الجيش الأمريكي: الحوثيون أطلقوا صواريخ وطائرات مسيرة    الأخضر يواصل استعداداته لمواجهتي باكستان والأردن    ولي العهد يتوج فريق الهلال بكأس خادم الحرمين الشريفين للموسم الرياضي 2023 – 2024    الإعلان عن إطلاق معرض جدة للتصميم الداخلي والأثاث    مدينة الحجاج "بحالة عمار" تقدم خدمات جليلة ومتنوعة لضيوف الرحمن    الاتحاد الأوروبي يرحب بمقترح "واقعي" لوقف النار في غزة    الأمم المتحدة تحذر من خطر تعرض ملايين السودانيين للمجاعة    مدينة الحجاج بحالة عمار تقدم خدمات جليلة ومتنوعة لضيوف الرحمن    أسعار النفط تتراجع قبيل اجتماع "أوبك+"    200 دولة في العالم و66 قناة تلفزيونية نقلت نهائي كأس الملك    جمعية لياقة تستقبل وفد سفارة الولايات المتحدة الأمريكية بعرعر    سفير المملكة لدى اليابان: العلاقات السعودية اليابانية خلال السبعين السنة القادمة ستكون أكثر أهمية    جامعة الطائف تقفز 300 مرتبة في تصنيف RUR العالمي    الرئيس العام لهيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يطلق خدمة (المرشد التوعوي الرقمي)    استقبال الحجاج عبر منفذ البطحاء بالمنطقة الشرقية    انجاز جديد لميتروفيتش بعد هدفه في كأس الملك    بمتابعة وإشراف أمير تبوك.. مدينة الحجاج ب«حالة عمار» تقدم خدمات جليلة ومتنوعة لضيوف الرحمن    ركلات الترجيح تمنح الهلال لقب كأس الملك على حساب النصر    بونو يُبكّي رونالدو بْزَّاف    موعد مباراة ريال مدريد وبورسيا دورتموند اليوم في نهائي دوري أبطال أوروبا    "أرامكو" ضمن أكثر 100 شركة تأثيراً في العالم    رصد 8.9 ألف إعلان عقاري مخالف بمايو    تدريب 45 شاباً وفتاة على الحِرَف التراثية بالقطيف    الإبراهيم يبحث بإيطاليا فرص الاستثمار بالمملكة    "كروم" يتيح التصفح بطريقة صورة داخل صورة    ضبط مقيمين من الجنسية المصرية بمكة لترويجهما حملة حج وهمية بغرض النصب والاحتيال    اختتام ناجح للمعرض السعودي الدولي لمستلزمات الإعاقة والتأهيل 2024    ثانوية «ابن حزم» تحتفل بخريجيها    ترمب: محاكمتي في نيويورك «الأكثر جنوناً»    ضبط مواطنين في حائل لترويجهما مادة الحشيش المخدر وأقراصًا خاضعة لتنظيم التداول الطبي    الرئيس العام لهيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يقوم بزيارة تفقدية    مشرف «سلمان للإغاثة»: 129 مليار دولار حجم المساعدات السعودية ل169 دولة في 28 عاماً    وكيل إمارة حائل يرأس اجتماع متابعة مكافحة سوسة النخيل الحمراء    خلافات أمريكية - صينية حول تايوان    «الجمارك»: إحباط تهريب 6.51 مليون حبة كبتاغون في منفذ البطحاء    خطبتا الجمعة من المسجد الحرام والنبوي    رياح مثيرة للأتربة والغبار على مكة والمدينة    5 مبتعثات يتميّزن علمياً بجامعات النخبة    وزير الداخلية يدشن مشاريع أمنية بعسير    "سامسونغ" تستعد لطرح أول خاتم ذكي    ترقية 1699 فرداً من منسوبي "الجوازات"    المملكة ضيف شرف معرض بكين للكتاب    توجيه أئمة الحرمين بتقليل التلاوة ب"الحج"    أطعمة تساعدك على تأخير شيخوخة الدماغ    الرياضة المسائية أفضل صحياً لمرضى للسمنة    ثانوية ابن باز بعرعر تحتفي بتخريج أول دفعة مسارات الثانوية العامة    الخريف لمبتعثي هولندا: تنمية القدرات البشرية لمواكبة وظائف المستقبل    وزير الداخلية للقيادات الأمنية بجازان: جهودكم عززت الأمن في المنطقة    الأمير فهد بن سلطان: حضوري حفل التخرُّج من أعظم اللحظات في حياتي العملية    «الدراسات الأدبية» من التقويم المستمر إلى الاختبار النهائي !    كيف تصبح زراعة الشوكولاتة داعمة للاستدامة ؟    5 أطعمة غنية بالكربوهيدرات    المملكة تستضيف الاجتماع السنوي ال13 لمجلس البحوث العالمي العام القادم    كيف نحقق السعادة ؟    المعنى في «بطن» الكاتب !    تشجيع المتضررين لرفع قضايا ضد الشركات العالمية    عبدالعزيز بن سعود يلتقي عدداً من المواطنين من أهالي عسير    أمير القصيم يكرم 7 فائزين بجائزة الأميرة صيتة بنت عبدالعزيز    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



أربعة كتاب وباحثة في ندوة "الوسط" عن "الادب والترحال الفكري" المثقف العربي في مهب التحولات والهجرات من الافكار الشعبوية الى الاستقالة و "نهاية التاريخ" 1 من 3
نشر في الحياة يوم 05 - 09 - 1994

يعيش المثقف العربي اليوم، في مختلف الاقطار والمنافي، حالة من العزلة، لكي لا نقول الاستقالة، ومرحلة تساؤلات واعادات نظر وتحولات جذرية، ادت بالبعض الى الابحار من النقيض الى النقيض. وتلك الهجرات الفردية او الجماعية من ايديولوجية الى ايديولوجية اخرى، من مناحٍ ثقافية وجمالية الى مناحٍ مغايرة كلياً، يرى فيها البعض نتيجة طبيعية ومباشرة للمتغيرات الدراماتيكية التي عصفت بالعالم في نهايات هذا القرن، واسفرت عن زوال الاشكال التقليدية للصراع. "الوسط" جمعت خمسة مثقفين مصريين لمحاولة الاحاطة بهذه الظاهرة، وتنشر وقائع الندوة على ثلاث حلقات.
نمت حالة الترحال الفكري في أوساط المثقفين والفنانين والادباء والنقاد العرب والمصريين في الاعوام الاخيرة، حتى استحالت ظاهرة استثنائية، هي من السمات البارزة للثقافة العربية أواخر هذا القرن.
وأصبح مألوفاً أن تفاجأ دوائر المتلقين أو الدوائر الثقافية المتنوعة الدرجة والمستوى، بتلك الهجرات الفردية او الجماعية من ايديولوجية الى ايديولوجية اخرى، او من موقف عقلي الى موقف عقلي آخر، بل ومن عقيدة ثقافية الى عقيدة ثقافية مغايرة، وذلك نتيجة طبيعية ومباشرة للتغيرات الدراماتيكية السياسية والفكرية التي شهدها العالم من حولنا، واسفرت عن زوال الاشكال التقليدية للنظم الاقتصادية، والصراع الاجتماعي، والعلاقات الدولية، وبالتالي التعبيرات الثقافية والادبية عنها.
ويكاد يخيل للمتابع ان النماذج المألوفة والمتداولة عن الاشكاليات السياسية - الاجتماعية في العالم العربي، فرضت تأثيراتها، نتيجة لكل هذه التحولات التي يشهدها العالم، ليس فقط على موقف الاديب الاجتماعي او الفكري، وانما ايضاً على اسلوبه الفني. فنحن نشهد، على سبيل المثال، هجرات من المعاصرة الى التراث. كما نشهد هجرات من الواقعية الى التغريب، وهجرات من الحساسية القديمة الى الحساسية الجديدة.
واذا انتقلنا الى رصد تأثير المتغيرات الدائرة في العالم على انحياز الاديب الاجتماعي، نلاحظ تقلص هذا الانحياز وتراجعه من حدود الطبقة الاجتماعية الى زمرة الجيل او حتى الى زمرة المجموعة الفنية. كما نلاحظ أن الافكار الشعبوية او الجماهيرية اصبحت اليوم لصيقة بتيارات في الشارع يخاصمها الاديب وفقاً لثقافته السياسية القديمة، لذا تراه هجر هذه الافكار الى ما يشبه العزلة الاجتماعية، بل ونظَّر لهذه العزلة وعبر عنها.
ولا بد من الاشارة الى أن موقف الاديب من السلطة السياسية غدا هو الآخر، ساحة من ساحات التحول، وساحة من ساحات الهجرة. اذ شعر اديب العالم الثالث انه يعيش عالما جديدا ظالماً، لا يحسب للجنوب حساباً، ولا يأخذ شعوب العالم الثالث بعين الاعتبار، وراح يلمس يوماً بعد آخر العزلة التي تحاصر مجتمعه عن بقية الدنيا، بعيدا عن الانجازات الاسطورية في العالم المتقدم لثورة الاليكترونيات على المستوى المعرفي وفي مجال الاتصالات. هكذا أصبح الاديب يستند أحياناً في تقرّبه من السلطة السياسية في العالم الثالث حتى الالتصاق، الى منطق جديد قوامه أن الهيمنة الاجنبية تواجه السلطة والجماهير معاً. وهذا الخطاب له ما يفسّره اذا أخذنا بعين الاعتبار زوال عناصر الصراع الكلاسيكي الاجتماعي او الاقتصادي التي كانت تحكم العلاقة السابقة بين الاديب والسلطة السياسية.
كل هذه الافكار التي يدور حولها الجدل في السنوات الاخيرة، شكلت مدخلاً للندوة التي نظمتها "الوسط" في القاهرة، عن "الادب والترحال الفكري"، ودارت حول المحاور التالية:
- هل تعكس ظاهرة الترحال الفكري بين المثقفين والادباء ميلاً انتهازياً الى ركوب الموجة السائدة، ام انها تعكس تخبطاً فكرياً ومنهجياً حقيقياً؟
- الى اي مدى فرضت التحولات العالمية من جهة والمجتمعية من جهة ثانية على اديب العالم الثالث، ادوات جديدة واقترابات جديدة في ابداعاته الادبية والفكرية؟
- هل ادى الاختلاف بين ما تعتنقه الجماهير اليوم من افكار، وبين ما يدور في عقل الاديب من بقايا ثقافته السياسية السابقة، الى انعزال المثقف وابتعاده عن هذه الجماهير؟
- من أية ارضيات فكرية وفنية ينطلق الجدل الادبي اليوم بين النقاد والادباء والمثقفين عامة؟ هل الصراع هو بين مدارس فنية وبين تيارات فكرية، أم بين شلل وزمر لا يجمع بين أفرادها سوى المصالح الضيقة والاغراض الصغيرة؟
- هل كانت النزعات التقسيمية الى مغرب ومشرق داخل العالم العربي عاملا مضافا في عزلة الاديب هنا او هناك؟
- لجأ كثيرون في العالم العربي الى دراسة خصائص الموقف الفكري والابداع الفني لدى كل جيل مر افراده في ظروف متشابهة على الاصعدة السياسية والاجتماعية والاقتصادية. هل ما زال هذا النوع من المقاربات ممكناً الآن امام تصاعد تأثير النزعة الفردية بالشكل الذي نراه؟
- خصخصة الاجهزة والمؤسسات الثقافية والفنية قادمة... فالى اي مدى يمكن رصد تأثير ذلك المتغير على حركة الادب والادباء؟
شارك في الندوة الروائيان يوسف القعيد وجمال الغيطاني، الناقد الدكتور جابر عصفور، القصاص محمد مستجاب واستاذة علم الاجتماع الدكتورة سامية الساعاتي. وننشر وقائعها ابتداء من هذا العدد، على ثلاث حلقات.
سقوط الايديولوجيات
يشهد العالم متغيرات كثيرة بعد سقوط الايديولوجيات، وانهيار نظريات باكملها وتغيّر معايير الانتماء ومحتوى الخطاب السياسي. هل تعتقدون ان لهذه المتغيرات أثراً على الادباء المصريين والعرب سواء من حيث انتماؤهم الاجتماعي أو من حيث القوالب الفنية واساليب التعبير الفنية؟
- يوسف القعيد: بداية احب ان اوضح ان الحوار في هذا الموضوع يتأرجح بين جانبين اساسيين هما: الثبات على مبدأ او ما يمكن اعتباره في بعض الاحيان جمودا، والخضوع لقواعد وآليات يمكن من خلالها استبدال القناعات في لحظة معينة. أنا ولدت مطلع الاربعينات، أنتمي الى جيل لم يعاصر انتقال مصر من عصر الملكية الى عصر الثورة. لكني عاصرت رحيل عبد الناصر وما جرى في مصر مع مجئ السادات من استبدال قناعات وتغيير مواقف. عشت ايضا مجئ التيار الديني ومحاولة مغازلته والتخلي عن قناعات اساسية من اجل ارضائه والارتباط به. وشهدت التطور الرهيب المتمثل في سقوط الماركسية وانهيار الاتحاد السوفياتي، وبداية تخلي عدد لا بأس به من الماركسيين واليساريين العرب عن قناعاتهم.
والسؤال المطروح الآن هو: هل يظل الفرد متمسكاً بقناعاته ومبادئه، رافضاً الاستجابة للمتغيرات التي تحدث في الواقع؟ ام انه يوفق بين ما يفرزه الواقع من مستجدات وبين القناعات المترسخة لديه؟
أنا اؤمن أن الانسان لا يختار ببساطة وسهولة ان يكون في هذا الخندق او ذاك. فالمسألة خاضعة لمجموعة من الاختيارات والقناعات والتجارب الحياتية. من الصعب ان اقوم في الصباح واقول مثلا انا مع السادات، وبعد يوم اقول لا انا مع عبد الناصر. هذه الخيارات تتم انطلاقاً من اشياء داخل الانسان، ولا تخضع لطريق واحد. انا نشأت في طبقة فقيرة جداً، وتكونت لدي قناعات اساسية ناتجة من موقف الفقراء من الحياة. حضرت الى القاهرة وعملت في مجال الثقافة والفكر، ثم اصبحت في "بحبوحة" من العيش وصار ارتباطي بالفقراء نوعاً من المعاناة الذهنية.
فأنا لم أمتهن عملاً يدوياً مثل اهلي، وهذا الامر خلق اشكالية ضخمة جداً في العالم الثالث وفي مصر بالذات. ماذا يحدث للفرد المتحدر من أصول متواضعة، والمؤمن بفكر تقدمي واشتراكي، والملتزم بقضايا الفقراء، حين تقذف به ظروف الحياة فجأة الى الضفة الاخرى؟ يوجد في جوار مسكني في مدينة نصر منطقة نطلق عليها "سوق الرجالة"، يجلس فيها المتعطلون والباحثون عن اي عمل، وأمر أحياناً بها لشراء الصحف من بائع قريب. بمجرد ان اقف بسيارتي، أجد نفسي محاصراً بمئات الاشخاص الذين يهجمون عليّ أملاً في ايجاد فرص للعمل. عادة لا استطيع ان اتعاطف مع هؤلاء، ولا استطيع ان اتفاعل معهم، وفي جزء من الثانية اشعر بانهم ضدي وانا ضدهم. وأنتبه عند ذلك الى أنني تخليت عن موقعي الاجتماعي، وهذا أقسى أنواع الترحال.
هناك أيضاً شكل آخر من اشكال الترحال، يتجسد في كوني تركت قريتي وعشت في المدينة. واعترف انني غير قادر على اقامة علاقة ود وحب مع الواقع الاجتماعي للمدينة حتى الآن. وانظر الى اهل المدينة على انهم سيسرقونني او يخدعونني. اتذكر انني قابلت جمال الغيطاني في مقهى، وكان اول سؤال سألته له: من اين انت اصلاً؟ فقال لي انه من جهينة، فشعرت بالاطمئنان في داخلي لأن له بلدا، انا لا اعتبر القاهرة بلداً.
الى أي مدى تسمح متابعة ودراسة النتاج الادبي المصري في السنوات الاخيرة، باستشفاف عناصر ومؤشرات تعبّر عن هذه الظاهرة؟
- جابر عصفور: عندما نتحدث عن الظاهرة كما تطرحونها، فاننا نسقط من حسابنا ما يمكن تسميته بال "انتهازية" الفردية، وهي تظهر عادة في مراحل التحول والتغير الحاد. وربما احتاج هذا العنصر الى دراسة معمقة على حدة، نظراً لاهميته ولدوره في تحديد المسار الفكري الجماعي أحياناً. واتصور انه في تكوين المثقف هناك دائماً لحظة الانتقال من عالم الحلم الى عالم الواقع. فالانتماء الفكري او السياسي للمثقف يبدأ بالنظريات التي تمثل له نسقاً متكاملاً ينطوي على قدر من الشمول، ويقدم الحلول لكثير من المشاكل، سواء كان هذا النسق ماركسياً أو اسلامياً أو غيره.
وبقدر تكامل هذا النسق واجابته عن عدد كبير من الاسئلة، فان المثقف ينحاز اليه ويقترب منه. وعاجلاً أم آجلاً لا بد أن تتم الصدمة تحت تأثير التجربة، وينتقل النسق نفسه او النظرية، من مرحلة الحلم الى مرحلة الفكر ثم الى مرحلة الواقع. وهنا تحدث مجموعة من التعقيدات ويترتب عليها أمران: أما أن يقوم المثقف بتعديل النسق وينقله من الحلم الى مستوى الواقع، وهذا يرتبط بمرونة المثقف الذاتية ومرونة النسق الذي يعتمده... أو يهجره تماما الى نسق مغاير، خصوصاً اذا تضافرت مع هذه العوامل الذاتية عوامل أخرى ترتبط بما اسميه بالبعد القومي الذي يشمل مختلف الاوطان العربية، او حتى ببعد قطري ضيق على صلة ببقية الاقطار.
عالم كأنه فقد اليقين...
والملاحظ هنا اننا ننتقل، على المستوى القومي، منذ نهايات الحرب العالمية الثانية، من فشل الى آخر. كل مرّة يظهر نسق واعد يحاول ان يحقق مجموعة من الاحلام الاساسية للجماهير وللمثقفين، ويعدهم بالانتقال من مستوى الضرورة الى مستوى الحرية... لكن سرعان ما يكشف هذا النسق الكبير أو المشروع القومي عن كارثة أساسية. هذا ما حصل عام 1967 وأدى الى خلل هائل في نفوس الذين اعتنقوا أفكار النهوض. وهذا الخلل جعلهم يختارون بين مجموعة من البدائل التي كانت مطروحة في مواجهة المشروع القومي من ناحية، والتي جاءت بعده من ناحية اخرى.
كان هناك مثلاً النموذج الايراني الذي جاء ليمثل بالنسبة الى بعض من كانوا ينتمون الى المشروع القومي خلاصاً جديداً، يمكن ان يكون اكثر راديكالية من مشروع الدولة الدينية الذي تطرحه دول أخرى. وانا اتصور ان هذا امر يعني بعدا قوميا مضافا الى البعد الذاتي للمشكلة. ومن الواضح ان هذا البعد القومي ازداد حدة بسبب مجموعة من المتغيرات العالمية، لان التغيير لا يتم على مستوى الفرد او مستوى الامة فقط وانما على مستوى العالم كله.
فالمتغيرات المتعددة التي تحدث في الانظمة العالمية سواء على مستوى الاشتراكيات الديموقراطية، أو على مستوى الرأسمالية او الشيوعية العالمية، وما انتهت اليه ابتداء من الرأسمالية التي جددت نفسها الى انهيار الدول التقليدية الشيوعية... هذه المتغيرات جعلت العالم يبدو كما لو أنه فقد اليقين. كأن العصر بات يفتقر الى نظرية واحدة يمكن الوثوق بها. ويمكن ان نقول اننا على المستوى العالمي نعيش مرحلة تشبه مرحلة سقوط الاوثان، وسقوط النظم والنظريات.
وليس هناك كما يتصور البعض استبدال لنظريات بنظريات اخرى، وانما هناك افق جديد والبحث عنه يتم من خلال العالم كله بكل اقطاره واتجاهاته السياسية المختلفة. ففي العالم الرأسمالي نسمع من يتحدث عن نهاية التاريخ وضرورة البحث عن افق جديد بدلا من الآفاق المنغلقة والامر نفسه يقال عن الدول الاشتراكية.
استجابة آلية لحركة الجماعة؟
هل هناك تماس أو تصادم، بين اديب في حالة ترحال فكري ومجتمع بأسره يمر في الحالة نفسها؟
- جابر عصفور: انا اتصور ان المراحل التي نعيشها في مستوى من المستويات، تؤكد لدى المثقف فكرة البحث عن خلاصه الفردي الذي هو بصورة او بأخرى خلاص للمجتمع. لكن هناك أيضاً مستويات اخرى، تجعل الظاهرة أكثر تعقيداً من ان يكون الفرد مجرد استجابة آلية لحركة الجماعة. وعلى سبيل المثال فان تحول مصر من النموذج الذي طرحته الناصرية الى النموذج الذي طرحته الساداتية، ليس مجرد علة يترتب عليها تلقائيا تحول المثقفين من هذا الاتجاه الى الآخر. وما اريد ان اؤكده ان هذه ظاهرة معقدة، ولا ينبغي ان نتوقف عند مستوى واحد من مستوياتها، ونتصور ان المثقف مجرد استجابة آلية لحركة المجتمع.
هل بوسعنا القاء الضوء على محاولة الاديب لتحقيق خلاص الفرد، سواء في سياق حركة المجتمع او بناء على مبادرة ذاتية، وما يستتبع هذه المحاولة من تأثير على الادوات التي يستخدمها في التعبير الفني والادبي؟
- محمد مستجاب: أنا جزء من جماعة ولست منعزلاً. ولنفرض أنني أتحرك ضمن جماعة، فنحن لا نسير وراء بعضنا كالقطيع، بل ننتشر ونتّجه ونصب أعيننا اهداف معينة تكاد تكون متماثلة. وبالنسبة إلي، هناك امران اساسيان:
الاول يتعلق برحلة النص الذي اقوم بكتابته، ليُنشر في موقع كنت معادياً له. وبعد توجهي الى هذا الموقع او تلك المؤسسة او هذا القطر لاكتب فيه نصاً، يأتي من يزعم أنني اكتب بحرية كاملة، ومن يتسلم مني النص يزعم انه ترك لي الحرية الكاملة لكي اكتب. هكذا اكون مقتنعا تماما بأنني كتبت النص وفقا لشروطي الكاملة!
والامر الثاني يتعلق برحلة صاحب النص. اذ لا يعود هناك أهمية كبيرة، بالنسبة الى انتقالي من مكان الى آخر، لأن المعبّر عني والمورد الاقتصادي الخاص بي هو النص. فوجودي في مجمع اللغة العربية، او جريدة معينة او مجلة معينة، يبقى ثانوياً بالنسبة الى الهدف الذي يرمي اليه النص، ليصبح مورداً اقتصادياً يحميني. وبالتالي يكون طرأ على طرفَيْ المعادلة - النص وصاحبه - مجموعة من المتغيرات التي قد توصل الى نوع من الاضطراب. فخروج الكاتب من موقع الى موقع لا من فترة زمنية الى أخرى، ومن مكان الى مكان صديق، يحدث نوعاً من الضغط على الذهن. وهذا الضغط ضد الابداع، وضد حرية الابداع. حتى لو ادعيت انني اكتب في بيتي وبحرية تامة، فان هذا الامر غير صحيح، اذ أنسى أني اكتب وعيني على المكان الذي سينشر فيه النص.
هكذا حدث تغيير واضح في النصوص. جيلنا كتب ضد عبد الناصر بشكل أو بآخر، بالرمز او بصيغ مباشرة. وبعد ان مات عبد الناصر وجاء السادات، وقعنا في حيرة عندما اكتشفنا كم كان عبد الناصر عظيماً، وانه هو الحلم القومي وانه كذا... وكذا. إن مجموعة المتغيرات المتوالية غير المدروسة التي كان معظمها يخضع لمزاج الحاكم، ادت بالكاتب الى نوع من الارتباط السري الداخلي. فهو لا يستطيع ان يعمل منعزلا عن المؤسسات التي تعطيه الاموال، ولا يستطيع ان يكتب في البرج العاجي حيث تربّع البعض، في يوم من الايام، لكتابة القصص الرومانسية.
هذا الانتقال من ألف الايجابية الى ياء السلبية، جعل النص أكثر حركة وترحالاً من الكاتب نفسه. كما جعل افكار الكاتب تتجاوز معضلته الشخصية وذاتيته، لتدفعه الى "مغازلة" المؤسسات وتبني اهدافها ومصالحها أحياناً. قد يقول البعض إننا نكتب باخلاص: انا شخصياً وضعت نصوصي باخلاص شديد، لكن فيها سطوراً تمنيت لو أنني لم أكتبها.
وماذا عن مسألة العودة الى التراث، باعتبارها ظاهرة ذات مستويات متعددة؟ فهذه العودة تبدو في عيون البعض سعياً الى الصمود، فيما يراها البعض الآخر رغبة في العزلة... الى اي الفريقين ينحاز جمال الغيطاني مثلاً، بصفته من الغائصين على كنوز هذا التراث؟
- جمال الغيطاني: لا بد أولاً من الاشارة الى كوني أشترك مع صديق عمري يوسف القعيد في النشأة. فأنا من اسرة فقيرة، عرفت الاشتراكية من خلال وضعي الاجتماعي وليس من خلال النظريات والكتب. فانحيازي الفكري نبع منذ البداية من وضعي ووضع اسرتي الكادحة، وخرجت من هذا الوضع الى انحياز اشمل في فترة من الفترات دفعت ثمنه من حريتي الخاصة. ومن هنا ارى انه يوجد في حياتي كلها حتى هذه اللحظة، ما يمكن ان اسميه الثوابت، ويوجد ايضا متغيرات.
من الثوابت أنني ما زلت حتى الآن مؤمناً بالاشتراكية على الرغم مما جرى في الاتحاد السوفياتي وكثير من دول العالم. لان الاشتراكية بالنسبة إلي كما تعلمتها وكما اعتنقتها تعني فكرة العدالة الثورية. حتى لو كان وضعي الاجتماعي تحسن بشكل طفيف، فهذا لم ينسني موقعي الحقيقي. في حقيقة الامر نحن ما زلنا من الكادحين، نكتب مقالة او موضوعاً صحافياً لكي نؤمن وسيلة الرزق، وليس لدينا مصادر مالية أخرى، كما أننا لم نرث اسماً وعلاقات وثروة وعقارات تؤمن رخاءنا وانتماءنا، بالمعنى الاجتماعي العام، الى الطبقة المرفّهة.
وفي رأيي ان مأساة المثقف او المبدع العربي بشكل عام، تكمن في التناقض بين رغبته في التعبير عن ذاته وابداعه بحرية، ورغبة القوى الاخرى التي لا بد ان يتعامل معها سواء كانت هذه القوى ممثلة في السلطة او المعارضة. فالسلطة تريدك ان تصبح بوقاً لها. واذا انضممت الى حزب معارض، فهو يريدك ايضا ان تصبح آداة من ادواته. وهكذا فان التنظيمات والهيئات التي نتعامل معها تنظر الى الواحد منا كآداة. فكيف يحقق المبدع استقلاليته؟
ومع أن جوهر حياتي ونشاطي الحقيقي هو الابداع، فأنا مضطر الى العمل في الصحافة كي أضمن مورد رزقي، كما أنني اضطررت في فترة من الفترات، الى العمل كرسام للسجاد للغاية نفسها. ويبقى لي في النهاية بضع ساعات أحافظ عليها للانصراف الى النشاط الابداعي. طوال حياتي خضت صراعاً مريراً من أجل الاحتفاظ بهذه الفسحة التي اطلق عليها اسم "الدائرة الحمراء". القضية في نظري هي اذاً قضية الحفاظ على هذه المنطقة التي لا تقبل الترحال. أنا لا افهم ما الذي يقصده صديقي محمد مستجاب حين يتكلم عن ترحال النص.
هل يعني ذلك أننا نقسم الحيز الثقافي والابداعي الى مناطق للترحال الصحافة، السياسة...، ومناطق اخرى لا يجوز فيها الا بقدر محدود، وقد لا يجوز أبداً...
- جمال الغيطاني: أنا اتصور ان على الاديب او المبدع ان يتحلى بقدر كبير من المكر والدهاء ليتمكن من حماية موهبته وحماية نفسه. لأنه اذا تسرب خلل ما الى الذات المبدعة، فان هذا في رأيي يعني الموت الحقيقي. أما الثوابت التي اتحدث عنها، فيمكن في فترة من الفترات ان اعجز عن التعبير عنها كما يجب. لنأخذ مثلا فكرة العدالة الاجتماعية: قد انضم الى حزب يرفع شعار الاشتراكية، ثم اكتشف في لحظة من اللحظات أن هذا الحزب لا يعبر تماماً عمّا أفهمه بالفكرة الاشتراكية. فاذا انسحبت منه أو جمدت نشاطي فيه، فهل يعني هذا أنني انتقلت من النقيض الى النقيض؟
في اعتقادي أن العكس هو الصحيح. فأنا احافظ، في "ترحالي" هذا، على جوهر الفكرة... واحاول ان أفي هذه الفكرة التي اعتنقها ما تستحقه من الاحترام. أن أبقى أميناً لنفسي، لا أن أصبح ما يريدني الآخر أن أكونه. ومن هنا، في فترة من الفترات، شعرت انني امام مهمة رئيسية تواجهني وهي حماية الذات. للأسف أنا أشعر بعزلة شديدة في السنوات الاخيرة، بحكم الواقع المضطرب الذي تتحكم فيه قوى سياسية ضعيفة لا تستطيع توفير الحماية للاديب أو المبدع. لا بل أنها تريد ان تستخدمه بشكل انتهازي وصغير! من هنا انا لا اقف على فراغ، ولكن عندي تكوين ووجهة نظر ازاء الواقع، وعندي انحياز ايضا اعتبره من الثوابت لتقبّل فكرة المتغيرات.
المشاركون:
يوسف القعيد
ولد في 20 نيسان ابريل 1944 في محافظة البحيرة. حصل على دبلوم معهد المعلمين، وعمل ثلاث سنوات في التدريس قبل ان ينتقل الى الصحافة. وهو حاليا المحرر الادبي لمجلة "المصور" القاهرية، وعضو "اتحاد كتاب آسيا وافريقيا". ومن اعماله الادبية "الحداد"، "يحدث في مصر الآن"، "الحرب في برّ مصر"، "شكاوى المصري الفصيح"، "وجع البعاد"، "أيام الجفاف"... ترجمت بعض اعماله الى الانكليزية والفرنسية والالمانية والايطالية واليابانية وغيرها.
جمال الغيطاني
ولد في 9 أيار مايو 1945 في محافظة سوهاج. حاصل على دبلوم المدارس الثانوية الفنية قسم تصميم السجاد. بدأ حياته العملية كرسام سجاد في "المؤسسة العامة للتعاون الانتاجي"، وفي العام 1968 شغل منصب سكرتير "الجمعية التعاونية لمنتجات خان الخليلي"، وفي العام نفسه بدأ العمل محرراً في مؤسسة "أخبار اليوم". عمل مراسلاً حربياً من 1969 الى 1973. ومن مؤلفاته الادبية "اوراق شاب عاش منذ الف عام"، "وقائع حارة الزعفراني"، "الرفاعي"، "منتصف ليلة الغربة"، "ثمار الوقت"... حاز وسام العلوم والفنون من الطبقة الاولى وجائزة الدولة التشجيعية في الرواية للعام 1980. وفي العام 1987 حصل على وسام الاستحقاق في الآداب والفنون برتبة فارس من الحكومة الفرنسية. يشغل حالياً منصب رئيس تحرير جريدة "أخبار الادب" الاسبوعية، الى جانب اشرافه على صفحة الادب في جريدة "الاخبار" القاهرية.
محمد مستجاب
ولد في 23 تموز يوليو 1938 في محافظة أسيوط. بدأ موظفاً في هيئة السد العالي، قبل ان ينتقل الى العمل في "مجمع اللغة العربية" في القاهرة. وتدرج في الوظيفة حتى وصل الى منصب رئيس ادارة المتابعة في المجمع. من مؤلفاته الادبية: "من التاريخ السري لنعمان عبد الحافظ" رواية، "ديروط الشريف"، "القصص الاخرى"، "اقاصيص مستجاب" مجموعات قصصية، و"حرق الدم" وهو كتاب عن الأدب الساخر صدر في العام 1990. فاز بجائزة الدولة التشجيعية في الآداب في العام 1984، كما حاز وسام العلوم والفنون من الطبقة الاولى في العام 1986.
جابر عصفور
ولد في 25 آذار مارس 1944 في محافظة الغربية. حامل شهادة دكتوراه من قسم اللغة العربية في كلية الآداب جامعة القاهرة في العام 1973. تدرج في وظائف التدريس في الكلية نفسها حتى اصبح استاذا في العام 1983. درّس في جامعات عربية وغربية عدة في الكويت والولايات المتحدة واليمن والسويد وبريطانيا. كما أشرف على مركز تعليم الديبلوماسيين الاجانب في وزارة الثقافة المصرية 1978 - 1979. يرأس حالياً تحرير مجلة "فصول". ويشغل منصب رئيس "المجلس المصري الأعلى للثقافة". من مؤلفاته "الصورة الفنية في التراث النقدي والبلاغي"، "مفهوم الشعر - دراسة في التراث النقدي"، "المرايا المتجاورة - دراسة في نقد طه حسين"، "دفاعاً عن التنوير"... ومن أبرز ترجماته كتابي "عصر البنيوية" و"الماركسية والنقد الادبي".
سامية الساعاتي
ولدت في 23 كانون الاول ديسمبر 1944 في العاصمة البريطانية. حاملة شهادة دكتوراه في الاجتماع من جامعة القاهرة 1972. تشغل منذ العام 1989 رئاسة قسم علوم الاجتماع في كلية البنات في جامعة عين شمس، وهي عضو في الجمعية المصرية الدولية لعلم الاجتماع، والجامعة العربية - الاوروبية لعلم الاجتماع، وعضو مجلس ادارة نقابة الاجتماعيين في القاهرة. عملت لبعض الوقت كخبيرة في المركز القومي المصري للبحوث الاجتماعية والجنائية، وهي استاذة في معهد القادة لضباط الشرطة. ومن مؤلفاتها: "الجريمة والمجتمع"، "السحر والمجتمع"، "جرائم النساء"، "معجم الاسماء العربية".


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.