مساء السبت في 11 أيلول سبتمبر ختم مهرجان البندقية في ايطاليا دورته الخمسين في حفلة صاخبة أعلن خلالها عن فوز الفرنسية جولييت بينوش بجائزة أفضل ممثلة عن فيلم "أزرق" الذي فاز بجائزة الأسد الذهبي مناصفة مع فيلم "مقطوعات قصيرة" ل "الأميركي المتمرد" روبرت التمان. وسط تصفيق الحضور وتكريم كلوديا كاردينالي ورومان بولانسكي وروبرت دي نيرو عن مجمل اعمالهم، كان لا بد لمهرجان البندقية ان يطرح على نفسه اسئلة تتعلق بتاريخه وحاضره، وأن يتساءل أصحابه عما اذا كان اسلوب التسويات الجديد الذي يتبعه، مناسباً له أم لا. هنا إطلالة على هذا المهرجان. بين حكاية سيارة "المرسيدس" التي قدمتها الشركة الهوليوودية لتوم كروز ولمخرج فيلمه الأخير، والاشاعات التي راحت تتكاثر من حول ما اذا كانت مادونا ستحضر المهرجان، وتمردية آبيل فيرارا التي صارت ذات طابع دعائي بحت، والضجيج الصاخب من حول "جوراسيك بارك" للأميركي ستيفن سبيلبرغ الذي دعي على أي حال لترؤس المؤتمر العالمي الأول للسينمائيين، بين كل هذا وذاك انطبعت أيام مهرجان البندقية لهذا العام بطابع أميركي بحت، كما كان حال مهرجاني "كان" الأخيرين. ولكن اذا كان أصحاب "كان" رغبوا حقا في ذلك، وسعوا على ألف قدم وساق لينطبع مهرجانهم بطابع السينما الهوليوودية، فإن أصحاب مهرجان البندقية يقسمون بأغلظ الايمان ان أمركة مهرجانهم لم تكن مقصودة، بل جاء الأمر مصادفة، ثم يشيرون من طرف خفي الى تضافر جهود وزيري الثقافة الفرنسية، السابق جاك لانغ والحالي جاك توبون من أجل مقاتلة سينما العم سام خلال وجودهما معاً في المهرجان، ليقولوا ان هذه السينما لم تسلم من الأذى على أي حال، وان مهرجان البندقية كان - على عهده - مهرجان سينما المؤلفين المتناقضة كل التناقض مع ما ينتج في هوليوود. ومع هذا تبقى الحقيقة ساطعة: 15 من أصل خمسين عرضاً رئيسياً في المهرجان كانت لأفلام أميركية. والأميركيون ملأوا قاعات الليدو وشوارع المدينة ومراكبها. واخبار انتاجاتهم الجديدة غطت على كل الأخبار، بما في ذلك خبر تمكن الشاعر وكاتب السيناريو عبدالله هدران من الحضور والمشاركة في أعمال لجنة التحكيم رغم احتراق بلده البوسنة. كانت طائرة عسكرية ألمانية هي التي أتت بهدران كتب سيناريوهات أول أفلام أميركيو ستاريكا الذي لم يكف منذ وصوله عن اعلان رغبته بالعودة الى بلده المحترق فوراً. فسيفساء لوس انجليس شن كايغي، المخرج الصيني الكبير وصاحب "وداعاً يا خليلتي" وعضو لجنة التحكيم في مهرجان البندقية كان بدوره من ضحايا الهيمنة الاعلامية الأميركية على المهرجان بحيث مرت مرور الكرام كل اخبار الضجة المثارة حول منع فيلمه، ثم السماح به، ثم منعه، ثم السماح به في بكين. من هنا مر مهرجان البندقية بهدوء شديد، ولم يعرف أية مفاجآت حقيقية. المفاجأة الوحيدة كانت في الختام، يوم الاعلان عن الجوائز: كانت المفاجأة عدم وجود أية مفاجأة على الاطلاق. فالجوائز وزعت كما كان متوقعاً، ولم يتمكن أي فيلم من أن يكون "فلتة الشوط": الأميركيون التقليديون لم يفوزوا بأي جائزة رغم حضورهم الكثيف. الأميركي الوحيد الفائز بالأسد الذهبي مناصفة كان الأميركي الأكثر تمرداً: روبرت آلتمان. وشاركه في الفوز البولوني المقيم في فرنسا والذي يحقق أفلامه بلغة فرنسا لا يفقه منها حرفاً: كريستوف كيزلوفسكي. اذن، وكما كان الجميع يتوقع منذ أيام المهرجان الأولى، تكررت في "البندقية" اللعبة نفسها التي عرفها مهرجان "كان" الأخير: قسمت الجائزة نصفين. وكان الفوز من نصيب نوع جديد من السينما، نوع يمكن أن نطلق عليه اسم "سينما الوسط" أي السينما التي تحاول أن تنطلق من مقاييس طليعية وأشكال سينمائية غير تقليدية تماماً لتقدم موضوعات تعجب جمهوراً عريضاً. انها الوصفة السحرية الجديدة التي طبعت فيلمي "كان" الأخير "درس البيانو" و"وداعاً يا خليلتي" وتطبع اليوم فيلمي التمان "مقطوعات قصيرة" وكيزلوفسكي "ثلاثة ألوان: أزرق" الفائزين مناصفة بالأسد الذهبي. في "مقطوعات قصيرة" المأخوذ عن نصوص عدة للكاتب الأميركي الطليعي ريموند كارفر، يحاول روبرت التمان ان يرسم صورة فسيفسائية لبعض شرائح المجتمع في لوس انجليس، عبر تغلغله في تفاصيل الحياة اليومية لعدد من العائلات التي تبدو للوهلة الأولى وكأنها عصية على اللقاء، لكن كاميرا روبرت التمان تعرف كيف تجمع بينها وكيف تجعلها تتصادم وتلتقي وتتنافر وتنجذب الى بعضها البعض، ومن خلال ذلك كله يبث التمان نظرته الساخرة والمريرة على المجتمع الأميركي المعاصر، النظرة التي يستكمل بها نظرات سابقة كان القاها على هذا المجتمع نفسه في أفلام دخلت تاريخ السينما من باب عريض، من "ناشفيل" الى "العرس" ومن "ثلاث نساء" الى "خماسية" الى "اللاعب" الذي أعلن به عودته الى هوليوود قبل عامين ففاز بجائزة أساسية في مهرجان "كان" يومذاك. التمان هو الأميركي الوحيد الذي حقق فوزا ذا معنى في "البندقية" ومع هذا كان هناك سبيلبرغ وسكورسيزي الذي لم يلفت نظر أحد بفيلمه الجديد "عصر البراءة" المأخوذ عن رواية معروفة لادين دارتون ترسم صورة للمجتمع النيويوركي عند بدايات هذا القرن، وكان هناك آبيل فيرارا بفيلمه الجديد "عيون الأفعى" الذي تمكن - وللمرة الأولى حقاً - من أن يكشف عن مواهب تمثيلية لدى مادونا. وكان هناك أيضاً فيلم غاس فان سانت الجديد "حتى راعيات البقر يصبن بالشجن" من تمثيل اوما ثورمان وكينو ريفز، و"بوكسنغ هيلينا" لجنيفر لينش، ثم خاصة "الهارب" لاندرو دايفيز من تمثيل هاريسون نورد، اضافة الى أفلام مثل "رئيس ليوم واحد" و"تينا" عن حياة المغنية الزنجية الشهيرة تينا تيرنر و"كاليفورنيا"... كل هذا الى جانب فيلم وودي الن الجديد "جريمة مانهاتن الغامضة" خارج المسابقة وروبرت دي نيرو الذي أتى البندقية هذه المرة مخرجاً لفيلمه الأول "حكاية برونكس" فلم ينل ما كان يتوخاه من نجاح، لكنه مقابل هذا كان واحداً من ثلاثة فنانين كبار احتفى بهم مهرجان البندقية فمنح كل واحد منهم جائزة كبرى عن مجمل عمله: كان تكريما صفق له الكثيرون وطال، الى جانب دي نيرو، كلا من كلوديا كاردينالي ورومان بولانسكي. أزرق باللون البطيء كان التصفيق كبيرا حين أعلن في الحفلة الختامية عن تكريم هؤلاء الثلاثة وعرضت مقاطع من أبرز أفلام كل واحد منهم. لكن التصفيق الأهم كان من نصيب مارتشيلو ماستروياني مع أن الجائزة التي منحها خلال تلك الحفلة كانت جائزة.... أفضل دور ثانوي، عن الدور الذي لعبه في فيلم الفرنسي برتران بلييه الأخير "1، 2، 3، الشمس" وهو الفيلم نفسه الذي فاز بجائزة أفضل موسيقى التي نالها المغني والموسيقي الجزائري الشاب خالد الذي حين اعتلى المنصة لينال جائزته أعلن انه يهديها الى وطنه الأم الجزائر، والبلد الذي استقبله: فرنسا، كما الى صانعي السلام في الشرق الأوسط، ولقد نالت كلماته تلك تصفيقاً صاخباً. التصفيق كان ايضاً من نصيب الممثلة الفرنسية جولييت بينوش التي كانت من أبرز الغائبين/ الحاضرين خلال المهرجان. فجولييت التي غابت بسبب وجودها في المستشفى حين وضعت طفلها الأول رافائيل في اليوم نفسه الذي أعلن فيه فوزها بجائزة التمثيل، لفتت الأنظار منذ البداية بأدائها الرائع في فيلم كريستوف كيزلوفسكي "ثلاثة ألوان: أزرق"، حيث بدا من الواضح أنها تكاد تحمل وحدها كل عبء هذا الفيلم الثقيل والبارد الذي فاز - كما قلنا - بجائزة الأسد الذهبي مناصفة مع فيلم التمان. وكان من الواضح انه لولا وجود جولييت بينوش في هذا الفيلم لما كان من شأنه أن يحقق ما حققه من نجاح. فالفيلم بطيء وممل، وهو واحد من تلك الأفلام "الذهنية" التي لا تحمل للمتفرج أية مفاجأة، حيث يبدو كل شيء محسوباً سلفاً ومتوقعاً منذ البداية: فجوليا، تفقد زوجها وابنتها في حادث سيارة، في وقت كان الزوج منكباً فيه على كتابة موسيقى نشيد أوروبا الجديدة، فتغرق في حزن وفراغ وتحاول الانتحار مرات عديدة، لكنها بالتدريج تندمج في الفراغ الذي انخلق من حولها وتشعر أن الحادثة قد حررتها من كل قيد، وتبدأ باستعادة الرغبة في الحياة، وينتهي بها الأمر الى الوقوع في حب مساعد زوجها وانجاز موسيقى النشيد العتيد. فيلم كيزلوفسكي الجديد هذا يمكنه أن يحمل العديد من التفسيرات، ويمكنه ألا يفسر الا بظاهره، لكنه في نهاية الأمر يمكنه أن يفهم على أنه بحث عن الحرية ورسم الطريق للوصول اليها، وربما عبر الحب والفن. "ثلاثة ألوان: أزرق" هو - على أي حال - الجزء الأول من ثلاثية يحمل جزآها الأخيران اسم اللونين "الأبيض" و"الأحمر"، بمعنى ان الأول عن الحرية أما الثاني والثالث فعن المساواة والاخاء شعار الثورة الفرنسية!. فيلم كيزلوفسكي من دون حيوية، اللهم إلا اذا نظرنا بعين الاعتبار الى الحيوية الخاصة التي اسبغتها جولييت بينوش عليه. الطبيعة حين تنتقم الحيوية الحقيقية كان يتعين العثور عليها في مكان آخر، في الفيلم الاوسترالي الذي فاز بجائزة النقاد الخاصة، وكان واحداً من أجمل الأفلام التي عرضت في المهرجان، عنوان الفيلم "باد بوي بابي" وهو من اخراج رولف دي هير اوسترالي من أصل هولندي والطريف ان كلفته لم تزد على 750 ألف دولار قارنوا مع ال 75 مليون دولار التي انفقت، مثلاً، على "جوراسيك بارك"!. فيلم دي هير هذا يمكن اعتباره نشيداً للهامشيين عبر موضوعه الذي يتحدث عن قاتل بريء يضطر الى قتل أمه وأبيه وقطتهما، بعد ان تحتجزه أمه سنوات طويلة ثم يهرب من القبو الذي كان يحتجز فيه ليكتشف العالم: كل ما في هذا العالم، التفاصيل الصغيرة، البؤس والجمال، الخير والشر، كل هذا عبر ساعتين يحبس خلالهما المتفرج أنفاسه وهو يتابع مغامرات ذلك البطل - المضاد، الذي وفق أحد النقاد الفرنسيين حين وصفه بأنه مزيج من "كانديد" فولتير و"ابله" دستويفسكي يتماشى جيداً مع عصر الجريمة والهامشيين. الحيوية، كذلك، في السينما الايطالية التي قدمت خلال المهرجان بعض ابرز ما انتجته اخيراً، لتكشف ان السينما الايطالية في أزمة: ازمة تعبيرية وازمة انتاجية ايضاً، رغم ان القليل الجيد الذي ينتج لا يزال قادراً على ان يفاجئ، من ميكائيلي بلا شيديو الذي قدم فيلماً عن حياة ونضال المحقق فالكوني الذي قتلته المافيا قبل سنتين، الى ارمانو أولمي، الذي اقتبس رواية معروفة للكاتب الايطالي دينو بوزاتي عنوانها "سر الكآبة العتيقة" ليحولها الى فيلم مناصر للبيئة يدق جرس الانذار ضد الانسان الذي يعتدي على الطبيعة. مرة أخرى في هذا الفيلم يعود اورمانو اولمي الى استكشاف عناصر الطبيعة وصراعها ضد همجية الانسان معتمداً هذه المرة على تلك الرياح العاصفة التي تتصدى لمشاريع قهر الطبيعة، وتدفع الاشجار الى الغناء في نشيد عجيب مدهش مليء بالشاعرية. فيلم اولمي هذا لم يفز بأية جائزة. اما السينما الايطالية نفسها فكان لها بين جوائز المهرجان جائزتان: جائزة افضل ممثل لغابريزيو بنتيغوليو عن فيلم "روح منقسمة قسمين" وجائزة افضل ممثلة ثانوية لآنا بونايوكو عن فيلم "أين انتم؟ انا هنا". فإذا اضفنا الى هذا الجائزة التي منحت لمارتشيلو ماستروياني ولو عن فيلم فرنسي، هو الذي حضر كذلك في فيلم ارجنتيني تولى بطولته ومر بدوره مرور الكرام وجائزة التكريم التي اعطيت لكلوديا كاردينالي، يمكننا ان نقول بأن ايطاليا فازت بحصة كبيرة ولكن عن طريق ممثليها. آسيا... مرة اخرى اذا كان فيلم "مقطوعات قصيرة" لروبرت آلتمان فاز مناصفة، بجائزة الاسد الذهبي الرئيسية، فإنها لم تكن الجائزة الوحيدة التي فاز بها، اذ اعطي ايضاً جائزة خاصة ابتدعت من اجلها هي جائزة كل الممثلين. حيث ان مجموع الممثلين في هذا الفيلم الفذ لفتوا الانظار بادائهم الشيطاني تحت ادارة مخرج عرف دائماً كيف يطلع بأفضل ما لدى ممثليه. وفاز الفيلم نفسه كذلك بجائزة الاتحاد الدولي للصحافة السينمائية، مشاركة مع الفيلم الاوسترالي "باد بوي بابي"، ومع فيلم فرنسي عرض ضمن اطار اسبوع النقاد الدولي عنوانه "ابن الحوت" لآنياس ميرليه. وفيما فاز الفيلم الطاجكستاني "كوش باكوش" من اخراج باختيار خودوشنازاروف بجائزة الاسد الفضي، نال الفيلم الصيني "زا زوي زي" الفم الكبير من اخراج الصينية ليو مياو مياو بجائزة رئيس مجلس الشيوخ الخاصة. وعلى هذا النحو تكون آسيا حضرت بقوة، مرة أخرى، وإن كانت عجزت عن تحقيق النجاح الذي كان سبق لها ان حققته في مهرجان "كان" الاخير. هنا كان الحضور الآسيوي اقل والجوائز الممنوحة لآسيا اقل شأناً. فهل يمكن ان نجد في هذا شيئاً من التناقض؟ أجل اذا تذكرنا ان مهرجان "البندقية" - لا مهرجان "كان" - هو المكان الذي تؤكد حضورها فيه، ومنذ عقود طويلة من السنين، سينمات غريبة تقف خارج المركزيتين الاوروبية الغربية والاميركية. البندقية كانت المكان الذي سمع العالم فيه للمرة الاولى بأسماء كوروساوا وميزوغوشي، وساتياجيت راي وحتى امير كوستاريكا، وبعض أشهر اسماء مخرجي اوروبا الشمالية وبلدان الشرق الاوروبي، إضافة الى ابرز مخرجي الصين بفروعها الثلاثة: الصين الشعبية وتايوان وهونغ كونغ من شن كايفي الى هشيو هشا هشن الى جنغ بيماو. فكيف حدث خلال السنوات الاخيرة ان بدأت هذه الاسماء تلمع في "كان" وبدأ مهرجان "البندقية" يسير في مسارات اكثر تقليدية او على الاقل، أقل نزوعاً نحو الاكتشاف؟ من الصعب العثور على جواب لهذا السؤال. كل ما في الامر أن المرء يلاحظ، بحيادية تامة، أن مهرجان البندقية، الذي احتفل هذا العام بدورته الخمسين، ما يجعله واحداً من أقدم المهرجانات السينمائية في العالم، بدأ يتجه اكثر وأكثر لايجاد نوع من المصالحة بين سينما المؤلف وسينما الجمهور، هو الذي اعتاد دائماً أن يقف في صف سينما المؤلف ودائماً على حساب رغبات الجمهور. نقول هذا دون ان ننسى أنه، في زحام عروض المهرجان، كانت سينما المؤلف على أي حال حاضرة، وخاصته - مثلاً - عن طريق جان - لوك غودار الذي عرض، دون أي توفيق على أي حال، فيلمه الجديد "مؤسف بالنسبة اليّ"، ضمن اطار المسابقة لكن الفيلم لم يلفت انظار أحد حقاً! وكانت سينما المؤلف حاضرة كذلك عبر فيلم بالاسود والابيض من هنا، وفيلم افريقي من هناك، وفيلم عن الجزائر من هنالك. لكنها حضرت أيضاً وخاصة عبر فيلم "أسود وأزرق" لروبرت التمان نفسه كان حققه للتلفزة الاميركية وصور فيه عرضا لفرقة من الراقصين والمغنيين السود في أحد مسارح برودواي. للتلفزة كذلك - ولكن الفرنسية هذه المرة - حقق الفرنسي رومان غوبيل فيلم مؤلف آخر لفت الانظار بدوره وعنوانه "رسالة الى ل...."، وهو عبارة عن شريط جريء صوره المخرج في موسكو وغزة وساراييفو حيث قدم صوراً تختلف عما اعتاد الاعلام الرسمي تقديمه، كل هذا لكي يقول لنا ان وسائل الاعلام الحالية حافلة بالاكاذيب وانها جزء من لعبة السلطة الجديدة. مادونا و... مرسيدس اذن، في مهرجان البندقية، المهرجان الذي قدم لنا طوال خمسين عاماً بعض اروع الاكتشافات في تاريخ السينما، غابت سينما المؤلف غياباً شبه كلي، ليحضر بدلاً منها تلفزيون المؤلف. وتلك مفارقة اخرى يجب ان تُضم الى مفارقات الواقع الراهن لهذا النوع من المهرجانات الذي يبدو، عاماً بعد عام، وكأنه لم يعد لديه جديد يقوله... لذلك يكتفي بأن يكون في نهاية الامر عبارة عن مجموعة من التسويات: تسوية بين بقية ما تبقى من سينما المؤلفين، وبين السينما التي تستهوي العامة، تسوية بين حضور طاغ للسينما الاميركية في كافة العروض، وبين غيابها شبه التام في الجوائز، تسوية بين الرغبة في اكتشاف الجديد سينمات المناطق المجهولة وضرورة ترسيخ القديم، تسوية بين الواقع السيىء للسينما الايطالية نفسها، وبين ضرورة ان تكون لهذه السينما حصتها في الجوائز... الى آخر ما هنالك من تسويات تجعل من الواضح ان عمل لجان التحكيم في نهاية الامر يتعين ان يكون عملاً بهلوانياً. شيء مثل هذا لاحظناه العامين الفائتين في مهرجان "كان"... وشيء مثل هذا لاحظناه في مهرجان برلين الاخير... فإذا صارت هذه المهرجانات الكبرى تشبه بعضها البعض الى هذا الحد، واذا كان رؤساء لجان التحكيم بيتر داير هذه المرة سيضطرون في كل مرة لتحويل حفلة الختام الى ما يشبه حفلة التبرير، واذا كان بات على السينما ان تستعين في نهاية الامر، بتاريخ صانعيها الكبار لتجتذب شيئاً من التصفيق في نهاية الامر، يصح ان نطرح السؤال: إلى أين المهرجانات؟ نطرح هذا السؤال قبل ان نخوض، من جديد، السجال الابدي حول ما اذا كانت مادونا ستحضر ام لا... وحول السيارة الفخمة التي اهدتها الشركة الهوليوودية الى توم كروز وسيدني بولاك، مكافأة لهما على النجاح الجماهيري الذي حققه فيلمهما الاخير...