ولي العهد يؤدي صلاة الميت على سماحة المفتي العام    فيصل بن مشعل يطلق ندوة «حكاية وطن»    سمو ولي العهد يؤدي صلاة الميت على سماحة الشيخ عبدالعزيز بن عبدالله بن محمد آل الشيخ -رحمه الله-    وكالة شؤون الأفواج الأمنية تشارك في فعالية "عز الوطن"    المملكة ترحب باعتراف فرنسا وبلجيكا ولوكسمبورغ ومالطا وموناكو وأندورا وسان مارينو بالدولة الفلسطينية    النجمة والحزم والزلفي إلى ثمن النهائي    علاقات تاريخية عريقة    أوقفوا نزيف الهلال    في ختام دور ال 32 من كأس الملك.. القادسية والفتح في ضيافة العروبة والجبلين    في يوروبا ليغ.. إيمري يبحث عن انطلاقة مع أستون فيلا.. وفوريست يعود بعد غياب طويل    الحماد ل «الرياض»: المملكة تحقق المنجزات الاقتصادية النوعية باقتصاد متنوع وضخم    يكفي فخر لانكست كل الأعلام .. تبقى بلادي ما ينكس علمها    رئاسة مؤتمر «حل الدولتين»: حان الوقت لينتقل المجتمع الدولي من الأقوال إلى الأفعال    أمين مجلس التعاون الخليجي: تحقيق السلام العادل بقيام دولة فلسطينية مستقلة    الحرب على غزة.. غارات مدفعية وجوية إسرائيلية وسط حصار خانق وتجويع    الإعلام.. مستقبل حافل بالمنجزات والتحولات    سعوديبيديا تصدر ملحقا عن اليوم الوطني السعودي 95    وكيل الوزارة للشؤون الدولية المتعددة يشارك في الاجتماع الوزاري الخليجي الفرنسي    بلان يتحدث عن موقف بنزيما من لقاء النصر    الدفاع المدني يشارك في فعالية وزارة الداخلية "عز الوطن" احتفاءً باليوم الوطني ال (95) للمملكة    نمو أقوى في 2025 و2026 للاقتصاد الخليجي بقوة أداء القطاعات غير النفطية    محافظة طريب تحتفل باليوم الوطني ال95    القوات الخاصة للأمن والحماية تشارك في مسيرة احتفالات اليوم الوطني السعودي ال(95) بمحافظة الدرعية    المحائلي تبدع بالفن التشكيلي في اليوم الوطني ال95 رغم صغر سنها    قصر الحكم في الرياض.. رمز السيادة ومفخرة المعمار الوطني    رحيل مفتي المملكة.. إرث علمي ومسيرة خالدة    1.3 مليون قرض مباشر والمسنون الأكثر استفادة    59% من السعوديين يفضلون الحوالات عبر التطبيقات الرقمية    عروض العيد الوطني تنعش المشتريات    الحزم يعبر نيوم إلى ثمن نهائي كأس الملك    الطبيب السعودي في عصر النهضة    ضمن فعاليات اليوم الوطني ال95 صحة جازان تطلق مبادرة "نفق الحياة" بالكورنيش الشمالي    خادم الحرمين: نحمد الله على ما تحقق من إنجازات في بلادنا الغالية    صلاة الغائب على سماحة المفتي العام للمملكة في المسجد النبوي    اطلاق النسخة الخامسة من مبادرة عطاء القطاع الصحي الخاص "وَليد"    الهلال الأحمر بالقصيم يكمل جاهزيته للاحتفال باليوم الوطني ال95 ومبادرة غرسة وطن وزيارة المصابين    الأغاني الوطنية تشعل مسرح عبادي الجوهر أرينا في اليوم الوطني 95    الأحساء تشهد نجاح أول عملية بالمملكة لاستئصال ورم كلوي باستخدام جراحة الروبوت    أمير جازان ونائبه يزوران معرض نموذج الرعاية الصحية السعودي    المشي المنتظم يقلل خطر الإصابة بآلام الظهر المزمنة    نائب أمير تبوك: اليوم الوطني مناسبة غالية نستحضر من خلالها التاريخ المجيد لهذه البلاد المباركة    مركز التنمية الاجتماعية بوادي الدواسر يحتفي باليوم الوطني ال95 للمملكة    فضيلة المستشار الشرعي بجازان: " قيادة وشعبًا متماسكين في وطنٍ عظيم "    أهمية اتفاق الدفاع الاستراتيجي المشترك بين السعودية والباكستان    إضراب عام يشل الحياة في إيطاليا تضامنا مع غزة    100 شاب يبدؤون رحلتهم نحو الإقلاع عن التدخين في كلاسيكو جدة    تعزيز التنافسية السعودية عالمياً.. توطين التقنيات والصناعات الذكية    دبلوماسية تبني الاستقرار.. السعودية.. وسيط الثقة وصوت السلام الدولي    إسرائيل تحذر من عملية برية واسعة في لبنان    95 عاماً من المجد.. هوية وطن.. طباع تروي قصة العز    اليوم الوطني.. وحدة وبناء    قاطرة قوية ومعدلات تاريخية.. 56 % من الناتج المحلي غير نفطي    حفاظاً على جودة الحياة.. «البلديات»: 200 ألف ريال غرامة تقسيم الوحدات السكنية    الأمن يحبط تهريب 145.7 كجم مخدرات    «كلهم بيحبوا» ياسر جلال في رمضان    الأحوال المدنية تشارك في فعالية وزارة الداخلية "عز الوطن" احتفاءً باليوم الوطني ال (95) للمملكة    القوات الأمنية تستعرض عرضًا دراميًا يحاكي الجاهزية الميدانية بعنوان (حنّا لها)    عزنا بطبعنا.. المبادئ السعودية ركيزة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



طقوس رومانية في شارع الأعمدة وتكريم السياب وحاوي ودنقل وجبرا . "مهرجان جرش": أسئلة "التطبيع" في "مسرح آرتميس" ومحمود درويش يبوح بتمزقات الداخل
نشر في الحياة يوم 14 - 08 - 1995

"مهرجان جرش" في الأردن من المواعيد الثقافية والشعبية التي ينتظرها الجمهور كلّ صيف في المدينة الأثرية، حيث المسرح العريق الذي يستضيف أبرز العروض والأمسيات. وحصاد هذا الموسم وفير، بدءاً بتكريم شعراء كبار رحلوا وانتهاء بالأمسية الشعرية التي أحياها محمود درويش وعرفت نجاحاً باهراً. هنا جولة في أنحاء تلك التظاهرة التي تحوّلت عامل تنشيط سياحي، بفضل التقاليد الثقافية التي نجحت في ارسائها.
فيما كان البرلمان الأردني منشغلاً بالتداول في قانون المقاطعة الاقتصادية وحظر التعامل مع العدو، كانت الأبواق تعلن عن افتتاح المهرجان الشهير الذي تستضيفه مدينة جرش الأثرية الواقعة على بعد 56 كيلومتراً شمال العاصمة عمّان، غير آبهة لما يجري تحت قبة مجلس الأمة الذي صادق على أهمّ قوانين المعاهدة الأردنية - الاسرائيلية منذ جرى التوقيع عليها في 26 تشرين الاول أكتوبر من العام الماضي.
وعلى الرغم من خلو مهرجان جرش هذا العام من المشاركة الاسرائيلية، الا أن ذلك لم يمنع السياح الاسرائيليين من التدفق على فعاليات المهرجان، وسط تقبّل فاتر ممزوج بالنفور من قبل الجمهور الأردني والعربي الذي يجرّ حملاً ثقيلاً من الجراح يصعب تناسيها دفعة واحدة...
لكن ذلك كله لم يؤثر على الزخم الذي شهده المهرجان، منذ العروض والنشاطات الأولى التي شهدت بدءاً من ليلة الافتتاح في التاسع عشر من شهر تموز يوليو اقبالاً كثيفاً وتجاوباً ملحوظاً من قبل الجمهور. وعرف المسرح الجنوبي المحروس بأعمدة رومانية تحتفظ ببهائها الاول، وهو رئة المهرجان، لحظات نشوة استثنائية فاضت معها الحماسة الجماهيرية. فعلى خشبته وقف ثلاثة نجوم هم لطيفة التونسية، كاظم الساهر وأصالة مصطفى نصري، خطفوا بريق المهرجان ففاض المدرّج الذي يتسع لأكثر من أربعة آلاف شخص بالمشاهدين، بحيث لم يبق للصحافيين مكان يقفون فيه، أو جدار يتكئون عليه!
لطيفة التي بدت في حفلتها الاولى مرتبكة، والتي سعت ما أمكنها إلى الامساك بزمام الايقاع، متحاشية املال الجمهور، ذكّرت في مؤتمرها الصحافي أنّ "الموسيقار محمد عبدالوهاب منحني شرف التشجيع، وقال إنني دؤوبة وامتلك صوتاً قوياً". لكن الفنّانة - التي درست الأدب الالماني في القاهرة - نفت أن يكون لأحد "فضل" على شهرتها "باستثناء الموهبة والجدّية والتعب والمثابرة"! ومن المعروف أن لطيفة التونسية أدّت عدداً من الاغنيات التي عرفت شهرة وانتشاراً واسعين، وتحديداً تلك التي لحنها لها سيد مكاوي، وبليغ حمدي، وعمّار الشريعي.
ولئن بدت لطيفة مرتبكة وهي تجهد في المواءمة بين الغناء واحساس الجمهور، فأصالة نجلة الفنان الراحل مصطفى نصري، غمرها الارتباك منذ لحظة وصولها إلى العاصمة الاردنية، وهو ما عبّرت عنه في مؤتمرها الصحافي بقولها: "أشعر بخوف كبير، وأحسّ ان صوتي سيغيب اثناء الغناء"! وعلى الرغم من أن أسئلة الصحافيين والاعلاميين مالت الى المجاملة وأخمدت ثورة ارتباكها، الا ان سؤال "الوسط" لها عن موقفها فيما لو وجّهت اليها دعوة للغناء في اسرائيل، جعلها تصمت وتتلكأ، وتجيب بتردد: "سأغني في اي مكان اجد فيه من يحب غنائي". سألناها: "حتى لو في اسرائيل؟"، فأجابت بخجل: "نعم"، مثيرة في الصالة زوبعة من التعليقات قبل أن تستدرك: "امتنع عن الاجابة"، ولكن ذلك جاء كمحاولة عبثية للمراوغة في قضية لم يتورّع العراقي كاظم الساهر عن الاجابة الحاسمة عنها بالنفي.
كاظم الساهر كان نجم "الجنوبي" الثالث، نفدت بطاقات حفلاته بسرعة، ووصل ثمنها الى أربعين ديناراً حوالي ستين دولاراً في حين أن الثمن الرسمي ثمانية دنانير فقط! كاظم الساهر الذي يجمع اداؤه بين الغناء الكلاسيكي والاغنية الشبابية السريعة، والذي يحظى بشعبية كبيرة في الاردن قال ل "الوسط" أرفض أن أغني في اسرائيل". وأضاف في رده على سؤال آخر حول ظاهرة الغناء في الأندية الليلية بأن "الفنان مضطر لذلك، حتى يستطيع أن يعيش ويعيل أسرته، ويلبي كلفة استحقاقات عمله الفني"!
وفي حين استحوذت الأمسيات المشار إليها على اهتمام الاعلام وحماسة الجماهير، كانت فعاليات أخرى ذات مستوى فنّي رفيع تعاني من قلّة اقبال الجمهور، متأرجحة بين الىأس والخيبة. وبين الأمسيات التي عانت من ضحالة عدد المشاهدين، تلك التي احيتها فرقة "نيو إنغلند" الأميركية ذات العراقة التي بوّأتها مكانة مرموقة على المستوى الموسيقي والاوبرالي العالمي.
ولم يكن الاستقبال الذي لقيته فرقة "الكافرن بيتلز" أفضل من "نيوانغلند"، لكن الحضور الشحيح لم يمنع المشاهدين من الانخراط في رقص محموم جدّد الولاء لهذه الفرقة التي تقدّم نفسها كوريثة لأشهر فرقة في تاريخ غناء البوب في العالم. أما فرقة رضا للفنون الشعبية، فاحتلت موقعاً وسطاً من حيث الكثافة الجماهيرية، وأدهشت برقصاتها التعبيرية على الانغام الشرقية، واغنياتها التي برع في ادائها محمد رؤوف بصوته الشجي وحضوره المسرحي الأخّاذ.
في الطريق إلى "آرتيمس"
وفي الطريق إلى "مسرح آرتيمس" يعبر المرء شارعاً تحيط به الأعمدة الشاهقة، تركت أرضتيه الحجرية على حال رصفها الاولى. وهنا، في المسرح الذي يستقي اسمه من آلهة القمر والليل، كان بوسع الزائر أن يسمع ردوداً واجابات حاسمة عن سؤال "التطبيع" الذي أثير لمناسبة مشاركة "الفرقة النصراوية للرقص الشعبي والحديث" في مهرجان جرش. والفرقة كما هو واضح من اسمها قادمة من الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1948... لكن النقاش بدا وكأنّه حُسم سلفاً، كما أشار حجم الاقبال الذي تجاوز طاقة المكان على الاستيعاب. بحماسة ملتهبة استعاد فيها الجمهور محطات من التراجيديا الفلسطينية، هذه التراجيديا التي عرفت بين فصولها رحيل ابن الناصرة توفيق زيّاد، يعتبر بمثابة الأب الروحي للفرقة، قبل أن يحقّق أغلى أحلامه: ولادة دولة فلسطينية عاصمتها القدس.
أرملة الراحل نائلة زياد اعتبرت، في حديث إلى "الوسط"، أن الذين يعتبرون مشاركة "الفرقة النصراوية" ضرباً من ضروب التطبيع، إنّما "يزايدون علينا، نحن الفلسطينيين الذين بقينا في اراضينا، وحافظنا - كما ترون - على تراثنا، ودفعنا الثمن، وتكبّدنا الخسارات، من دون ان نتنازل عن حقوقنا التاريخية والوطنية المتمثلة في اقامة الدولة الفلسطينية وعاصمتها القدس".
وعلى "مسرح آرتيمس" نفسه هام الجمهور في أغاني الوجد التي قدّمها بشّار زرقان متنقلاً بين السهروردي والحلاج وابن الفارض وابن عربي، وصولاً إلى النص الصوفي المعاصر الذي يكتبه شعراء منهم الاردني طاهر رياض. وفي جرش، غنى بشار رائعة طاهر رياض "ما في الجبّة أحد"، كما غنى لدوريش مقاطع من قصيدة "الهدهد": "طيري با بنت ريشي". وزرقان الذي كشف ل "الوسط" أنّه قام أخيراً بتسجيل أغنيتي وجد "بطريقة الفيديو كليب اخرجتهما الفنانة سوسن دروزة"، ذهب في أمسيتيه بعيداً في المعنى، فعكس ذائقة فنية أنيقة في اختيار كلماته، وايقاعها الغنائي العذب.
واحتضن "مسرح آرتميس"، علاوة على ذلك، رائعة شكسبير "كوميديا الاخطاء" التي قدمت في سياق جمالي تجلت فيه البساطة مع العمق، وجرى استرجاع ابداعي واستعادة خلاقة لشفافية النص الشكسبيري الذي لم يفقده الحذف والتصرف به براءته، ومقدرته الفذة على الخلود.
كما قدّم العراقي سعدي يونس عرضه المونودرامي "أدابا في العاصفة"، ويدور حول فكرة الصراع بين الحضارة والمعرفة من جهة، وبين القدر والجهل والغيبيات من جهة أخرى. حاول يونس تجسيد كل شخصيات مسرحيته معبّراً عن الصراع بين القوى المتناقضة، من خلال تعامل ذكي مع الاقنعة، على الرغم من أن فجاجة الاضاءة والمؤثرات الصوتية أساءت إلى النص وأفسدت بنيته الفنية والايقاعية. الامر الذي جعل سعدي يونس يصف الوسائل التقنية للمهرجان ب "التخلّف"!
وخلل الاضاءة والصوت رافق أغلب الفعاليات، وهذا ما لا ينفيه مدير المهرجان أكرم مصاروة الذي قال ل "الوسط": "نحن بصدد تجديد تجهيزات الصوت والاضاءة، لتتناسب والمسؤولية الفنية والثقافية التي يجسدها مهرجان جرش". ولا بدّ أخيراً من الاشارة إلى أن "مسرح غراسيا للابداع" لفت الأنظار بإطلالته الأولى هذا العام. فتدشين هذه التجربة تمّ عبر مسيرة مهيبة انطلقت من الساحة الرئيسية مروراً بشارع الأعمدة، في موكب كرنفالي يستعيد الطقس الروماني في الاحتفال على ايقاع الطبول وبرفقة المشاعل المتوهّجة.
محمود درويش: تمزّقات الداخل
أما برنامج الشعر والنقد لهذا العام، فسجل نجاحاً ملحوظاً متجاوزاً بدرجات حصاد العام الماضي. ولا شكّ أنّ حضور محمود درويش لعب دوراً لا يستهان به في تحقيق هذا النجاح، إذ غصّت القاعة التي استضافت أمسيته بالجمهور، وزاد عدد الحاضرين على الثلاثة آلاف. في هذا اللقاء الاستثنائي الذي سيبقى طويلاً في الأذهان، والذي انحفر في ذاكرة المهرجان، مارس درويش بحق جمهوره "ديكتاتورية الشعر" فأسره في عالم من الألم والحنين، واستأثر بمشاعره وأحاسيسه. قرأ الشاعر من ديوانه الأسبق "أحد عشر كوكباً"، كما قرأ قصائد أكثر توغلاً في الذاكرة الشعرية، مختصراً تجربته الجمالية والوجودية التي بلغت ذروتها مع آخر مجموعاته "لماذا تركت الحصان وحيداً؟".
أمسية محمود درويش في جرش كشفت عن وعي الجمهور ونضوجه، إذ أنصت بكل حواسه إلى الشاعر الذي ضبط ايقاع قصيدته على نبضه وشرّع رؤياه على اهتزازات المرحلة وتمزّقات الداخل. أما سميح القاسم الذي استضافه مهرجان جرش، قادماً من الأراضي المحتلّة، فلم يعبأ بهذه الطاقة غير المرئية التي تعطي للشعر نسغه ومعنى وجوده، بل اكتفى بضبط ايقاع قصيدته بحركة اليدين. وبدا بوضوح ارتباط قصيدة القاسم بما هو مباشر وعياني في الواقع والحياة، من دون أن تنشغل كثيراً بالتفاصيل الفنية. كأن تلك القصيدة عاجزة عن التخلّص من الفائض اللغوي والصوري الذي تغرق معه الرؤية في ضبابية بلا قرار، فيطغى الشعار بينما يبدو الجانب الشعري مرتبكاً وخجولاً. وعلى خطى القاسم سار شعراء كثيرون أغلبهم جاء المهرجان مزنراً بفتوحاته الشعرية الغابرة، ودخائره القديمة المغبّرة، بل ان بعضهم قرأ قصائد كتبت قبل ربع قرن!
ولعل الندوات الفكرية هي التي أنقذت الموقف. إذ جاءت البحوث النقدية لتخفّف من فداحة بؤس الشعر، متصدّية لمهمّة اعادة قراءة الشعر العربي المعاصر من خلال ثلاثة من أبرز رموزه: بدر شاكر السياب، خليل حاوي، أمل دنقل، اضافة الى حلقة متخصصة حول صديق المهرجان الراحل جبرا ابراهيم جبرا.
في قراءته لقصيدة "الموت والنهر" للسياب، عاب سعيد القاضي على من تناولوا السياب من خلال التحليل النفسي، قصور منهجهم. وبيّن "أن العلاقة بين الموت والنهر ليست علاقة مقابلة صريحة، وإنما هي "نوع من المقابلة المضمرة بالادماج". لكنّ المأخذ الذي يُسجَّل على القاضي هو اكثاره في اطلاق الأحكام العامة والفضفاضة، وهي تخلّ بالمنهجية المحكمة التي صاغ بها بحثه...
ريادة السيّاب
أما فخري صالح في بحثه "صورة السياب في النقد العربي"، فأوضح ان هذه الصورة تبدو "غائمة قليلاً، غير واضحة المعالم". ويتفق صالح مع القاضي حول ريادة السياب للقصيدة الجديدة، لكن صالح يستدرك ان الانشغال بهذه الريادة "طمس معالم شخصية السياب الشعرية".
وفي بحثه عن خليل حاوي "قصيدة خليل حاوي بين الابداع والاتباع" رأى خالد سليمان جامعة اليرموك الأردنية أن حاوي انحاز "الى شعر التفعيلة انحيازاً تاماً … لكنه بقي … ملتصقاً بالقصيدة التقليدية"! ودرس خليل الشيخ ظاهرة الانتحار لدى الشعراء العرب المعاصرين، معتبراً الانتحار "ظاهرة اجتماعية تحدّد علاقة الفرد بالمجتمع" علاوة على كونها "حركة احتجاجية صارخة ضد السائد". ولا شكّ أن اعتبار الانتحار ظاهرة فعلية على مستوى الشعر العربي فيه بعض المبالغة، لكن اجتهادات الشيخ لم تخلُ من الملاحظات المثيرة.
أمل دنقل: "المجاز المرئي"
وفي بحثه "الأسلوب السينمائي في شعر أمل دنقل" استقصى صلاح فضل "كلام الصورة" في شعر أمل دنقل، مبيناً ان دنقل استخدم فعالية المزج الصوتي والدرامي في قصيدته، وانتقال المجاز اللغوي "ليصبح مجازاً مرئياً". واعتبر فضل ان المونتاج يبدو "التقنية المثلى عند أمل دنقل".
وحدّد سيد البحراوي في بحثه "الحداثة العربية في شعر أمل دنقل" معنى الحداثة، متوصّلاً إلى أن المبدعين العرب الذين "مثلوا حركات فنية متمرّدة وطليعية - ومنهم أمل دنقل - يشكلون نموذجاً آخر للحداثة". لكن البحراوي يتعثر في تطبيقاته حول الحداثة، ويتعسف في قولبة النص لينسجم مع مقولات النظرية!
وكان من الطبيعي أن يحظى الراحل جبرا ابراهيم جبرا الذي لا يزال طيفه يخيّم على مهرجان جرش، بقدر كبير من الاهتمام. فقد تعدّدت الأبحاث التي تناولته، بتنوّع الجوانب المعرفية والابداعية والغزارة الفكرية لدى صاحب "وليد مسعود".
في بحثه "جبرا ابراهيم جبرا شاعراً" أوضح محمد عصفور أن "الأصول الأدبية عند جبرا هي أصول انكليزية"، وأن جبرا "كان ينتمي الى التيار الأهم في الشعر الذي يكتب بالانكليزية". وبيّن عصفور أن شعر جبرا لم ينل "ما يستحقه من عناية النقاد، على رغم كونه في رأيي من أهم ما كُتب في النصف الثاني من القرن العشرين"!
وعن جبرا الروائي قدّم ابراهيم السعافين "دراسة في صورة البطل في روايات جبرا ابراهيم جبرا" متخذاً من رواية "البحث عن وليد مسعود" نموذجاً. بيّن السعافين أن هاجس جبرا "في رواياته هو البحث عن "الموضوع الكبير" حيث يضع الكاتب وليد مسعود "بين مجموعة من الشخصيات التي تحلم بالتغيير". ويخلص السعافين الى القول ان البحث عن وليد مسعود "هو بحث عن الهوية والذات، بحث عن المعنى".
وفي بحثه "جبرا والنقد الأسطوري" أشار ماجد السامرائي الى ان جبرا "لم يكتب نقداً بالمعنى التقليدي، وانما أنجز "قراءات" تحددت بمنهجية أساسها الرؤية الفنية الابداعية". وبيّن أن جبرا "يشدّد من خلال تناوله الأسطورة في تجربة الشاعر الحديث، على السمات الرمزية في القصيدة، وهي التي تربطها بعالم الأسطورة". هذه الأسطورة التي تكمن فكرتها الجوهرية "في تبديل الواقع وتغييره".
وفي بحثه "جبرا ابراهيم جبرا مترجماً" عرض عبدالواحد لؤلؤة طريقة استاذه في الترجمة معتبراً أنّها تبدأ "باستغوار النص" أي الغوص في أعماقه وأغواره. وكشف لؤلؤة ان "جبرا لا يحب ان يترجم أعماله الخاصة - الا نادراً". أما السبب فشعوره بأنه "اذا كان لدى العربي ما يقوله، فليكن بلغة قومه".
ولم يقف "مهرجان جرش" في الاحتفاء بذكرى جبرا عند حدود الأبحاث النظرية، بل خص الكاتب الراحل بتكريم يليق بشخصيته الابداعية وأذواقه الفنية. إذ أحيت تانيا تماري ناصر أمسية غنائية أدّت خلالها، بصوتها الأوبرالي الساحر، ست قصائد لجبرا لم تنشر من قبل، لحنتها استاذة البيانو العازفة إغنس بشير. ونالت الأمسية استحسان الجمهور الذي ملأ المدرج الرئيسي ل "المركز الثقافي الملكي" في عمان.
وعبّر بعض المثقفين والفنانين والضيوف عن امتعاضهم من التغطية الصحافية لفعاليات المهرجان التي تراوح معظمها بين لغة المجاملة والمديح المجاني والفجاجة المتمثلة في الانشاء العقيم الخالي من المصداقية. لكن "مهرجان جرش" يبقى - علاوة على أهميته الثقافية والفنية - نقطة جذب سياحي بحسب عبدالإله الخطيب وزير السياحة الأردني الذي أكّد ل "الوسط" سعي وزارته إلى جعل المهرجان "مركز استقطاب للسياح العرب والأجانب"، متوقّفاً عند انجازات هذه الدورة قياساً بحصاد السنوات الماضية.
ولا شك أن "مهرجان جرش" الذي استضاف هذا العام المسرحي السوري الأصل شريف خازندار، ومسؤولين في دار الأوبرا المصرية، بات اليوم مؤسسة عريقة لها تقاليدها الثقافية التي تترسّخ عاماً بعد آخر، ما يدفع المسؤولين إلى التفكير في تعميم هذا النموذج على مناطق ومجالات أخرى. "هناك اجماع على نجاح المهرجان" يؤكّد مدير المهرجان أكرم مصاروة، مضيفاً أن "أبرز الانجازات التي نعتزّ بها تتمثل في الصدقية والاحترام اللذين يتمتع بهما المهرجان، ويحقق من خلالهما حضوره وامتداده".


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.