وافق مجلس الوزراء الكويتي نهاية الشهر الماضي على قانون "حماية الاموال العامة" الذي اقره مجلس الامة البرلمان بعد نقاش مطول، ورفع مجلس الوزراء هذا القانون الى امير الكويت الشيخ جابر الاحمد الصباح للتصديق عليه. وكان هذا القانون تضمن مواد رقابية متشددة على قرارات الحكومة المالية، خصوصاً ما يتعلق منها بالاستثمار في الخارج، وكذلك وضع عقوبات متشددة على المتلاعبين بالمال العام تصل الى السجن المؤبد. وكان واضحاً ان رفع هذا القانون الى أعلى سلم الاولويات لدى كل من الحكومة والبرلمان في الكويت ثم موافقة الحكومة عليه في سرعة قياسية له علاقة بالفضيحة التي تفجرت في اسبانيا باتهام اطراف كويتية واسبانية بإساءة التصرف بالاستثمارات الكويتية في مجموعة "توروس" والاستيلاء على مئات الملايين من الدولارات والتسبب في خسارة الكويت لما يزيد عن 5 مليارات بلايين دولار من أصولها في الخارج. وتعود قصة الاستثمارات الخارجية للكويت الى ما قبل عام 1965 عندما بدأت الكويت، بعد سنوات قليلة من استقلالها عن بريطانيا، تحرز فوائض مالية مهمة من عائداتها النفطية، والى جانب الانفاق المحلي على التنمية وتقديم مساعدات مالية للدول العربية، واحتفظت الكويت بفوائض مالية راحت تتزايد سنوياً وتقدر بعشرات الملايين من الدولارات في ذلك الوقت، ونشأت حينئذ فكرة "احتياطي الاجيال القادمة"، اي ادخار جزء من اموال الكويت في وقت الوفرة الى الجيل المقبل الذي قد لا يحظى بالاوضاع الاقتصادية نفسها. وتحت اشراف امير الكويت الشيخ جابر الاحمد الصباح، حينما كان وزيراً للمال عام 1965، تم تأسيس "مكتب الاستثمار الكويتي" في لندن والذي قاد حركة الاستثمار الكويتي في الخارج لاكثر من 3 عقود. وبعد فورة اسعار النفط عام 1974 تزايدت الفوائض المالية الكويتية وتم توجيه معظمها للاستثمار في الخارج، فانتشرت في اكثر من 3 قارات، في ظل غياب النظام المحاسبي المحكم والكفء، واحيطت بسرية مبالغ فيها ولم تكن هناك اية متابعة لوزارة المال الكويتية او علاقة واضحة بينها وبين مكتب الاستثمار في لندن. ثم انشئت "الهيئة العامة للاستثمار" عام 1982 وباشرت اعمالها بعد سنتين، وكانت مهمتها الاشراف على الاستثمارات الحكومية بشكل عام، في الداخل والخارج، ونظرياً كان مكتب لندن يتبع الهيئة ولكنه من الناحية العملية كان شبه مستقل عن الجهاز الحكومي الكويتي، بل ان قرار تعيين مدراء هذا المكتب او اعفائهم كان يصدر عن اعلى المستويات السياسية في الكويت مع دور قليل لوزير المال في ذلك. عام 1986 بدأ مكتب لندن دخول سوق الاستثمار الاسبانية، وتمثلت اهم الصفقات بشراء شبه كامل للشركة القابضة "توراس" التي تملك بدورها شركات عدة، واختير الشريك الاسباني خافيير ديلاروسا لادارة "توراس" على رغم الشبهات التي احاطت بماضيه. وبدأ حجم التورط يكبر في اواخر 1989، اذ بدأ مكتب لندن يقدم للحكومة الكويتىة بيانات مشجعة عن اداء "توراس"، ونجح في اقناعها بمنح قروض بپ450 مليون دولار ليصل اجمالي الاستثمارات في اسبانيا الى ما يقرب من 2 بليون دولار، وذلك قبل الغزو العراقي للكويت بفترة وجيزة. وبعد الغزو العراقي، ثم بعد التحرير، زاد حجم التورط الكويتي في "توراس" ووصل الى حوالي خمسة بلايين دولار، ولوحظ ان مكتب لندن قام بضخ اكثر من 700 مليون دولار لدعم اسهم بعض الشركات التي تملكها "توراس" وحمايتها من التراجع في سوق الاسهم الاسبانية، كذلك توسعت "توراس" - وبشكل غير مفهوم - في شراء الشركات الاسبانية المختلفة وضمها اليها واقناع الممول الكويتي بالجدوى الاستثمارية من وراء ذلك. وكانت الاستثمارات في "توراس" اثارت قبل ذلك الشبهات لدى الهيئة العامة للاستثمار في الكويت، وعندما حاول اعضاء مجلس الادارة في الهيئة فرض نوع من النظام على ادارة الاستثمارات في مكتب لندن الخاص باسبانيا عام 1987 فوجئوا بمعارضة شديدة من ادارة ذلك المكتب. لكنهم نجحوا في السنة نفسها في تعيين مدقق حسابات خارجي. وفي سنة 1988 فرضوا على مكتب لندن - للمرة الاولى - لائحة داخلية، كما تم تشكيل لجنة تنفيذية تضم 3 أعضاء من مجلس ادارة الهيئة لمتابعة الاستثمارات الاسبانية، لكن كل ذلك لم ينجح في مواجهة التجاوزات. وكانت هذه اللجنة التنفيذية احتجت بشدة على منح مكتب لندن مبلغ 450 مليون دولار الى "توراس" كقرض، في أواخر 1989، ولكن اثناء احتدام الخلاف على تجاوز مكتب لندن للائحة وعدم اعلام اللجنة بالقرض الى ان وقع الغزو العراقي للكويت وبدأت كرة الثلج تنحدر. في اليوم التالي لغزو الكويت اي يوم 3 آب اغسطس 1990 حصل وزير المال آنذاك الشيخ علي الخليفة على حق التوقيع على القرارات الاستثمارية، وبدوره منح هذا الحق لرئيس مكتب لندن ونائبه. لكن الحق نفسه لم يمنح للعضو المنتدب بالهيئة العامة للاستثمار السيد يعقوب الحميفي فأرسل رسالة احتجاج الى امير الكويت الذي كان يقيم في السعودية اثناء الاحتلال العراقي للكويت. وفي 30 كانون الاول ديسمبر 1990 وعلى ضوء بعض ممارسات مكتب لندن قدم 3 من اعضاء الهيئة العامة للاستثمار، وهم يعقوب الحميفي، ومحمد العدساني، والدكتور فهد الراشد، استقالتهم الى رئيس الحكومة وولي العهد الشيخ سعد العبدالله، وتضمنت الاستقالة 19 مخالفة لمكتب لندن في عملية شراء الاصول والاستثمار. ومن ابرز التجاوزات التي تمت ابان الاحتلال وتكشفت اخيراً تحويل مبلغ 510 ملايين دولار الى حسابات خارجية مجهولة. وتعترف الحكومة الكويتية الآن بأن هذه المبالغ لم تصرف للمجهود الحربي في حرب التحرير ولا لاي غرض آخر له علاقة بالكويت، مما يدعو للاعتقاد بأنها عملية استيلاء مباشر على الاموال. كذلك تكشفت عمولات مقابل خدمات لم تقدم، وكانت احداها بمبلغ 5 ملايين دولار، والاخرى بمبلغ 17 مليون دولار حولت الى حسابات سرية في بعض البنوك ولم تصرف للمستحق المزعوم. وبدأت الحقائق حول الاستثمارات في اسبانيا تنكشف بعد وصول ادارة جديدة لمكتب لندن في اواخر عام 1991، وفوجئت الادارة الجديدة بحجم التجاوزات، لكن هذه الادارة تصرفت بدورها بشكل انتقامي من الادارة السابقة وخاضت معركة سياسية اعلامية لكشف التجاوزات. وعلى رغم ان ذلك مفهوم على ضوء ما حدث، الا انه من الناحية العملية ادى الى اهتزاز سمعة الشركات التي تملكها الكويت في اسبانيا وانهيار اسهمها في السوق الاسبانية وامتناع البنوك عن اقراضها، مما شكل بدوره خسارة مضاعفة. وكانت هذه القضية بمثابة القنبلة التي انفجرت في وجه مجلس الامة الكويتي بعد اسابيع قليلة فقط من انعقاده في تشرين الاول اكتوبر الماضي. واحال المجلس القضية برمتها الى اللجنة المالية طالباً منها تقديم تقرير اولي عن الاستثمارات في اسبانيا. وقامت اللجنة بعقد جلسات استماع مكثفة مع المسؤولين عن الاستثمار في الهيئة العامة للاستثمار وكذلك اعضاء الهيئة السابقين الذين استقالوا احتجاجاً على التجاوزات في مكتب لندن. ولعل اكثر اجتماعات اللجنة المالية اثارة كان الاجتماع الذي ضم مدير مكتب لندن المالي السيد علي رشيد البدر بحضور النائب العام الكويتي ووزير العدل السيد فشاري العنجري، وترتب على هذا الاجتماع قيام النائب العام بسلسلة من الاجراءات المتلاحقة ضد المشتبه بهم، وهم رئيس مكتب لندن محمد الصباح ونائبه خالد الصباح ومدير المكتب السابق فؤاد جعفر، وتم التحفظ على اموالهم وممتلكاتهم في الكويت وكذلك على اموال وممتلكات اقربائهم وزوجاتهم. ومع صدور هذا العدد من "الوسط" يكون فريق من نواب مجلس الامة توجه الى لندن ومدريد للاطلاع عن قرب على الاوضاع الحالية للاستثمارات ومحاولة رسم صورة دقيقة عنها. كيف يمكن مواجهة هذه المشكلة؟ يجيب على سؤال "الوسط" رئيس اللجنة المالية بمجلس الامة الدكتور اسماعيل الشطي فيقول: "يرى المجلس ان التحقيق في مثل هذه القضية يأخذ جوانب متعددة، وان اطرافاً عدة يجب ان تقوم بذلك، فالقضية الآن بين يدي النيابة العامة للتحقيق فيها جنائياً، وهي بين يدي مجلس الامة لتقصيها سياسياً ومحاولة سن تشريعات تحول دون تكرار هذه التجاوزات، كما ان الحكومة شكلت فريقاً خاصاً بها للتعرف بشكل افضل على المشكلة، وفي الوقت نفسه فإن ديوان المحاسبة يقوم بالتدقيق محاسبياً في ذلك". وعن حجم الكارثة وآثارها يقول الشطي: "تقدر خسارة الكويت بما لا يقل عن خمسة مليارات دولار هي قيمة استثماراتنا في اسبانيا، والتي وصلت الى حد الصفر بإعلان الافلاس. ومن دون شك، فبالاضافة الى الخسارة المالية فإن سمعة الكويت الاستثمارية ستتأثر اذ ان الدول الاخرى ستتعامل مع الاستثمار الكويتي بحذر". ولكن هل هناك أمل باستعادة بعض هذه الاموال المفقودة؟ وماذا عن العروض التي قدمها بعض المتهمين لارجاع بعض الاموال؟ يعلق الدكتور الشطي قائلاً: "وردت في بعض الصحف معلومات في هذا الشأن حول تسوية بين المتهمين والجانب الكويتي لارجاع المبالغ المختلسة الى الخزينة العامة للدولة، واذا كان لهذا الخبر أصل من الصحة فليس من الحكمة التداول فيه حتى تأخذ السلطات القضائية اجراءاتها اللازمة".