"سانت هيلانة" جزيرة صغيرة ضائعة في أحضان المحيط الأطلسي بعيداً عن أنظار العالم، يعبث بضفائرها هواء لعوب وتطبع الشمس على وجنتيها قبلة لا تغيب. دخلت التاريخ يوم خرج نابوليون منه وجاءها مهيض الجناح بعد هزيمته القاسية في معركة واترلو. وفي المنفى النائي قضى الامبراطور المهزوم سنواته الست الأخيرة "لا صديق له سوى العزلة ولا رفيق له غير الهم". واستضافت الجزيرة قبل نابوليون رحالة غرباء تائهين لاذوا بها من غضب المحيط أو قيظ الشمس الاستوائية، منذ اكتشفها البرتغاليون أوائل القرن السادس عشر. وما أن بسط البريطانيون سيطرتهم التي استمرت ثلاثة قرون، على الجزيرة حتى ازدحم ميناؤها على الدوام بالسفن المبحرة بين بريطانيا ومستعمراتها في الهند والشرق الأقصى. واطلق التجار والمسافرون عليها اسم "فندق المحيط" باعتبارها المحطة التي توقفوا عندها التماساً للراحة من عناء الرحلة الطويلة. والمعالم المستوردة التي حملت الغرباء اندثر معظمها بعد شق قناة السويس التي خطفت من "سانت هيلانة" غالبية زوارها الاجانب. وحدهم السياح النابوليونيون لم يتحولوا عن الجزيرة وواظبوا على قطع آلاف الأميال لرؤية الأشياء التي وقعت عليها عينا بطلهم العظيم والاحتراق بنار الذكرى الملتهبة أبداً. وهؤلاء المهووسون بالقائد - الاسطورة شكلوا جمعيات خاصة - مثل "فيلق الشرق" و"ذكرى نابوليون" - غايتها التواصل مع الماضي النابوليوني الذي ملأ على عسكريين وأكاديميين حياتهم. والغريب أن ملاحم الامبراطور أثارت الاعجاب في نفوس أجانب اكتوى أجداد بعضهم بنار الجبروت النابوليوني! ولئن خلعت "سانت هيلانة" الزينة الزائفة التي ارتدتها اكراماً للتجار والمسافرين الأجانب، فهي بقيت حريصة على هويتها ومعالمها الأصيلة. القلعة القديمة لم تزل على شموخها، تطل برأسها المتوج بالغيم على منحدرات صخرية ترسم حدود الجزيرة التي يبلغ طولها 17 كلم وعرضها 10 كلم. و"سانت هيلانة" لا تبدي قدراً وافياً من الحفاوة بضيوفها، إذ يتكبد هؤلاء المشقة بسبب افتقار الجزيرة إلى مطار أو مرفأ. والطريق الوحيد إليها يمر عبر بوابتها البحرية: خليج يوغل بعيداً في قلب كتلة صخرية، ويحمل اسم العاصمة جيمس تاون المطلة من مربضها العالي على القوارب التي تطأ عتبة "سانت هيلانة". وتزنر العاصمة أسوار مرتفعة تتوزع عليها مدافع بالية ردت عنها في الماضي السحيق خطر الغزاة. وتضم المدينة كنيسة صغيرة وبرجاً مربع الشكل يقف وسط بيوت عتيقة يسكنها حوالى 500 نسخة جيء بأجداد معظمهم عبيداً من افريقيا وآسيا. وهم يعيشون في الجزيرة مع أقلية أوروبية غالبية أبنائها من أصول بريطانية. ولا تزال البلاد أمينة للتراث الذي ورثته عن البريطانيين خصوصاً ما يتصل منه بنظام الحكم وطقوسه المهرجانية، مثل الشعر المستعار الذي يرتديه الحاكم في المناسبات التقليدية. سجان أهان الامبراطور تحول البناء الذي سكنه الامبراطور المنفي متحفاً تعشش فيه ذكرى السجان سير هدسون لو. وهو عسكري متزمت قاد حامية زاد عدد جنودها على 4 آلاف جندي كان شغلهم الشاغل مراقبة الامبراطور الأعزل وتنغيص حياته. وتكاد شهرة السجان تضاهي شهرة القادة العسكريين الذين حاربوا نابوليون فأذلهم في حين وجه إليه هدسون اهانات اشتكى منها بمرارة وتوقع أنها ستجلب "العار للبريطانيين". ولم يزل السلحفاة جوناثان، أحد شهود المعاملة المذلة التي لقيها الامبراطور، حياً يرزق بعدما تخطى عتبة المئتي سنة. وبعيداً من العاصمة هناك بناء آخر ارتبط باسم نابوليون، وهو أشبه بدارة متواضعة تقوم وسط بستان كبير. والطريق الذي يصل جيمس تاون بهذه الحديقة المسماة "لونفوود" يتلوى صعوداً بين جبال عالية توشي بعض سفوحها أشجار الزيتون والصنوبر وقد تبعثرت بينها بيوت ريفية انكليزية الطراز. وكان نابوليون طرق هذا الدرب، إذ اتجه فور وصوله إلى "سانت هيلانة" صوب قصر "لونفوود" حيث عاش ثلاثة أشهر كانت أقل أيامه في المنفى بؤساً ووحدة. وبعدما توفي الامبراطور، أهدت بريطانيا - "مالكة" الجزيرة وقتذاك - إلى فرنسا قصر لونفوود والحقول الواسعة التي تحيط به. إلا أن باريس لم تولِ المكان عناية شديدة، وربما تعذر عليها الاهتمام به كما ينبغي بسبب المسافة الشاسعة التي تفصلها عنه. وهكذا بقي قصر نابوليون الريفي في حالة مزرية إلى أن جاءه الخلاص في الخمسينات مع وصول قنصل فرنسي جديد نذر نفسه للعناية بالمبنى وحدائقه. ولما لقي هذا حتفه، تابع ابنه ميشال مارتيني المهمة الديبلوماسية من بعده وورث عنه أيضاً شغفه بنابوليون وقصر لونفوود ومروجه. وعلى رغم أن البناء بقي متماسكاً حتى الخمسينات فهو كان في حالة يرثى لها قبل وصول القنصل النشيط الذي رمم المكان ثم اتخذ منه مقراً للقنصلية الفرنسية. واستغرقت عملية استصلاح البستان الشهير سنوات عدة، إذ بدأها الاب وأكملها الابن فتحولت المنطقة من أرض مهجورة إلى مرج فسيح هو نسخة طبق الأصل عن الحديقة المترامية الأطراف التي تمتع نابوليون بهدوئها وتنشق عبير ورودها. ونُصبت من جديد التعريشة التي راق للقائد المنفي أن يتناول وجبة الغداء في ظلالها، كما أعيد بناء المقصورة الصينية الطراز حيث صرف الامبراطور بعض وقته في التحديق بمياه المحيط القريب. وتغلب البساطة على المبنى الذي يبدو دارة ريفية متواضعة ذات لون أحمر آجري. غير أنه يعبق برائحة الزمان النابوليوني، هنا غرف قليلة طالما فرش منها القائد الفذ خرائطه وحلم باستعادة تاجه وامبراطوريته الشاسع، وهناك تأمل الكرة الأرضية الخشبية القديمة ومحا عنها جزيرة "سانت هيلانة". والحجرة الثانية في الرواق هي أهم الغرف الامبراطورية، فهنا لفظ أنفاسه الأخيرة، وهنا كان يستقبل اعداءه البريطانيين وهو معتمر قبعته كي يتجنب رؤيتهم وهم يجلسون على الأرائك قبل أن يأذن لهم. لكنه بقي الآمر الناهي في حجرة الطعام حيث أصر على مراعاة البروتوكول الامبراطوري بحذافيره، وفي المكتب الذي قرأ فيه وأملى مذكراته، وفي غرفة نومه التي ضمت أثمن مقتنياته. وعلى أطراف القصر يغوص ممر ضيق في عمق البستان الفسيح مؤدياً إلى نبع ماء دأب نابوليون على قضاء بعض يومه بجواره. وأوصى أن يدفن إلى جانب النبع الذي شغف به. وبطبيعة الأمر خص القنصل هذه البقعة بعناية مميزة. وجعل منها حديقة صغيرة تحجب ورودها قبراً بسيطاً يضم رفات أحد أبرز عباقرة الحرب في التاريخ، وقد طلب ألا ينقش اسمه على شاهدة القبر عسى أن يبقى الضريح مغموراً يليق بميتة صاحبه منفياً عن وطنه وميادين انتصاراته. لا تخلو الرحلة إلى "سانت هيلانة" من المشقة، بيد أنها أقل صعوبة بالتأكيد من السفر الذي اضطر نابوليون إلى القيام به في 1815 مخفوراً بحراسه البريطانيين، إذ قضوا شهرين ونيف في عرض البحر قبل أن ترسو سفينتهم أخيراً على شاطئ الجزيرة. واليوم تبحر إليها السفن بانتظام محملة بالسياح في فصلي الربيع والصيف ومعظم هؤلاء يزورون الأماكن التي شهدت صولات القائد وجولاته الظافرة قبل أن يتوجهوا إلى "سانت هيلانة" التي كانت قفصاً وقبراً لنسر ترك وشم فتوحاته على جبين التاريخ.