تربى البابا شنوده الثالث في حي شبرا، وهي منطقة مزدحمة تنتمي للطبقة المتوسطة في القاهرة ويسكنها عدد كبير من الاقباط، وكان واحداً من ابناء مدارس الاحد ومسؤولاً عن جزء فيها قبل ان يتحول تماماً الى حياة الرهبنة. وقبل ان يصبح نظير جيد - وهو اسمه الاصلي المدني - راهباً كان الشاب الذي سيصبح زعيم الاقباط في مصر معروفاً بمقالاته النارية في مدارس الاحد التي يقرؤها الكثيرون، قبل ان يدرس الآداب في جامعة القاهرة، ثم يصبح صحافياً وشاعراً وكاتباً. وبرز اسم البابا شنوده الثالث عندما صار اسقفاً للتربية في الكنيسة، فأصبح مسؤولاً عن كليات اللاهوت ومدارس الاحد. وسرعان ما دخل الى عالم السياسة بشكل غير مباشر، عندما رد على الاخوان المسلمين بأن وضع في الكنائس تقليد عظة يوم الجمعة، ما اعاد الى الاذهان ذكرى "حديث الثلثاء" الذي عرف به حسن البنا في تنظيم "الاخوان". ومن خلال عظة الجمعة كسب البابا شنوده شعبية كبيرة لدى الشباب القبطي. في ذلك الوقت من الستينات عرف البابا بآرائه التي يمكن ادراجها تحت بند "المسيحية السياسية"، ومثّل مدرسة ترى ان الكنيسة "مؤسسة شاملة مكلفة بأن تقدم حلولاً لكل المشاكل وأجوبة لكل الاسئلة المتصلة بالدين والدنيا"، في المقابل كان هناك من يرى ان الدين المسيحي هو علاقة بين الله وضمير كل فرد ولا ينبغي ان تكون له علاقة بالسياسة. ولكن البابا شنوده كان يملك فرصة اكبر للترويج لآرائه، ذلك انه اشرف على فصول التربية الكنسية التي امتلأت بالرجال والنساء، ومدارس الاحد المعبأة بالاطفال، وفصول خدم الكنيسة. وعندما انتخب في عام 1971 بطريركاً للأقباط الارثوذكس بعد وفاة البابا كيرلس السادس اصطدم بالرئيس انور السادات عندما قررت الدولة منع استكمال بناء كنيسة في الخانكة بنيت من دون الحصول على تصريح. وفي رأي محمد حسنين هيكل فإن شنوده الثالث كان مهيأ لدور يقوم به رجل يستطيع ان يتحمل مسؤوليته، فهو شاب ومتعلم وكاتب وخطيب متمكن، وله صفات الزعامة، الى جانب قوة احتمال ومثابرة لا شك فيها، اذ فرض على نفسه ان يظل داخل اسوار دير وادي النطرون احدى عشرة سنة كاملة، من 1952 وحتى 1963، قضاها كلها في الدرس والقراءة ونسخ مخطوطات قديمة. وبشكل عام فإن البابا هو الذي شهدت الكنيسة على يديه ظهور روافد وكنائس للأقباط في المهجر، خصوصاً في كنداواستراليا واميركا وأوروبا وافريقيا، وكان كذلك اول بابا قبطي يلتقي رئيساً اميركياً هو جيمي كارتر في نيسان ابريل 1977. في العام 1985، عاد بطريرك الكرازة المرقسية من دير الانبا بيشوي في وادي النظرون حيث أبعده السادات. وجاءت عودته بناء على قرار اصدره الرئيس حسني مبارك في كانون الثاني يناير من ذلك العام، قال فيه: "يعاد تعيين الأنبا شنوده الثالث بابا الاسكندرية". وألغى بذلك قراراً كان الرئيس الراحل انور السادات اصدره عام 1981 مستبعداً البابا من موقعه. وعندما عاد البابا الى كرسيه كان المسيحيون ينتظرونه في اشتياق. وعندما دخل الكاتدرائية ليصلي، انفعل الجميع فصفقوا له مرحبين، فترة طويلة. حدث هذا قبل تسع سنوات، جرت خلالها امور كثيرة، قلبت الاوضاع من النقيض الى النقيض. حتى صار للبابا معارضون. وصار هؤلاء يرفضون التصفيق له، ويقولون: "تكررت هذه الظاهرة بعد ذلك في كل مرة يقابل فيها الشعب رئيسه الروحي، وهو أمر لا يليق بأي طائفة مسيحية او غيرها. وأصبح التصفيق نقطة اعتراض على البابا الذي وجد نفسه فجأة في النصف الاخير من هذا العام في ازمة عارمة، تتحالف ضده تيارات مسيحية، وتكتب ضده صحف، ويطالبه الكثيرون بالاصلاح. وهو أمر لم يكن متوقعاً على الاطلاق، مع كل ما يملكه شنوده الثالث من شعبية واسعة بين الاقباط في مصر. كان الوضع مختلفاً قبل ذلك. وكان البابا يصرح الى الصحف بأن "الكنيسة كلها في وحدة فكر ووحدة قلب". ثم تطورت الامور، فصار يقول: "إن من يرفع راية المعارضة هم افراد قلائل يعدون على الاصابع، وما ينشرونه يقابل بسخط شديد في محيط الاقباط، وهم لا يعبرون الا عن انفسهم، وهم ليسوا معارضة، لأن كلمة معارضة ليست تعبيراً كنسياً، والمفروض في الكنيسة ان تكون رأياً واحداً". "حبيب الجماهير" لكن الازمة كانت اكبر من تصريحات البابا. والذي فجرها شأن بسيط اذا قيس بأمور اخرى، لكنه اكد ان الكنيسة تعاني مشاكل عدة. فقد حدث ان منع راهب في كنيسة ابي سيفين في مصر القديمة من ممارسة مهماته لأنه قرر ان يطور من آثار الكنيسة بالتعاون مع وزارة الثقافة المصرية، من دون ان يحصل على إذن بذلك من البابا. واثير الموضوع في الصحافة المصرية على تنوعها، ووصل الامر الى حد ان مؤيدين للراهب المعزول دخولوا الكاتدرائية اثناء الصلاة التي يؤديها الانبا شنوده يوم الاربعاء ورفعوا لافتات تؤيد القس المعزول، وتقول: "اغاثون حبيب الارامل والايتام"، "مصر القديمة تطالب بعودة القس اغاثون"، "أغاثون حبيب الجماهير ضحية الظلم والنفاق". وكان هذا التحدي بمثابة الشرر الذي فجر القنبلة المعارضة في وجه البابا، فاتضح ان هناك اتجاهات عدة ضده. وان ذلك لا يقتصر على العلمانيين فقط، وإنما يمتد الى الاكليروس والى مدارس الاحد ايضاً، وقد وجدت كل منها لنفسها منبراً في الصحف المصرية تعارض به البابا شنوده. في غضون ذلك، وقبل ان يلتئم المجمع المقدس مرتين في العام تحدث الصحافي ماجد عطية، وهو من رجال مدارس الاحد في مجلة "المصور" عن "أزمة البابا والرهبان والقساوسة والعلمانيين". وقال: "إن مجلة مدارس الاحد طالبت البابا بأن يعطي فرصة لاستئناف كل من صدرت ضدهم احكام دينية". وأضاف: "ان تلك المجلة واحدة من الازمات التي برزت منذ اشهر بسبب مقالات تنشرها وتنتقد الاوضاع". في جانب آخر تصدرت مجلة "روزاليوسف" الازمة، وكتبت مقالات تعبر عن كل الاتجاهات المضادة للبابا، منها مثلاً رأي القس المعزول اغاثون الذي قال: "إن سبب الخلاف لم يتجاوز الشكاوى الكيدية لكنني فوجئت بالبابا يطلب مني الخروج من الكنيسة في هدوء او يطلب الشرطة لاخراجي". ومنها ان "قانون محاكمة القساوسة غير دستوري". وان "البابا يواجه معارضة متزايدة داخل الكنيسة". و "ان هناك منشورات تتهم ابن شقيق البابا بالاستيلاء على اموال واراضي البطريركية والبابا يعينه سكرتيراً للمجلس الملي ومديراً لديوان البطريركية ومراجعاً لحسابات المعونات الاجنبية". البابا و "آداب الحديث" وانعكست حدة المعركة على ما ينشر من مواد صحافية في مجلة "الكرازة" التي تعتبر صوتاً رسمياً للبابا شنوده، فهو رئيس تحريرها، وهي تصدر عن البطريركية اسبوعياً. وفي احد الاعداد 16 ايلول/ سبتمبر الماضي كتب البابا مقالاً طويلاً عن "آداب الحديث والمناقشة" قال فيه: "إننا يجب ان نقتدي بالقديس انطونيوس الذي كان يخاطب الشياطين فيقول لهم "أيها الاقوياء، ماذا تريدون مني انا الضعيف، وأنا اضعف من ان اقاتل اصغركم". وبهذا اللطف كان يخزي كبرياءهم فينحلون كالدخان". في هذا المقال قال البابا شنوده ان هناك 24 قاعدة لآداب الحوار، بينها "اذا جلست وسط الشيوخ فلا تتكلم وان سئلت عن رأيك قل لا اعلم"، "كن متواضعاً"، "ان كنت في حوار وأخطأ واحد فلا تكشفه ولا تحركه ولا تتهكم عليه"، "في حديثك مع الناس لا تضغط عليهم في معرفة اسرارهم واسرار غيرهم"، و "لا تصدر احكاماً بسرعة بدون فحص". وبالمصادفة فإن العدد نفسه تضمن رداً غير مباشر على المعارضين وما يقولونه فهو في جانب الصراع مع بعض الرهبان. وجاء في المقال، وهو من دون توقيع، "إن الراهب الكثير الكلام يدل على انه فارغ من الداخل، ان الكلام يعطل الصلاة. كان الآباء الرهبان بصمتهم يتعلمون الكلام. انها خسارة كبيرة ان راهباً بدلاً من ان يقول كلمة منفعة يقول كلاماً تكون فيه عثرة لغيره". من جهة اخرى اتهمت المجلة بعض الكتاب الارثوذكس بأنهم اصيبوا باتجاه بروتستانتي - في اشارة الى العداء الذي تكنه الارثوذكسية للكنيسة الاميركية - قالت: "لا شك في ان الصحافيين والكتّاب الاقباط الذين يهاجمون رجال الكهنوت لهم اتجاه بروتستانتي، شعروا بذلك او لم يشعروا. ان الارثوذكسي الصميم الذي ينادي نيافة الاسقف او المطران بعبارة "سيدنا" ويسجد عند قدميه ويقبل يده ويطلب بركته ووعاءه ويرتل له الالحان في استقباله عندما يدخل الى الكنيسة، هذا لا يمكن ان يشهر بأحد أحبار الكنيسة او يهينه او يسيء الى سمعته. والارثوذكسي الصميم اذا شعر بأن احد رجال الكهنوت غير راض عليه لا يستطيع ان ينام ليلة براحة". واللافت في العدد نفسه ان هناك رداً على من يتهمون الكنيسة بالتبذير والآباء بالثراء. وكتبت تحت عنوان "خطية العربة المرسيدس": "مع الأسف انتقد بعض ابناء الكنيسة ان يركب الاسقف عربة مرسيدس، كما لو ان هذا نوع من الرفاهية، بينما يعرف الجميع ان العربة اصبحت جوهرية حتى بالنسبة الى القسيس اتقاء للزفة التي يمكن ان يزفه بها بعض الصبية في الشوارع، إن الاسقف يحتاج الى عربة قوية تحتمل اسفاره الكثيرة، فبدلاً من ان يشكر الاسقف على كثرة تعبه واسفاره يوجه اليه اللوم انه يركب عربة قوية، ثم ان كل الآباء الذين يركبون عربة مرسيدس جاءتهم العربة هدية من ابنائهم المحبين، اما المنتقدون فلا هم ساهموا في ثمن عربة لأحد آبائهم ولا هم سكتوا على تبرع يأتيه من غيرهم". لكن تيارات المعارضة واصلت انتقاد البابا، وقال احد ابرز العلمانيين الاقباط الدكتور يونان لبيب رزق: "ان البابا ظاهرة، ادت الى نموها امور عدة، مثل الدعوة الى تطبيق الشريعة، وانفجار احداث العنف على اساس ديني، وزيادة دعم اقباط المهجر". وظهرت ضد البابا كتب ومنشورات في الاسواق، منها على سبيل المثال كتيبات للقس ابراهيم عبد السيد "المعارضة من اجل الاصلاح الكنسي"، "المحاكمات الكنسية" أموال الكنيسة من اين والى اين؟"، ولعل ابرز النقاط التي تظهرها اتجاهات المعارضة ضد البابا تتركز في نقاط هي: أولاً: ان هناك ضرورة حتمية لمواجهة تغيرات العصر بنظام كنسي حديث. ثانياً: ان هناك حتمية لوضع ضوابط للايرادات والمصروفات في موازنة الكنيسة، تشمل وضع حدود فاصلة بين اموال الكنيسة والمال الخاص بالاسقف، وتحريم التعامل باسم الاسقف في المعاملات المالية. ثالثاً: إعادة تقويم اجراءات المحاكمات الكنسية، وتوفير ضمانات في تشكيل المحكمة وموضوعها والشهود عليها. وركز البابا شنوده في رده على تلك الهجمات بأن "هناك اتجاهات بروتستانتية"، وهو ما يتوافق مع الرأي الذي يرى ان الكنيسة الارثوذكسية تواجه حرباً من الكنيسة الاميركية. وركّز كذلك على ان كل المحاكمات كانت موضوعية، وانه لا يحارب شخصاً انما يحارب فكراً، وانه لو لم يحاكم المخطئين سيلام". وهناك من يرى ان هذه حرب مدبرة لأن البابا الذي منع الاقباط من الحج الى القدس والاماكن الاخرى في اسرائيل، لم يصدر بعد دعوة لشعبه كي يسافر. وبين هذه وتلك لم تزل الازمة مستمرة. وكان البابا طلب من الاقباط عدم السفر الى اسرائيل لزيارة الاماكن المقدسة سواء في بيت لحم او القدس كنوع من الموقف السياسي المساند للموقف العربي العام، في النزاع مع اسرائيل، وصرح اكثر من مرة بأن الأقباط من نسيج الوطن، ولن يحجوا تضامناً مع اخوانهم. ولم يتخل البابا والكنيسة بوجه عام عن الموقف نفسه بعد توقيع اتفاقيات السلام بين مصر واسرائيل في عام 1979، ولم يسجل له اي تصريح مناقض للموقف السابق، وان كان لوحظ ان عدداً قليلاً من الاقباط طلب السفر الى اسرائيل، ومضى في طريق الاجراءات القانونية العادية بعيداً عن الكنيسة، وفي المقابل لم يسجل احد اعتراض الكنيسة على هذا. وكانت اولى الاعلانات خاصة برحلة دينية لقضاء رأس السنة وعيد الميلاد في القدس. ونشر الاعلان في جريدة "وطني" الاسبوعية المقربة من البابا والمتحدثة باسم الاقباط في كل يوم احد، ولم يعترض البابا سواء في تلك الجريدة التي تنشر له مقالاً اسبوعياً دينياً يشغل صفحة كاملة، او في اي وسيلة اعلامية اخرى، لكنه قال لمجلة "المصور" في ذلك الوقت بعد ان لاحظت انخفاض الاقبال وبعد ان توقع يوسف بطرس غالي وزير الدولة للتعاون الدولي سفر 23 ألف قبطي الى القدس، بعد هذا قال البابا: "انا لم أصرح بعد بالحج الى القدس". وعلى رغم هذا، مضت الرحلات في طريقها، ودخلت في الطريق شركات عدة، منها على سبيل المثال شركة "نيل تورز" التي نشرت في 24 تشرين الثاني نوفمبر الماضي اعلاناً يقول "القدس 5 أيام، 4 ليال من 4، الى 8 كانون الثاني يناير شاملة الاقامة والزيارات والانتقالات". وفوق هذا نشر إعلان لشركة "رويال للسياحة" التي بدت وكأنها تؤكد موقفاً سابقاً: "شركة رويال للسياحة تعلن عن استمرار رحلاتها الى القدس في 22/12/1994 لمدة اسبوع لحضور الكريسماس، وفي 29/1/95 لمدة اسبوع في إجازة نصف السنة الدراسية". كمال زاخر: الحب والبنوة في مقابل الخضوع والأبوة يملك كمال زاخر موسى محلاً لبيع انواع من الادوات المنزلية في حي وكالة البلح في القاهرة. وهو حي تسيطر عليه رموز مسيحية اقتصادية كثيرة، سواء في مجال بيع قطع غيار السيارات، او في مجال الملابس. وعلى رغم انه يعتبر احد اعمدة مدارس الاحد، الا ان "الوسط" قابلته في مكان العمل. * هل تمثل بهذا الوضع طبقة اقتصادية معينة في معارضتك للبابا شنوده؟ - هذا ليس توجهاً طبقياً، وليس للازمة اي بُعد اقتصادي. انما هناك سبب خاص، وهو اننا جيل، وليس طبقة، اصطدم حلمنا بالواقع. جيل كان حلمه كبيراً، عاصر البابا كيراس السادس ثم تصور ان البابا شنوده سيحقق حلمه، باعتباره مثقفاً ويمثل نموذجاً اكثر انفتاحاً وتقديراً للحوار. ثم فوجئنا به يصادر الرأي الآخر، ويتهم الناس بأنهم ذوو اتجاهات بورتستانتية، ويقول ان الذين "يتهمون المجلس الاكليريكي بالظلم هم الظالمون". * ما هو الحلم الذي صدم بالواقع؟ - كنا نحلم بتحقيق رسالة الكنيسة بوصولها الى الحواري والازقة، بتنفيذ دعوة المسيح "ما جئت لأدعو ابراراً، بل خطاة للتوبة". * واين الازمة؟ - في انني يمكن ان اقبل من اي احد الغش والخداع، لكنني لا اقبله من الكنيسة. قد اتفهم ان يغش تاجر زبونه، فكل شيء يحدث في السوق، ولكن كيف اتفهم هذا من الكنيسة؟ * وكيف خُدعتم؟ - كنا نعيش آمالاً رومانسية في البابا. فهو اول من نادى بعدد من الآراء الخطيرة، والاكثر ثورية مما نطالب به نحن الآن. وعلى الذين لا يصدقون ان يرجعوا الى كتاباته بين عامي 48 و1950. * كيف تصاعدت حدة الموقف؟ - منذ حوكم كل من عماد نزيه ودانيال البراموسي، ثم ثروت فؤاد. وقتها شعرت بأننا في حاجة الى الحوار، باعتبار ان المسيح نفسه اسس فكرة الحوار. ان تلاميذه يسمون بالحواريين. والصلاة نوع من الحوار مع الله، وبالتالي فانني لكي اعطي الخضوع والبنوة، يجب ان امنح الحب والابوة. * من الذي اخرج الازمة الى الصحافة؟ - الكنيسة نفسها، هي التي بدأت باعلان مدفوع الأجر في "الاهرام" عن تجريد الراهب دانيال البراموسي. واثير السؤال: لماذا ينشر هذا الامر الذي لا يهم احداً خلاف الاقباط؟ واذا كان المطلوب هو اعلامهم، لماذا لم يوزع منشوراً على الكنائس وشرح الامر في عظات الجمعة والاحد؟ وكان السبب الثاني هو مجموعة الكتب الصغيرة التي ضمت حوارات اجراها صحافي مع البابا شنوده وكانت بما فيها غير مبررة على الاطلاق. هناك علامة استفهام كبيرة حول تلك الكتب. ثم هناك نقل جريدة "الشعب" - لسان حزب العمل - بعض المقالات الواردة في مجلس "مدارس الاحد". وهناك ايضاً السؤال الذي اثير بعد نشر الكنيسة اعلاناً مدفوع الاجر عن نتائج رحلة البابا قبل الاخيرة في المهجر. ان من الطبيعي ان الذين التقاهم البابا فرحوا به، فلماذا الاعلان عن هذا؟ انه أمر ضد العرف الكنسي. * لكن البابا اتهمكم اتهامات خطيرة تصل الى حد العمل لجهات اخرى؟ - الموضوع ليس شخصياً، وليس هناك هجوم على البابا نفسه، ونحن لا نصفي حساباً، ولا نعمل لحساب اية جهة. والدليل انه في ازمة مجلة "مدارس الاحد" تدخل الدكتور رفعت السعيد الامين العام لحزب التجمع، واستمرت محاولاته التوسط ستة اشهر. * أليس غريباً ان يتدخل شخص مسلم في شأن كنسي؟ - لا، لكن المبادرة جاءت من رجل يعرفه الجانبان، ويقبلان به. وكانت النتيجة ان طلب البابا منا الاعتذار عما كتبناه، ففعلنا. ورد البابا بأن هذا غير كاف، وبالتالي رفض ان يجلس معنا. وفي واقع الامر نحن لم نكن ندافع عن اشخاص ولكن عن قوانين، ونطالب بأن نرد الخاطئ عن طريق ضلاله، لا ان نبعده عن الكنيسة. * هل تدخل الدولة؟ - لا. * هل استفادت؟ - لا أتخيل هذا. استقرار الكنيسة جزء من الدولة. وأتصور ان ما حدث هو عبء عليها. * هل كانت السبب؟ - الضغوط الحالية في المجتمع يعاني منها الجميع، المسلم والمسيحي. * ما هي مطالبكم الآن لوضع حد لكل ذلك؟ - لا نعتقد بأن الاصلاح سيتم من خارج الكنيسة، لأن هذا عمل كنسي. ومن دون الانبا شنوده لن يحدث اصلاح، فالمقدرات في يده. وغيابه لن يحل المشاكل. وبعض الناس يظن هذا عن خطأ في التصور. فالمشكلة في قانون الكنيسة. ونحن هدفنا الحل. وأتصور ان الطريق هو ان نشكل لجنة لتقويم كل القوانين، تضم رجال قانون وعلمانيين واكليروساً، وتراعي في عملها تطور الحياة، بعيداً عن الطقس والعقيدة والمسلمات. واجمالاً، نحن نطلب اصلاح الكنيسة ومؤسساتها الحيوية، من الاديرة، الى وضع ضوابط للقبول في الرهبنة، وعلاقة الاديرة بالخدمة خارجها، وتقويم معاهد الدراسات القبطية، وهيكل الجسم الاداري للكنيسة وزيادة مشاركة الشعب العلماني في مناقشة امور الكنيسة. اذ كيف يكون من حق مواطن ان ينتخب رئيس الجمهورية وعضو مجلس الشعب ولا يكون من حقه ان ينتخب عضو المجلس الملي؟ ميلاد حنا: الشعب في جيب البابا والبابا في جيب الدولة! يتمع الدكتور ميلاد حنا سبعون عاماً بسمات خاصة في معارضته البابا شنوده ليس لأنه من اهم رموز المجتمع المدني - القبطي والمسلم، وليس لأنه قريب من دوائر الدولة والمثقفين، وليس لأن لديه قنوات مع الجميع حتى التيار الاسلامي، ولكن لعوامل شخصية كانت تربطه بالبابا، نهاية بسعيه لدى الدولة لاعادة البابا من الدير الذي أبعد اليه قبل عام 1980، وبداية من كونهما ابناء حي واحد شبرا، ومن كون ميلاد حنا كان يسبق البابا شنوده - نظير جيد وقتئذ - في مدارس الاحد. وأجرت "الوسط" معه الحوار الآتي: * ما هو خلافك مع البابا شنوده على رغم العلاقة القديمة بينكما؟ - لقد مررت بأربع مراحل في خلال حياتي العامة. اولاً نشأت دينياً وكنت شماساً في كنيسة العذراء بشبرا وكان جدي رئيس لجنة الكنيسة ثم اصبحت مسؤولاً عن مدارس الاحد في الجزء الغربي من جزيرة بدران. بينما نظير جيد - شنوده الثالث في ما بعد - مسؤولاً عن الجزء الشرقي. ومن هنا نشأت علاقة خاصة ومتميزة بيني وبينه. لكنني بعد ذلك تفرغت لمستقبلي العلمي بينما هو انخرط في الكهنوت، ودخلت بعد ذلك المرحلة الثالثة الطويلة - نحو 30 عاماً - مرحلة العلم والعلمانية والاشتراكية. ثم المرحلة الاخيرة بعدما اعتقلني السادات عام 1980، وصرت في موقف متعاطف مع قضايا الاقباط. وخلال تلك الفترة وجدت ان البابا يرغب في الانفراد وحده بالمكانة دون اي زعيم آخر سواء بين المدنيين او الاكليروس على حد سواء. وأبدى هذا لي بوضوح، وهذا ما لا يعجبني ولا يتفق مع تركيبتي الشخصية، فآثرت الابتعاد عنه، وقررت ان اكون شخصية مصرية عامة. * هذا يعني مجدداً ان الازمة في شخصية البابا؟ - بالطبع فهو يرفض ان يتحدث اي شخص آخر عن قضايا الاقباط. ويعتبر هذا خروجاً عن طوع الكنيسة بالمعنى الديني. انه لا يملك روحاً رياضية في الصراع. كنت اتمنى ان يتعاون معي ويقبلني كشخصية عامة، لكنه هو الذي فرض الواقع الحالي. وجمهور الاقباط في مصر والمهجر ليسوا سعداء بذلك. * لو كنت بجانبه ماذا كنت ستفعل؟ - كنت سأكون سنداً له، معاوناً، أحوّل الازمة الطائفية الى علاقات وطنية، احول ثمرات الليمون المتناثرة الى "ليموناده" فذلك هو شعار كل حياتي وما أقوله في كل كتاباتي. * ما هو رأيك في التحول الدرامي للأزمة الاخيرة وانخراط البابا في معركة مع الصحف، احتاج فيها الى تأييد صحافيين؟ - حادث الخلاف الذي وقع بين البابا والراهب اغاثون المشرف على كنيسة ابو سيفين في مصر القديمة لافت للانظار. لأن البابا اعتقد بأن الراهب خرج عن طاعته بتطوير مباني الكنيسة من دون إذن صريح من البطريرك. انها ازمة داخلية وبسيطة ولكنها جاءت وكأنها زلزال هزّ الكنيسة واثبت انها واجهزتها الداخلية لم تعد كافية او قادرة على مواجهة متطلبات العصر والانشطة المتزايدة داخل مصر وخارجها. * ها هو اذن سبب آخر للأزمة، بخلاف الوضع الشخصي للبابا. فهل يقتصر الامر على ذلك ام ان هناك عوامل اضافية ادت الى الزلزال الذي هز الكنيسة من الداخل؟ - طبعاً هناك امور اخرى، مشاكل حقيقية: لا توجد قنوات ديموقراطية داخل البنية التنظيمية للكنيسة. وما ساعد على تفاقم المشكلة ان هناك اوضاعاً اقتصادية وسياسية ودينية تغيرت في المجتمع والدولة. لقد هاجر آلاف الاقباط الى خارج مصر. وتوسع نشاط الكنائس القبطية في المهجر من كندا وأميركا الى استراليا واريتريا وكينيا وجنوب افريقيا. ولهذه المجموعات تطلعات ديموقراطية. وفي حين صار للكنيسة تنظيم عالمي. لم يزل التنظيم الداخلي للكنيسة المركزية كما هو. كل شيء يجب ان يمر من خلال البابا. وهكذا هناك تناقض بين الداخل المحدود والخارج المتفتح. فضلاً عن ذلك هناك شرخ بين اجيال الكنيسة، اذ ابعد المطارنة القدامى الى ابرشيات وحل مكانهم اساقفة شباب. وزاد عدد اعضاء المجمع المقدس الى 60 بدلاً من 25، ومعظم اعضائه من ابناء البابا شنوده، فغضب "الحرس القديم" وخلق هذا فجوة بين مدارس فكرية متباينة حول طريقة ادارة الكنيسة وعلاقتها مع الدولة. * ما هو موقف الدولة؟ هل ساهمت في الازمة؟ - من مصلحة الدولة ان تبقى الاوضاع مستقرة داخل الكنيسة، لأن استقرار الكنيسة من استقرار الدولة. لكن هناك اوضاعاً كثيرة ساهمت فيها الدولة ودفعت بازاحة الاقباط من الحياة العامة. وأدى تركز السلطة في يد البابا، الى ان الدولة وجدت فيه ملاذاً. فمن الاسهل لها ان تتعامل مع جهة واحدة. * وما هو رأيك في طريقة تعامل البابا مع الدولة؟ - البابا قضى اربع سنوات في الدير، بعيداً عن الحياة الكنسية. وقد أثّرت هذه السنوات في توجهه العام وفي طريقة التعامل مع الدولة، خصوصاً وانه ادرك ان الصدام معها أمر له حدود. وقد لاحظ كثيرون انه غيّر موقفه منها حتى هادنها، ولخص بعضهم ذلك بأن "الشعب في جيب البابا، والبابا في جيب الدولة". * كيف ستمر الازمة؟ - البابا ليس شخصية مرنة يمكن ان تستفيد وتحلل مبررات الوضع الحالي وأسبابه. لن يتغير شيء. وهناك ازمات مقبلة مؤكدة ولو ان الهياكل التنظيمية والادارية بقيت كما هي من دون ان تواجه متطلبات العصر. والذي احاول الآن مع آخرين هو دفع البابا الى اجراء عملية إصلاح كنسي. وهي مسألة ليست سهلة. القس ابراهيم عبد السيد: المعارضة بين المطارنة القدامى والأساقفة الذين رسمهم البابا شنوده يمثل القس ابراهيم عبد السيد احد اتجاهات المعارضة للبابا شنوده الثالث بين رجال الكهنوت. وهو معروف بذلك سواء في الكنيسة التي يرعاها في المعادي، او حيث يقيم في حي شبرا، او ي مقالاته التي تنشرها جريدة "الشعب" الصادرة عن حزب العمل، وكتبه الكثيرة. وهنا نص حواره مع "الوسط": * هل تعتقد بأن الكنيسة تمر الآن في أزمة؟ - طبعاً، الازمة موجودة لانعدام الديموقراطية والحوار، لأن الكنيسة والكهنوت لا تعنيان السيادة والاستعباد، ولأن الرئاسة ابوة. ولكن ان تنقلب الى استرقاق وكبت فإن هذا غير صحيح. فالانجيل والقوانين الكنسية المستقرة وما درج عليه الشعب ضد هذا تماماً. * ولماذا وصلت الحال الى تلك الدرجة ولم يحدث الانفجار قبل الآن؟ - هناك عنصران، أولهما: ان من طبيعة الشعب المصري الرضا بالأمر الواقع. وهو غالباً ما يحتمل. طويل الانتظار. واما العنصر الثاني فيعود الى الطبيعة الشخصية لبابا الاسكندرية فهو شخصية "كاريزمية" ربما ضاقت بالرأي الآخر، لا يسمح لأي اسماء اخرى بأن تلمع، والدليل ان مجلة "الكرازة" التي من المفروض ان تعبر عن نشاط الكنيسة تحولت الى التعبير عن نشاطه هو. * ألم تظهر مثل تلك الحالة من قبل؟ - سبق البابا شنوده 116 بابا آخر، بداية من مرقس الرسول حتى كيرلس السادس. والغالبية العظمى كانت لها رؤية ابوية للامور، فيما عدا قلة كانت لديها اخطاء كنسية. وباستثناء هذا كانت الاوضاع تمضي بسلاسة، والمشكلة الحالية ان البابا لا يستمع الى اي آراء أخرى. واللافت ان علاقته لم تكن جيدة مع البابا كيرلس الذي رسمه اسقفاً. ولا تزال القطيعة بينه وبين الأب متى المسكين الذي رسمه راهباً مستمرة. * هل هي ازمة مرتبطة بشخصية البابا شنوده نفسه؟ - هي ازمة شخص، وهي كذلك ازمة عدم وجود اصوات جريئة. * لماذا انفجرت الاوضاع الآن، ولماذا بدأ بعض الاباء بالاعتراض؟ - لم يكن احد يعبر عن رأيه خوفاً من البطش، وخوفاً من سلطات الكهنوت، وربما كانت للخوف اسباب لها علاقة بالمصلحة. ويذكرنا هذا بما كان يحدث في الكنيسة الكاثوليكية، عندما زادت مظالم البابا، وزادت محاكم التفتيش فانتهى الامر الى ثورة. وأصبح هناك قسم خاضع للكنيسة الكاثوليكية، وقسم آخر للكنيسة البروتستانتية. ان الظلم لا يقيم ثورات، لكن الشعور به هو الذي يؤدي الى ذلك. * وهل تتحدث اذن عن ثورة من نوع ما في الافق؟ تعني ان تغييراً في المسيحية الارثوذكسية في مصر سيحدث؟ - يقينا لا، لأن العقيدة ثابتة وبخير، لكن ما اقوله ان الشعور بالظلم يعلو صوته. والدليل على ذلك ظهور جبهات المعارضة سواء في مصر داخلياً، او بين اقباط المهجر في الخارج. والذي اتوقعه زيادة مقاومة الممارسات الادارية الخاطئة. * ما هي ملامح ذلك الآن؟ - كثرة المعارضين بين المطارنة القدامى، وان كانوا يستحون المجاهرة بآرائهم. بل ان هناك معارضة بين الاساقفة الجدد الذين رسمهم البابا شنوده بنفسه. هناك شباب كهنوتي صغير في السن بينهم من تمرد. وفضلاً عن ذلك توجد معارضة بين العلمانيين. ولا تغفل ان هناك قطاعاً كبيراً ترك الكنيسة القبطية الى الانجيلية. انك كذلك تلحظ زيادة الاسماء المعارضة من الصحافي ماجد عطية الى كمال زاخر وثروت فؤاد وجورج بباوي وعماد نزيه... وغيرهم. * لكن الكنيسة والبابا يتهمون المعارضة بأنها تتبنى اتجاهات بروتستانتية؟ - "مش معقول" والدليل اننا ما زلنا متمسكين بالعقيدة على رغم اننا معارضون للبابا. ومعارضة الرئاسة الدينية لا تعني الانقلاب على العقيدة، وليس صحيحاً ان نوحد في اختلافنا مع البابا بينه وبين الكنيسة. هناك باباوات اخطأوا وكان هذا على حسابهم فقط وليس على حساب الكنيسة. * ما هو سبب الخلاف الحقيقي بينك وبين البابا؟ - كنت من اوائل القساوسة الذين اعترضوا على ما وجدته من ظلم، طلبت لقاءه لكي اصفي ما في داخلي، كنت اوجه النقد لأنني احبه، اريده ان يسمع عن المحاكمات الظالمة للكهنة والرهبان والممارسات الخاطئة في الادارة. لكنه رفض المقابلة، وفوجئت بأنني في اجازة مفتوحة غير مبررة لم اواجه بشاك او شكوى، قلت للانبا بيشوي، الرجل الثاني في البطريركية، واجهني بدليل اتهام واحد. ولم يحدث. ولست اعرف اي دين هذا الذي يمنع الناس من دخول الكنائس حتى لو أخطأوا! من حقهم ان يصلوا لا ان يأخذوا اجازة! * ما هو الحل؟ هل هناك طريقة ما، مثلاً، لتنحية البابا؟ - هناك نصوص في لائحة 57 تشرح هذا. لكن هنا ليس هو الحل، وانما ان ينصت البابا شنوده للآخرين، وان يدرك مدى خطورة الموقف. وعموماً فإن التغيير لن يحدث إلا اذا ارتفعت فترة تأليه الشخص، ولن يحدث تغيير في مدة وجيزة. * هل سيبتعد المعارضون عن الكنيسة؟ - نحن نحب الكنيسة بغض النظر عمن فيها.