في الثامن عشر من شهر شباط فبراير الماضي طلب رئيس البرلمان الروسي رسلان خسبولاتوف من وزير الداخلية فكتور يارين، جمع مدراء فنادق موسكو في مؤتمر طارئ. واستغرق ذلك الاجتماع عشر دقائق فقط. وتبعا لما يقوله السيد كولينسيكوف مدير فندق زولتو كولتسو، طلب وزير الداخلية منهم اخلاء الفنادق من جميع النزلاء الذين يحملون الجنسية الشيشانية، وأبلغهم ان اية مخالفة لهذا الامر ستعني طرد المدراء المخالفين. وفي اليوم نفسه الذي شرع فيه المدراء في تنفيذ الامر، بدأت قوات الشرطة مداهمات لاخراج الشيشان. وكانت العملية في منتهى القسوة. ومع ان صدور امر من هذا القبيل عن رئيس البرلمان شيء غير مألوف في الدول الاخرى، فانه شيء عادي في روسيا. وقد شرح وزير الداخلية الاجراء فقال انه كان ضرورياً لاخراج المافيا الشيشانية من موسكو. ومن الطريف ان الوزير نفسه شيشاني. ولهذا تعرض لتنديد شديد في جمهورية الشيشان. لقد ازدادت الجرائم في موسكو وأصبحت منظمة، حتى ان عصابات المجرمين المسلحين باتت امراً مألوفاً في العاصمة الروسية. ويقول وزير الداخلية السابق فاديم باكاتن: "ان هناك 15 مجموعة من العصابات الاجرامية القوية في موسكو، ولكن أوقحها وأقواها هي العصابات الشيشانية". والمافيا الشيشانية على درجة عالية من القوة لأنها مترابطة وتقوم على اساس الروابط العائلية واحترام أوامر الرؤساء. ولها قوانينها الخاصة وموازناتها ومراكز تدريبها. وهي تجتذب بشكل خاص الشباب الشيشاني العاطل عن العمل. ويقدر عدد اعضاء المافيا الشيشانية في موسكو بحوالي 1500 شخص. وتتألف المافيا الشيشانية في موسكو من ثلاث عصابات رئيسية لكل منها تنظيمها وهياكلها الخاصة وتخضع لرئيس له مساعدوه. كما ان كل عصابة لها ممثلون في مجلس مشترك للعصابات الثلاث. وأقوى الثلاث هي المعروفة باسم "المركزية" التي دأبت على عقد اجتماعاتها في مطعم اسمه "اوزبكستان". اما رئيسها فهو ليشي عاييديف الملقب بپ"ليزي" ومعناها في الروسية الأصلع. وتسيطر هذه العصابة على محلات البيع بالجملة والمطاعم وبائعات الهوى في وسط موسكو. وهناك عصابة ثانية اسمها "اوستانكينو" نسبة الى إحدى مقاطعات موسكو وهي متخصصة في الاشراف على نقل البضائع والسلع، لا سيما الى جمهورية الشيشان. والمركز الرئيسي لتجمعها هو فندق "زاريا". ويقوم اعضاؤها ببيع المواد الغذائية والكحول والأثاث والسلع الكهربائية مثل اجهزة التلفزيون. ورئيس هذه العصابة هو محمود اوسييف الملقب بالكبير. والعصابة الثالثة هي عصابة السيارات التي تسيطر على محلات بيع السيارات وتشرف على بيع السيارات الاجنبية في روسيا. ورئيس العصابة اسمه سليمان. وعصابات المافيا الشيشانية لا تتدخل في نشاط بعضها بعضاً كما انها لا تتعدى على مناطق بعضها البعض. بل يحدث العكس احياناً عندما تتعاون في ما بينها في عمليات مشتركة. ولهذا السبب هناك مجلس مشترك للعصابات الثلاث. ولعل اهم مورد لعائداتها جميعاً هو تجارة المخدرات. وهناك نشاطات غريبة لهذه العصابات. اذ ان بعضها اسس شركات "محترمة" لتقديم خدمات مختلفة، منها إلقاء المحاضرات في أفضل الطرق لتحقيق الأرباح وزيادة المبيعات، وأفضل الطرق لاستثمار الأموال غير المشروعة! وتقدر وزارة الأمن الروسية ان المافيا تحوّل الى جمهورية الشيشان ما بين 40 و60 مليون روبل في الاسبوع، من الأموال النقدية. ومما يوضح مدى نفوذها انها نظمت اخيراً حملة لجمع التبرعات لمساعدة جمهورية الشيشان في معركتها من اجل "الاستقلال والسيادة" بلغ ريعها اكثر من 500 مليون روبل خلال ايام. وكان حسين مرادوف وسلطان خوداييف المسؤولين عن هذه الحملة ظاهرياً. وهما الآن من المساعدين الاداريين للرئيس العام في الجمهورية جوهر دوداييف. ولمافيا الشيشان جهاز امنها الخاص الذي يرأسه احمد مرادوف. وفي مقدمة المهمات التي يتولاها الجهاز محاربة شرطة مكافحة الجريمة، ومواجهة عصابات الاجرام الروسية التي تخوض حرباً طاحنة ضدها، لا سيما ان العصابات الروسية اخفقت حتى الآن في تأسيس موطئ قدم لها في العاصمة. وقد وقعت معارك في الآونة الاخيرة بين الطرفين، أدت الى مقتل ثلاثة من كبار قادة المافيات الشيشانية الامر الذي دفع هذه المافيات الى الانتقام وقتل عدد كبير من افراد العصابات الروسية. ولما كانت احدى المعارك جرت في مطعم "اوزبكستان" وحوله، فان المافيات الشيشانية اضطرت الى نقل مكان لقاءاتها الرئيسي الى مطعم "قشطان" الذي لا يسمح لأحد الآن بالاقتراب منه. وحين حاولت مراسلة مجلة "اخبار الجريمة" الاسبوعية تقصي قادة المافيات في المطعم انتهت حياتها بصورة غريبة. "الجهاد" ضد موسكو ولهذه المافيات اكثر من 600 شقة في موسكو، كلها سرية، اضافة الى عشرات المخابئ والمخازن والمتاجر، فضلاً عن الفنادق التي تستخدمها. ومن المعروف ان المافيات الشيشانية تروع سكان موسكو. إلا ان مشاعر الذعر والرهبة تضاعفت منذ ان تولى الجنرال جوهر دوداييف السلطة في العام الماضي في جمهورية الشيشان. فهو معروف بفلسفته القائمة على خلق جبهة موحدة من ابناء القوقاز ضد موسكو، وبإيمانه بوجوب كون الخط الأمامي للمعركة بين الطرفين هو في موسكو نفسها. وسبق له ان هدد مرات عدة بإعلان "جهاد" ضد روسيا، كما وعد بتحويل موسكو الى "منطقة مصائب وكوارث" اذا ما حاولت روسيا إملاء ارادتها على جمهوريته. وفي احدث تصريح له قال: "ان لدينا مئات من ابنائنا في موسكو ينتظرون مجرد صدور الأوامر اليهم، اذا ما فكرت روسيا بتنغيص حياتنا". ولهذا رحب سكان موسكو بالأمر الذي اصدره رئيس البرلمان خسبولاتوف، ذلك ان ارتفاع عدد الجرائم في العاصمة اجبر الناس على التزام بيوتهم مع مغيب الشمس. وبلغ من قوة المافيا الشيشانية في موسكو انها تمكنت في اوائل العام من تنفيذ عملية جريئة سرقت فيها اموالاً بطريقة قانونية من البنك المركزي. فمن خلال عمليات تزوير منظمة ومدروسة استطاعت خداع البنك المركزي بتحويل اكثر من ثلاثين الف مليون روبل الى جمهورية الشيشان وجمهورية داغستان المجاورة لها. وإذا ما عرفنا ان موازنة الشيشان تصل الى حوالي الفي مليون روبل فقط، ادركنا مدى ضخامة هذه العملية. والأدهى من ذلك ان جزءاً كبيراً من المال تحول الى عملات صعبة، وانتهى في بنوك اجنبية خارج البلاد. ولم يستطع البنك المركزي الروسي اكتشاف الامر الا في شهر حزيران يونيو الماضي بطريق الصدفة المحضة. وعقب بدء السلطات الروسية بمطاردة المسؤولين عن عملية الاحتيال هذه، اصدر الرئيس دوداييف مرسوماً يقضي بأن كل شيشاني تدينه اية محكمة غير شيشانية سيصبح آمناً وتحت حماية جمهورية الشيشان فور عودته اليها، شريطة الا يكون ارتكب جريمة في الجمهورية نفسها. وفي حال اعتقال الشرطة في موسكو اي عضو من اعضاء المافيات الشيشانية، فان هذه العصابات تبذل كل ما في وسعها لاطلاق سراحه او تأمين افضل المحامين للدفاع عنه. وإذا ما أدين احد منهم فان هذه العصابات تلجأ الى الرشاوى وانتحال الشخصيات والتنكر في لباس الحراس والمسؤولين وما الى ذلك من الأساليب لضمان اطلاق سراحهم. وفي وجه كل ذلك يمكننا ان نفهم لماذا صدر الأمر من رئيس البرلمان الروسي الى وزير الداخلية. ومع ذلك فان سكان موسكو ليس لديهم ثقة في قدرة السلطات على احتواء نفوذ هذه العصابات.