو الدراما، والدراما هي الأدب" أكّد المسرحي المصري سعد أردش، مخاطراً بوأد النقاش قبل أن يبدأ، في ندوة موضوعها "التجريب والتعبير الجسدي في العرض المسرحي"! "الكلمة أساس تواصلنا مع العالم" أكّد مشارك آخر، فإذا بالمسرحي التونسي توفيق الجبالي يعلّق من القاعة، بنبرته الساخرة: "ولهذا لم نعد قادرين على التواصل"! ولا عجب أن يصدر ردّ الفعل هذا عن المخرج الذي أثار في القاهرة "فضيحة" مسرحية جميلة سيتحدّث عنها الجمهور طويلاً، ماضياً في المشاغبة والعصيان والتعبير عن "استحالة التواصل"، ناطقاً باسم جيل سئم الأدب واللغة الجوفاء التي تقتل المسرح، وتثقل على الشعور، وتعقّم المخيّلة. ولنا عودة بعد قليل إلى عرضي الجبالي "كلام الليل" الذي فاز بالجائزة الكبرى، و"فمتلا" الذي كان قنبلة موقوتة انفجرت في كواليس المهرجان.
لكن إذا كان العصيان مطلوباً باسم الفن والابتكار، حيث أن روائع مسرحية تحمل توقيع مخرجين عالميين كبار قامت في العقود الأخيرة على غياب النص بالمعنى المتعارف عليه هل يكفي كمثال أن نشير إلى طريقة السويسري الألماني لوك بوندي في تقديم نص بيتر هاندكه "يومَ لم يكن أحدُنا يعلم شيئاً عن الآخر"؟... وإذا كان التمرّد مشروعاً حين تكون غايته رفع وصاية الأدب والثرثرة عن الفرجة التي "استُعمِرت" طويلاً في الثقافة العربية، من قبل الخطباء والوعّاظ وكتّاب المسرحيات المدرسيّة البليدة، باسم لغة أشمل كل حركة أو اضاءة أو عنصر فيها يشكّل مفردة متكاملة... فهل ينبغي أن ننسى أن المسرح يخرج من احتمالات لقاء الجسد والنصّ؟ ألم يحدّد البولوني جيرزي غروتوفسكي - وهو من أبرز رموز التجريب - عمارته المسرحية انطلاقاً من تواشج أقانيم ثلاثة: النصّ، الممثّل، المتفرّج؟
هكذا دارت نقاشات هذا العام حول اشكالية التواصل والقطيعة، الحركة والكلمة، الصورة والخطاب، وجاءت عروض المهرجان لتجسّد هذه المواجهات النظرية وتسلّط الضوء عليها: ما هو دور الموسيقى في رؤية انتصار عبد الفتّاح المسرحية "سوناتا"/مصر، أو في "الأوبرا المقامية" التي تحمل توقيع نداء أبو مراد وهناء عبد الفتّاح "إيزيس وأوزيريس"/ مصر؟ ما وظيفة الصورة والأغنية والشريط السينمائي والرقص والسينوغرافيا في مسرحيّة اللبناني وليد عوني "الأفيال تختبئ لتموت"/ مصر - جائزة أفضل سينوغرافيا؟
وما موقع النصّ من الرؤية المسرحية وجمالياتها لدى مخلوف بوقروح الذي اقتبس فصلاً من رواية الطاهر وطّار الأخيرة "الشمعة والدهاليز"/ الجزائر، ولدى غسان مسعود الذي قدّم تقاسيم وتنويعات على شكسبير، على طريقة المخرج العراقي جواد الأسدي في التعاطي مع تشيكوف وشكسبير نفسه "تهويمات في عاصفة الملك لير"/ سورية؟ كيف تعامل طارق سعيد مع نصّ الياباني أكوتا جاوا "راشومون"/ مصر؟ وكيف قدّم بطرس روحانا نصّ هارولد بنتر انطلاقاً من التركيز على الحيّز السينوغرافي وادارة الممثل؟
وأخيراً كيف توصّل توفيق الجبالي إلى تفكيك النصّ إلى حدّ تذويبه في رؤيا سينوغرافية هاذية "كلام الليل"/ تونس - جائزة أفضل عرض مسرحي؟ لماذا لجأ إلى اختزال النصّ حتّى حدوده الدنيا، بل إلى إلغائه كليّاً في "فمتلا"؟ فهذا العمل المتطرّف بامتياز الذي يدفع التجريب إلى احتمالاته القصوى، أثار ردود فعل متباينة في القاهرة. ولا شك أن "فضيحة" أخرى تنتظره مع "كلام الليل" لدى تقديمه، خلال الموسم المقبل، في "مسرح بيروت"...
ابتكار أم اصطناع؟
عاد المخرج المصري انتصار عبد الفتّاح بعرض مسرحي شبيه بالتجربة التي قدّمها قبل عام. بعد "كونشرتو" 1994، تعتمد "سوناتا" على المبدأ نفسه كل شخصية لها صنوها أو ظلّها يجسّده عازف، والموسيقى ترافق اللحظة وتكثفها. والسياق الدرامي بقي نفسه أيضاً: بعد الجولة الأولى من المواجهة بين الأبن سعيد صديق الثائر على والده المثقف، جاء دور الأب كي يتكلّم. هذا الأب حسن عبد الحميد الذي أحببناه صامتاً، مطأطأ الرأس في العرض السابق، ها هو يخرج عن حزنه الشفّاف ليغرق في اللغو والكلام الزائد. فصرخة الأب في مواجهة العالم، كانت وصلتنا من خلال ادائه الصامت في العام الماضي. ما الحاجة إلى تكرار الحالة عينها، بأشكال أخرى، من خلال مونولوغات "نثرية" وتبريرية؟
يقع عبد الفتّاح وهو موسيقي أساساً في فخّ استهلاك الاكتشافات الجمالية التي بنى عليها رؤيته، فيشل مقدرتها الفنية. يستنزف تقنياته القائمة على تحميل الموسيقى طاقة شعورية تعبّر عن الحالة الداخلية للشخصيات، فيعطّل عمليّة التأثير، ويكشف سطحيّة أسلوبه. يبدو مدّعياً، في حشوه العرض بمقطوعات باخ وشوستاكوفيتش وشومان وتشايكوفسكي، وفي حشد الآلات الوترية والنفخية على المسرح، ويفضح لعبة المتوازيات فلا تعود مقنعة. يخلط الانواع من دون أن يمزجها، يرصف العناصر باليه، لوحات، موسيقى، نصّ ذهني ثقيل، اختراعات سينوغرافية سهلة... بتعالي ثقافي، فتبدو خليطاً مفتعلاً من دون روابط عضوية نابعة من صلب النص، من عمق الرؤية. واذا بالابتكار يتحوّل إلى اصطناع، والمونتاج إلى كولاج، والتجريب إلى رتابة. هل نلقي اللائمة على الجمهور بعد ذلك، إذا هجر "المسرح الجاد"، وبحث عن "التسلية" في عروض "المسرح الاستهلاكي"؟
مؤثرات زائدة
يستحيل على من يحبّ المسرح أن يزور القاهرة من دون أن يعرّج على "مسرح الهناجر" على خطوتين من القاعة الكبرى للأوبرا، ويتجاذب أطراف الحديث مع مديرته هدى وصفي، فيستمع إليها تدافع عن الفرق المسرحية الشابة التي ترعاها بأمومة واضحة، وتكشف لنا مشاريعها المستقبلية، ومنها استضافة المسرحي اللبناني روجيه عسّاف لتنفيذ مشروع مع ممثلين مصريين شباب انطلاقاً من تقنيات واجتهادات "مسرح الحكواتي". وفي هذا المسرح لفتت الانظار مسرحية "بريسكا 2" محمود أبو السعود، التي تنطلق من نص توفيق الحكيم "أهل الكهف"، لتقيم مقابلة بين بريسكا الجدّة التي ماتت انتظاراً، وبريسكا الحفيدة التي تنتمي إلى زمن المخرج، والممثلين الشبان.
هنا أيضاً شاهدنا "راشومون" من اخراج طارق سعيد، ويمكن اعتبارها من الأعمال المصرية الجديرة بالاهتمام هذا الموسم. مسرحية أكوتا جاوا عن صراع الخير والشرّ، بل عن مفهوم الخير بين المثال والواقع : هل على راهب كيوتو المتردد عند بوابة راشومون أن يغادر المدينة هرباً من شراسة الناس والكوارث والاوبئة، أم أن يعيش معهم - مثلهم - في قلب المعمعة؟ حادثة قتل الساموراي والاعتداء على زوجته التي تدور حولها المسرحية، تُروى لنا بأكثر من طريقة، من خلال أربع وجهات نظر مختلفة. أين هي الحقيقة إذاً؟ في "المَسْرحة"، في مرآة المسرح القائم على الأطياف والأخيلة الطالعة من ضمائرنا، نستحضرها عبر السرد والتشخيص. "راشومون" عن نسبية الحقيقة، وهي مقولة مسرحية بامتياز.
يلجأ طارق سعيد إلى تقنيات السرد، وتقطيع الحيّز المسرحي، تبعاً للاحداث ولوجهات النظر المتقابلة. لكنّه يقع في فخّ الطبيعية، ويثقل عرضه بالمؤثرات التمثيلية الزائدة. واقعيّة الديكور مع أنّه يحمل بصمات السينوغراف الشاب الممتاز طارق أبو الفتوح، تبدو حاجزاً في وجه شاعريّة النص الذي تفلت مستويات عدّة منه بين الخشبة والقاعة. ربّما كان على طارق سعيد الذي أحسن ادارة ممثليه، واداء دور كاجومارو، أن يلجأ إلى مزيد من الأسلبة والاختزال، مستوحياً أساليب "الكابوكي" و"النو" التي لم يعرّج عليها إلا بشكل عابر. وهنا كان بوسع الحركة المتأرجحة بين تضخيم وبساطة فوق خشبة مجرّدة شبه عارية، تدعمها موسيقى مشهدية، أن تخدم رؤية المخرج، وتوصل جوهر النص بعيداً عن المطبّات الظاهرية ل "الحدّوتة".
أما هناء عبد الفتّاح فلجأ إلى أسطورة "أيزيس وأوزيريس"، محاولاً مسرحتها، انطلاقاً من أشعار مردوك الشامي التي قام بتلحينها نداء أبو مراد. لكنّه لم يفعل سوى تنظيم الحركة والرمز بطريقة مسطّحة، انطلاقاً مما ألّفه أبو مراد وارتأى تسميته "أوبرا طقسيّة مقامية". و"إيزيس..." محاولته الثالثة في هذا السياق بعد "بنت القدس" من وحي "نشيد الانشاد" و"أدون" من وحي أسطورة أدونيس. يحاول هذا الموسيقي اللبناني الانطلاق من نصوص أسطورية وملحمية، ليصوغ شكلاً موسيقياً يسعى إلى الاستقلال به عن الاشكال المتعارف عليها في الموسيقى الغربية، وإلى التمايز عنها. لكن ذاك التمايز يعيد صاحبه إلى قوالب مشابهة، بعد أن استبدل البوليفونيا بالتخت الشرقي، مستوحياً موسيقى النهضة التي درسها وتأثر بها من خلال نتاج عبده الحامولي على وجه التحديد.
بعيداً عن الحيويّة الشعبية التي يمكن أن تنقلها أوبريت على طريقة سيّد درويش، تبدو أوبرا أبو مراد وعبد الفتّاح "المقامية"، باردة، طالعة من تقاليد البلاطات والقصور في العصور الغابرة. تضيع رموز الأسطورة وأبعادها، تبدو الحركة ثقيلة، والايقاع بطيء ولا تنفع في انقاذ الموقف مهارة أبو مراد الذي يبدو تلميذاً ذكيّاً استوعب الأمثولة، وبات يحسن محاكاة الاشكال التقليدية، كالدور والموشّح والقصيدة. أما رحلة إيزيس بحثاً عن حبيبها الذي تحوّل إلى عالم الموتى، فلا تبلغ بنا "النشوة الطربية" التي يدعونا إليها المؤلف الشاب، على رغم مشاركة أصوات لافتة، وتبقى العناصر الاخراجية دخيلة وغير مقنعة.
نهرول إذاً خارج "مسرح الهناجر"، لاجئين إلى الخيمة التي نصبتها "فرقة الورشة" لاجراء بروفات عرض جديد يعمل عليه حسن الجريتلي ورفاقه، انطلاقاً من "السيرة الهلالية". نردّد مع "العمّ خنّوفة" "أنا اللي ببيع ياسمين"، نستمع إلى حكايات من السيرة، ونتذكّر أن مسرحية "غزير الليل" نجحت ببساطة وعفوية وأصالة في نقل أجواء ملحمية مأسوية شبيهة بمأساة "إيزيس وأوزيريس" من دون فذلكة، أو ادعاء فنّي من خارج العمل نفسه.
محاكمة المثقّف
لاحظ جمهور المهرجان التجريبي هذا العام أن المسرح المغربي كان الغائب الأكبر، لم يتمثّل لا في المسابقة ولا خارجها، لا في الندوات ولا في لجنة التحكيم ولا حتّى بين المكرّمين. أما المسرح الجزائري، فتمثّل بعرضين تفاجأ البعض حين علم بقدومهما "من الداخل"، حيث قيل أن العروض والتمارين متوقّفة - تحت ضغط الارهاب - حتّى اشعار آخر. قدّم ممثلون شباب، ينتمون إلى "المسرح الوطني" نصاً احتفالياً بعنوان "تشريح" تأليف واخراج الهادي بوكرش.
فيما قدّمت "فرقة مصطفى كاتب" جمعيّة"الجاحظيّة" العرض الأوّل من مسرحية يتمرّن عليها مخلوف بوكروح ورفاقه سرّاً، تحت الأرض، منذ أسابيع في الجزائر. ولم يحظَ العرض للأسف بالاهتمام الاعلامي والنقاش اللذين يستحقّهما. مسرحية مخلوف بوكروح مأخوذة عن الفصل الأخير في رواية الطاهر وطّار الأخيرة "الشمعة والدهاليز"، وكان من الطبيعي إذاً أن تتخذ طابعاً متقشّفاً وواقعيّاً. هاجس وطّار وخطابه، في السنوات الأخيرة، محاكمة المثقّف. والعرض امتداد لهذا الهمّ، يضع المثقّف في مواجهة مع ذاته، يتّهمه ويدافع عنه. ولا شك أن موقف وطّار يستحق نقاشاً جذرياً لا تتسع له هذه العجالة.
أما العرض السوري، على محدودية امكاناته، فكان من المفاجآت السارة للمهرجان، ولهذا ربّما حظي بلفتة خاصة من لجنة التحكيم الدولية التي ترأسها كامل زهيري وكان بين أعضائها الفاضل الجعايبي. "تهويمات على عاصفة لير" من العروض التي تحاول أن تغزل انطلاقاً من نصّ كلاسيكي، فتقوم بتفكيكه واعادة توليفه. ممثلو غسان مسعود من طلبة المعهد العالي للفنون المسرحية في دمشق، أغلبهم تميّز بحضور مسرحي يشير إلى وجود طاقات شابة في سورية، لا تنتظر سوى مخرجين خلاقين يحسنون توظيفها. لكن العرض، على رغم بعض اللحظات الشفافة، يبقى أكاديمياً، أقرب إلى تمارين تمثيلية، ينقصه التماسك ويفتقر إلى قراءة للنص الشكسبيري خارج اطار الاحتفالية وأولويّات اللعبة المشهدية. لماذا لم يقدّم غسان مسعود "الملك لير" كما هي، انطلاقاً من الأسلوب الاخراجي الذي شاهدناه، مستنبطاً معاني خاصة من هذا الأثر الخالد، مانحاً اياه حياة جديدة الآن وهنا؟
ممثلو بطرس روحانا هم أيضاً من طلبة وخرّيجي "المعهد الوطني للفنون الجميلة" في بيروت. لكن هذا المخرج الشاب الذي كان طرفاً فاعلاً في تجربة "الحكواتي" اللبنانية، يلفت النظر في مقدرته على ادارة ممثليه، وعلى تطبيق نصّ هارولد بنتر "الحارس" على الواقع اللبناني بعد الحرب. بعد رفض المسرح في شكله الغربي، يعود روحانا مجدّداً إلى المختبر، ليسائل تلك القوالب "الغربية" ويستخرج منها حياة ثانية. في عرضه يجلس الجمهور في الغرفة التي تدور فيها الأحداث. المتفرّج طرف في الصراع الذي يشهد عليه، جزء من اللعبة، وربّما ضحيّة ممكنة، أو جلاد محتمل.
فنحن هنا رهائن وشهود زور في فضاء مقفل، هو بين الملجأ والزنزانة، يقينا من عنف غامض في الخارج، ويمنعنا من الاتصال به. نحن متحلّقون حول حلبة، يتبادل فيها الممثلون دور الضحيّة والجلاد، فالعنف هو بطل هذا الاحتفال القائم على القسوة، وأطياف جان جينيه "رقابة عليا" وأنطونان آرتو تحوم في الجوار. الرجل العجوز الذي لجأ هرباً من عنف الخارج، بملامحه التي تذكّر بمتسكّعي بيكيت أياد الباشا، سرعان ما سيتحوّل إلى عبد للأخ الأصغر الطاغية حسن فرحات الحالم بتحويل هذا المكان المترهّل إلى جنّة، والذي يرى في القادم الجديد "مهندس الديكور" المنتظر. أما الأخ الأكبر محمد الترك، حارس المكان الذي يشبه قطعة بالية بين أثاثه، فتعرّض إلى عملية جعلته ضعيفاً ذليلاً عاجزاً محدوداً بأفكاره الثابتة. وسيتحوّل بدوره إلى ضحيّة للقادم الجديد والمنقذ المنتظر. الكل يضطهد الكلّ، ويعمل على سرقة دوره ومكانه، والكلّ يبحث عن شيء من الاستقرار والطمأنينة في هذه الأدغال. أما البيت - الخربة، فسيبقى ينتظر مشاريع الاعمار، والحكاية ستتكرّر كلعنة اغريقية إلى ما لا نهاية...
يبقى أن نتناول تجربتي وليد عوني وتوفيق الجبالي اللتين شكّلتا نقطة الثقل في مهرجان القاهرة على الصعيد العربي. وهذا ما سنفعله في العدد المقبل.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.