حساب المواطن: 3.4 مليار ريال لمستفيدي دفعة شهر يونيو    الذهب يستقر عند 2296.17 دولار للأوقية    وزير التجارة يصدر قرارًا وزاريًا بإيقاع عقوبة مباشرة على كل من أخلّ بأداء واجبه في إيداع القوائم المالية    "التجارة" تضبط 374 مخالفة في المدينة    انحفاض الإنتاج الصناعي 6.1% في أبريل    إستخراج بطاقات إقامة ممن مضى على إقامتهم في مصر أكثر من 6 أشهر    طاقم تحكيم إماراتي لإدارة مباراة الأخضر والأردن    الطقس : حاراً إلى شديد الحرارة على الرياض والشرقية والقصيم    خادم الحرمين يأمر باستضافة 1000 حاجّ من غزة استثنائياً    تطوير مضاد حيوي يحتفظ بالبكتيريا النافعة    "ميتا" تزوّد "ماسنجر" بميزة المجتمعات    المنتخب السعودي للفيزياء يحصد 5 جوائز عالمية    بدء أعمال المنتدى الدولي "الإعلام والحق الفلسطيني"    "الرياض للبولو" يتوّج بطلاً لبطولة تشيسترز ان ذا بارك    كيت ميدلتون.. قد لا تعود أبداً إلى ممارسة دورها الملكي    «أرامكو»: 0.73 % من أسهم الشركة لمؤسسات دولية    بعد ياسمين عبدالعزيز.. ليلى عبداللطيف: طلاق هنادي قريباً !    شريفة القطامي.. أول كويتية تخرج من بيتها للعمل بشركة النفط    عبدالعزيز عبدالعال ل«عكاظ»: أنا مع رئيس الأهلي القادم    شرائح «إنترنت واتصال» مجانية لضيوف خادم الحرمين    استقبال 460 حاجاً من ضيوف خادم الحرمين من 47 دولة    زوجة «سفاح التجمع» تظهر من لندن: نجوت من مصير الفتيات !    400 مخالفة على الجهات المخالفة للوائح التعليم الإلكتروني    المجلس الصحي يشدد على مبادرة «الملف الموحد»    الداخلية تستعرض خططها لموسم الحج.. مدير الأمن العام: أمن الوطن والحجاج خط أحمر    أمير القصيم يشيد بجهود "طعامي"    محافظ الأحساء يرأس اجتماع لجنة السلامة المرورية    «فتيان الكشافة» يعبرون عن فخرهم واعتزازهم بخدمة ضيوف الرحمن    قيادات تعليمية تشارك القحطاني حفل زواج إبنه    «التعاون الإسلامي»: الهجوم الإسرائيلي على مخيم النصيرات جريمة نكراء    العطلة الصيفية واستغلالها مع العائلة    "السمكة المتوحشة" تغزو مواقع التواصل    11 مبادرة تنفيذية لحشد الدعم الإعلامي للاعتراف بدولة فلسطين    وزارة الحج تعقد دورات لتطوير مهارات العاملين في خدمة ضيوف الرحمن    إعادة تدوير الفشل    خلود السقوفي تدشن كتابها "بائعة الأحلام "    الحج عبادة وسلوك أخلاقي وحضاري    القيادة تهنئ ملك الأردن    الأمريكي" غورست" يتوج ببطولة العالم للبلياردو    رسالة جوال ترسم خارطة الحج لشيخ الدين    الأهلي يفاوض كيميتش والنصر يتخلى عن لابورت    شهد مرحلة من التبادل الثقافي والمعرفي.. "درب زبيدة".. تاريخ طويل من العطاء    "هيئة النقل" تدشن سيارة الرصد الآلي كأول تجربة لها في موسم الحج    استشاري:المصابون بحساسية الأنف مطالبون باستخدام الكمامة    الدكتورة عظمى ضمن أفضل 10 قيادات صحية    أمير الرياض يطلع على عرض لمركز صالح العسكر الحضاري بالخرج    رئيس جمهورية قيرغيزستان يمنح رئيس البنك الإسلامي للتنمية وسام الصداقة المرموق    وفد الشورى يطّلع على برامج وخطط هيئة تطوير المنطقة الشرقية    التخبيب يهدد الأمن المجتمعي    تغييرات الحياة تتطلب قوانين جديدة !    رئيس الأهلي!    الشاعر محمد أبو الوفا ومحمد عبده والأضحية..!    فشل التجربة الهلالية    انطلاق معسكر أخضر ناشئي الطائرة .. استعداداً للعربية والآسيوية    أمير تبوك يواسي عامر الغرير في وفاة زوجته    نصيحة للشعاراتيين: حجوا ولا تتهوروا    نفائس «عروق بني معارض» في لوحات التراث الطبيعي    توفير الأدوية واللقاحات والخدمات الوقائية اللازمة.. منظومة متكاملة لخدمة الحجاج في منفذ الوديعة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



تراث السلطنة الفني الشعبي فريد ومتنوع . اذا سمعت ايقاع الطبول في عمان تنفتح أمامك أبواب التاريخ والاساطير
نشر في الحياة يوم 17 - 08 - 1992

تتميز سلطنة عُمان عن بعض الدول العربية الأخرى بتراث فني شعبي فريد ومتنوع الاصول والوجوه. فمنه المحلي القديم الاصيل، ومنه المستورد الذي حمله الى مجتمعها، اولئك الذين قصدوا اراضيها واستوطنوا فيها، يوم كانت حدود الامبراطورية العمانية تصل الى بلوشستان وتطرق قلب افريقيا، فتفاعل مع التراث المحلي وصار جزءاً منه.
"الوسط" قصدت اخيراً السلطنة وزارت معظم مناطقها حيث تعرفت على اهم فنونها الشعبية المميزة والمختلفة، وعادت منها بالتحقيق الآتي:
وقف الشاعر وسط الساحة قرب قارع "الطبل الواقف"، وبدأ تلاوة الشعر الشعبي والى يساره انتصب رجلان آخران يحملان طبلين هما "الرحماني" و"الكاسر". وعندما انتهى من ارتجال الابيات، تقدم مع ضارب "الطبل الواقف" الى الامام وهو يلقنه الابيات كي يغنيها بينما كان الطبلان الآخران يدوران في الميدان. مع بدء الغناء يبدأ الرقص. تنسى الحرّ، وتنسى الظمأ والتعب، ويشدك ايقاع فن الميدان، وتغرق في عالم آخر. الميدان هو فن السمر، فن الشعر والتلاعب بالالفاظ العربية في قالب شعري متقن. ويقام عادة في مكان متسع، بعيداً عن الحي او القرية. الميدان فن الشعر، كان سابقاً رقص اولاد العبيد، ويقام من اجل التطبيب الشعبي لاولئك الذين يعتقد انه اصابهم مس من الجن ويريدون الشفاء.
تعجب امام تلك النساء الراقصات اللواتي يتحلين بحضور قوي يمنحهن جمالاً كله كبرياء. كل واحدة منهن تشعر بوجود زملائها وزميلاتها حولها من دون ان تنظر او تلتفت يميناً ولا شمالاً.
ويزين ايقاع الطبول والغناء صوت "الحجم" او "البرغام"، تلك الصدفة البحرية الحلزونية التي ينفخ فيها عازفها، فيصدر عنها صوت متقطع.
فن الميدان هذا هو واحد من الفنون العمانية المتنوعة فالمجتمع في السلطنة متعدد الاصول الاتنية وبالتالي هو مجتمع ذو تراث شعبي متنوع وغني. وهذا الغنى الانساني من اهم العناصر التي تتميز بها تلك البلاد. قليلة هي البلدان التي تتمتع اليوم بهذا التنوع البشري القديم العهد. خاصة في ايامنا هذه حيث المجتمعات تتجه جميعها نحو طراز واحد من الحياة، يغلب عليه الطابع الغربي وتحديداً طابع المجتمع الاستهلاكي، فيما تنغلق هذه المجتمعات في الوقت نفسه على ذاتها قومياً وعرقياً ودينياً. في سلطنة عمان تشعر ان الحاضر على تواصل مع الماضي، اي ان حبل الزمان، على الصعيد التراثي لم ينقطع. وهذا على النقيض من مجتمعات عديدة دخلت عصر التكنولوجيا الحديثة، والعالم الصناعي الذي يفرض قوانينه الخاصة، محافظة على تقاليدها الاجتماعية وقيمها الاخلاقية، لكنها نسيت تراثها الثقافي والشعبي.
والنتيجة هي حالة تأرجح ان لم تكن انفصاماً بين عالمين مختلفين تمام الاختلاف. هذا الى جانب فقدان هذه المجتمعات روحها.
المحافظة على التراث
استطاع المجتمع العماني ان يحافظ حتى يومنا هذا على تقاليده الشعبية وتراثه الثقافي. ولم يتم ذلك على الصعيد الجمالي المرئي كالعمارة التقليدية واللباس والحلي وسائر الحرف… لكن ايضاً على صعيد الشعر والموسيقى والرقص. والاهم من ذاك ان هذا التراث الموسيقي الشعري لا يزال جزءاً من الحياة العمانية وسمة خاصة تطبع الاوقات الرئيسية في حياة العمانيين، كالزفاف، والفرحة بمولود جديد، والختان، ووفاء نذر، والاعياد الدينية والوطنية. ولا يزال هناك العديد من العمانيين الذين يعيشون ويمارسون هذا التراث، علماً بأن الجيل الجديد يبتعد شيئاً فشيئاً عن هذه التقاليد الفنية.
وتفادياً لزوال هذه الفنون مع الوقت، أسست وزارة الاعلام مركز عُمان للموسيقى التقليدية سنة 1983، وهو يعنى كما قال لنا مديره خلفان البرواني، بجمع وتوثيق سائر الفنون التقليدية الشعبية في عمان على اشرطة فيديو وتسجيلات صوتية، وصور فوتوغرافية. ومن اجل ذلك، يقوم موظفو المركز بجولات ميدانية في جميع المناطق العمانية، وقد تم جمع سبعين في المئة من هذه الفنون حتى الآن. ويقول المسؤولون في المركز ان الوقت ثمين، لأن هناك الكثير من العارفين بهذه الفنون الذين شاخوا، والبعض منهم وافته المنية. وليس هناك دائماً من يكمل الطريق. ويعتبر مركز عمان للموسيقى التقليدية من اهم المراكز في العالم العربي، ان لم يكن الوحيد، لجمع وتوثيق الموسيقى الشعبية التقليدية.
تعدد الاصول
للبحر في عُمان اهمية قصوى. هو جزء من حياتها. وكان العمانيون منذ القدم يذهبون بمراكبهم الى الصين وغيرها من البلدان البعيدة. ويقال ان السندباد انطلق في رحلته من عمان، وأنه عماني. ولعب البحر دوراً كبيراً في التكوين الثقافي للسلطنة التي تعيش فيها جماعات ذات اصول افريقية وبلوشية وفارسية وهندية استوطنت فيها منذ القديم، الى جانب السكان الاصليين من البدو الحضر وأهل السواحل. كل جماعة جلبت معها آلاتها وأغانيها وايقاعاتها الخاصة، وتم بالضرورة تداخل وتأثر متبادل بين هذه الفنون المختلفة. مثلاً، نلاحظ ان هناك تأثيرات افريقية على موسيقى السواحل الايرانية، حتى ان في بعض المدن، مثل بندر عباس، تقام حفلات "الزار" وهي اساساً افريقية. وتأثرت عمان بدورها بالموسيقى الآتية من السواحل الايرانية الجنوبية. اما التنقل المستمر بين عمان والشواطئ العربية وجنوب ايران فقد ولّد تأثيرات فارسية ايرانية في عمان وتأثيرات عربية عمانية في جنوب ايران، بالمقابل.
وفي الماضي امتدت الامبراطورية العمانية من سواحل بلوشستان الى شواطئ افريقيا الشرقية وجزيرة زنجيبار التي ظلت تحت السلطة العمانية حتى بداية هذا القرن فكان من الطبيعي ان تأثرت السلطنة بالموسيقى ذات الاصول الافريقية، حيث استوطن فيها العديد من الافارقة لا سيما الزنجيباريين، الذين كان معظمهم من العبيد في الماضي، الا انه تم تحريرهم جميعاً.
وكانت عمان محطة رئيسية على طريق التجارة بين الغرب وافريقيا والهند والشرق الاقصى. وهي محطة هامة في طريق الحرير البحري والتوابل. كما انها معروفة بسفنها القوية ومهارة بحارتها الذين جابوا البحار وكانوا مشهورين في جميع المرافئ. فمنذ القديم كانت عمان مكاناً تتواجه فيه الثقافات وتتفاعل. ولا تزال هذه الحال قائمة حتى يومنا هذا. فمجرد ان تذهب الى سوق مدينة "مطرح" القديم حتى تشعر بهذا المزيج من اناس ذوي اصول وثقافات مختلفة.
ويظهر هذا التمازج في الموسيقى. ففي فن الميدان مثلاً، وهو من اصول افريقية، يستعمل طبل كاسر، وهو من صناعة عمانية او هندية، وكذلك الطبل الرحماني. اما الطبل الواقف، فهو افريقي.
اذاً، استوطنت في عمان منذ عهود قديمة جماعات من البلوش والفرس والباكستانيين والهنود والافارقة، خاصة من سواحل افريقيا الشرقية، وبعضهم يتكلم حتى اليوم السواحلية.
العمانيون ستة اقسام
اما العمانيون الاصليون فينقسمون الى 6 اقسام رئيسية. هناك اولاً سكان الساحل، وسكان المدن الساحلية اي مسقط ومطرح وصحار وصور، حيث عاش الناس على مدى السنين من الرحلات البحرية والتجارة والصيد. ثم هناك سكان سواحل الباطنة، حيث تعتمد الزراعة على وجود الآبار. وقد تعرضت هذه المنطقة في فترات طويلة لتأثيرات عرقية بشرية وثقافية هندية وأفريقية على السواء. ثم، هناك الحضر او المزارعون الذين يعيشون في مدن الداخل وقراه مثل نزوى والرستاق، حيث الاعتماد في الري يقوم على نظام شبكة الافلاج جمع "فلج"، وهو قناة مياه، عرفت في عمان منذ مئات السنين. طبعاً هناك بدو السهول في الجنوب والغرب. ويبدو ان الترحال والتنقل بدآ يخفان، فهناك ميل للاستقرار. وعموماً تنحدر القبائل العمانية من القحطانيين ومن العدنانيين. القبائل القحطانية أتت من جنوب الجزيرة العربية، اما العدنانيون، فأتوا من شمال غرب الجزيرة.
قبائل الشموح تسكن الجبال في منطقة رأس مسندم شمال عمان، وتتكلم اللهجة "الكمزارية" وهي لهجة قريبة من الفارسية.
أخيراً، هناك الظفاريون، ولهم بعض القواسم المشتركة اللغوية والاتنية مع سكان جنوب الجزيرة العربية وشرق افريقيا. وفي منطقة ظفار يتكلم السكان ثلاث لهجات غير عربية، وهي اقرب الى لغات جنوب الجزيرة العربية، وقد يكون لها علاقة بالحميرية، الا ان ذلك لا يزال فرضية. وهذه اللهجات او اللغات التي لا تمت الى العربية بأية صلة وفقاً لما توصل اليه الباحثون المختصون في السنية ولغات جنوب الجزيرة العربية، لا سيما انطوان لونيه وماري كلود سينيل، هذه اللغات هي المهري والجبالي والبطحري. والجدير بالذكر ان المهري محكية ايضاً في اليمن، في مقطاعة المهرة. كما ان هناك لهجة اضافية هي الحرسوسي وهي محكية في منطقة "جدة الحراسيس"الموجودة بين ظفار ومسقط.
قال لنا خلفان البرواني، مدير مركز عمان للموسيقى التقليدية، ان عدد الفرق التقليدية للغناء والرقص في السلطنة متنوع وكثير للغاية، وذلك بتعدد القبائل والولايات، بحيث ان في كل ولاية ما لا يقل عن خمس فرق او اكثر، كما ان الانماط والاشكال الموسيقية تتجاوز المئة باختلاف البيئات الاجتماعية من بحرية وبدوية وحضرية وجبلية وبتنوع الاجناس البشرية التي تعيش في البلاد، وامتزاج كل العوامل والعناصر لتشكل المزاج العام للفنون التقليدية العمانية ولتميز كل منطقة بفنون تختلف عن المناطق الأخرى.
والفرق التقليدية في عمان تتكون من ممارسين هواة او من محترفين. الممارسون الهواة يمارسون هذه الفنون بشكل تلقائي خلال الاعياد القومية والدينية المختلفة، وغالباً ما يجتمع الهواة ابناء القبيلة الواحدة او الحارة السكنية في فرق يترأسها شخص قد يكون شيخ القبيلة، ويقوم على عاتقه تجميع افراد الفرقة لدى الحاجة اليهم. وفي كل فرقة شاعر او اكثر له موهبة في ارتجال الشعر الشعبي او النبطي، كما انه يحفظ الكثير من المأثور من غناء السلف. والطريف ان الطبول وسائر الآلات الموسيقية ليست ملكاً فردياً، بل ملك الجماعة.
"طبل النساء"
هناك ايضاً المحترفون الذين يؤدون بعض الفنون التقليدية بوصفها مصدر رزق تكميلي. وتدعى هذه الفرق عن طريق رئيسها للمشاركة في الاعراس او الاحتفال بختان او للوفاء بنذر.
ومن هذه الفرق المحترفة فرق "الدان دان"، وهي التسمية التي تطلق على فرق فنون النساء، التي تتكون من مجموعة من النساء تقوم بالغناء والرقص بمصاحبة تصفيق افراد الفرقة، او يصاحبها طبل تقرعه امرأة من اعضاء الفرقة. ومن هنا جاءت تسمية ثانية لهذه الفرق هي "طبل النساء". وتقوم هذه الفرق بممارسة الفنون اثناء المناسبات الاجتماعية. ولهذه الفرق انماط معينة من الرقص والغناء، لها اسماء غريبة وبعضها في غاية الطرافة، "كالتشح تشح" و"الحمبورة" و"الويلية".
"التشح تشح" كان في الاصل فن تعبر به المرأة البدوية عن حزنها وأساها. في هذا الشعر المرتجل اثناء اوقات العمل تتذكر المرأة البدوية الاحباب، وتعبر عن شوقها اليهم. هذا الغناء الهادئ يؤدى من دون صحبة آلات موسيقية. وقد طرأ تغيير في صور على "التشح تشح"، فأصبح فن غناء ورقص مبهج سريع الايقاع، يشارك في ادائه طبلا الكاسر والرحماني. ومن لحن وحيد لا يتغير، صار عديد الالحان. ومن شعر فن "التشح تشح" هذه الابيات:
"يودان دان يودان داني
دان الّلدان بقول يا الله
هبي هبوب الياسمين
من سبكم زادت جروحي
يا حبيِّبي لا تون ولا تنوح
باسكنك في وسط روحي…"
ويؤدى هذا الفن واقفاً او جالساً. في "التشح تشح" الواقف، تصطف النساء في صفين متوازيين يتحركان الواحد تلو الآخر، الواحد نحو الآخر، وبينهما الطبالان والمغنية الرئيسية، يتحركون مع حركة الصفين تقدماً ورجوعاً. اما "التشح تشح" جالس، فتنتظم فيه النساء جالسات في دائرة او نصف دائرة تتوسطها المغنية الرئيسية، بينما يجلس الطبالان في نهاية القوس.
ومن اكثر الفنون العمانية اثارة للدهشة رقص "الحمبورة" وتحييه غناء ورقصاً نساء ذات اصل افريقي، وهو غريب وفريد من نوعه، تؤديه النساء جالسات القرفصاء، يتحركن الى الامام مع التفاف الجسم في قفزة تشبه قفزة الضفدعة. وقد تستند الراقصة على الارض بكف يدها اليسرى حتى لا تقع. وعلى احدى الراقصات ان تلامس جبهة راقصة أخرى بجبهتها، وتضغط كل من الراقصتين على جبهة الأخرى فتصبحان وكأنهما شخص واحد يتحرك كتلة واحدة. يصاحب غناء الحمبورة ورقصتها ايقاع من الطبلين الكاسر والرحماني يدقهما رجلان يجلسان القرفصاء ايضاً، ويتحركان في ساحة الرقص حركة مستقلة عن حركة النساء ويصاحب كل وحدة ايقاعية صفقة من النساء المغنيات.
وليست هناك روابط بين افراد فرق فنون النساء، فهن لا ينتمين بالضرورة الى الحارة الواحدة او القبيلة نفسها. وبالتالي، هناك العديد من الولايات حيث لا توجد فرق فنون النساء، وعلى الاخص في المنطقة الداخلية. كما ان هناك فرقاً أخرى تضم الرجال والنساء، وكل فرقة منها تختص بفن معين او اكثر.
وكما اسلفنا القول فان موقع عمان الجغرافي وأهميتها البحرية ووجودها تاريخياً في حكم مناطق شرق افريقيا وبلوشستان، دفع ببعض الجماعات عبر التاريخ الى الاستيطان في اراضيها، لا سيما البلوش والفرس والافارقة، ولهؤلاء فنونهم التي مع مرور الزمن تفاعلت مع البيئة العمانية وأصبحت عنصراً من مكونات الفنون التقليدية العمانية.
فهناك فرق البلوش للفنون التقليدية، التي تؤدي بعض الفنون "الآسيوعمانية" خلال المناسبات الاجتماعية. وتتكون من خليط من الرجال والنساء، يغنون ويرقصون على ايقاع الطبل. ومن هذه الفنون "السيروان" و"الكوزاك" ايضاً "الكونزاك" الواقف او الجالس و"لي لا رو" و"يستكي". وهذه الفرق البلوشية موجودة في شمال الباطنة اي السواحل الموجودة شمالي مسقط، وعلى وجه الخصوص في صحار وشناص.
وتوجد ايضاً فرق الفرس او فرق ابناء العجم "للباكت" و"السيروان". وهي ايضاً متمركزة في صحار. ووجود فن مثل فن "الباكت" في بلد عربي، وإن كان يؤديه من هم من اصل فارسي يغير في المفاهيم والنظريات التي تقول بأن لا وجود "للتمثيل" على الصعيد الشعبي في العالم العربي.
والباكت من الفنون الآسيوعمانية التي ارتبطت بعادات العمانيين وأصبحت جزءاً لا يتجزأ من فنون اهل عمان. ويقام الباكت في ثلاث هيئات: السيروان، الباكت "عرائس" والباكت "تمثيل". وكم هي كبيرة دهشة المهتمين بالمسرح ومسرح العرائس عندما تقول لهم ان هناك تقاليد مسرحية في بلد عربي.
"السيروان" هو بداية السمر في فن الباكت، فيه غناء وايقاع على طبلي الرحماني والكاسر، وتصاحب الغناء حركة راقصة بسيطة.
اما في الباكت "تمثيل"، يكون السامرون دائرة وهم جلوس على الارض، يتصدرها العقيد المغني، والى جانبه ضاربو آلات الايقاع. تبدأ الطبول بالقرع ويبدأ العقيد بالغناء، ويرد السامرون على غناء العقيد غناء وتصفيقاً. وعندما يبلغ الغناء اوجه يدخل الممثلون الى وسط الدائرة، ويرتدون اشكال بعض الحيوانات كالنمر او "يلنك" كما يسمى في الباكت. والكلمة بالفارسية المشوهة. على رأس الممثل قناع كامل يغطي كل رأسه، اما جسده، فيدهن بمادة تلصق فوقها انداف قنطية. هناك ايضاً الغراب او "ابو منقار". كما يمثل بعضهم شخصيات بشرية، وذلك حسبما تقتضيه القصة، وتكون هزلية غالباً وذات موضوع هادف هو الصراع بين الخير والشر وانتصار الخير على الشر وسيطرة العقل البشري على قوة الحيوان الوحشي.
الباكت "عرائس" يؤدى بعد "التمثيل". ويتمدد اللاعب بالعرائس على الارض وسط دائرة المشاركين، ويضع رأسه على حجر شخص جالس في وسط الدائرة، ويغطى لاعب العرائس بقماش اسود، وقد حمل في يديه وعلى ذراعيه عروستين: الاولى على هيئة رجل يلبس الزي التقليدي العماني، والأخرى على هيئة امرأة تلبس الزي النسائي التقليدي عند اهل الباطنة في عمان. ويدور بين العروستين حوار حركي على ايقاع الطبول والغناء والتصفيق، والقصة تكون اجتماعية. قد يكون الحوار غزلاً، وقد يكون عراكاً يشترك الطرف الانساني في فضِّه بين العروستين اللتين تكونان الرجل والمرأة.
اما الغناء في "الباكت" فيكون بلغة تختلط فيها اللغة العربية الدارجة بألفاظ فارسية مشوهة نتيجة للتناقل الشفهي بين الاجيال.
أخيراً، هناك فرق الفنون الأفروعمانية التي تختص بأنماط الغناء والرقص التقليدي الوافدة من الساحل الشرقي لأفريقيا والجزر المتاخمة حيث امتدت امبراطورية عمان حتى زمن قريب. وهذه الفرق موجودة في كل انحاء السلطنة الا ان اكثرها عدداً موجود في ولاية صور، التي يفترض انها كانت المحطة الاولى لهذه الفنون الوافدة في عمان. ومن هذه الفنون الافريقية الاصل الميدان والزار و"الطنبورة".
الطنبورة او النوبان، شأن الميدان والزار، كانت نوعاً من التطبيب الشعبي. والطنبورة هي ايضاً آلة موسيقية وترية، افريقية المنشأ. وهي شبيهة بآلة "الهارب" الفرعونية التي لا تزال تعزف حتى الآن في بلاد النوبة، ومن هنا جاءت تسمية نوبان. وفن "الطنبورة" او "طمبورة" يستمد اسمه من الآلة التي تصحب هذا الفن، وهي الآلة الوترية الوحيدة التي تستخدم في فنون عمان التقليدية. غناء الطنبورة ذو مسحة دينية تختلط فيه ألفاظ من اللغتين العربية والسواحلية، ويتناول الكثير منه ذكريات الساحل الافريقي، وهو فن موروث شفهياً من جيل لآخر. ويصاحب غناء الطنبورة خمس آلات ايقاعية. وهو فن منفرد يختص به ابو الطمبورة، وترد عليه مجموعة من الرجال والنساء. يصاحب هذا الغناء والطبل حركة ايقاعية منفردة من شاب يشد حول وسطه وردفيه حزاماً من قماش مثبت عليه عدد كبير من حوافر الغنم الجافة، ويسمى هذا الحزام "المنجور" ويشبه صوتاً ايقاعياً شبيهاً بصوت الخرخاش. وعندما يستهوي الطرب احد المشاركين، فانه يقوم للرقص حسبما يهوى.
ويحرص اعضاء فرق الفنون ذات الاصول الافريقية والآسيوية اشد الحرص على نصوص تلك الانماط من الفن والتي يعدها البعض نصوصاً طلسمية لها فاعلية سحرية.
فنون المنطقة الجنوبية
وفي صلالة، عاصمة ظفار، تسنت لنا فرصة مشاهدة "الربوبة" وهي من الفنون المميزة للمنطقة الجنوبية. الحركة الراقصة في الربوبة حركة مركبة. يصطف اربعة من الرجال مقابل اربع راقصات. وعلى نغم الغناء وايقاع الطبول يتحرك الصفان الواحد تجاه الآخر، بحيث تمر امرأة من بين رجلين ويمر رجل من بين امرأتين، وكل من الرجال والنساء يلتف حول نفسه ليتهيأ للمرور مرة أخرى في المسافة التي تفصل بين كل اثنين من جنس واحد.
الفنون العمانية الاصلية والوافدة كثيرة جداً، من المستحيل الكلام عنها كلها هنا. وقد اخترنا عمداً الفنون المتأثرة بثقافات أخرى، وذلك على حساب الفنون العمانية الاصلية، من فنون البحر وفنون البدو "كالرزحة" مثلاً والتي تعد من اعرق الفنون التقليدية في سلطنة عمان، وهي فن السيف والمبارزة، كما فن الشعر والمطارحات الشعرية. الا ان الرزحة والفنون البدوية وغناء البحر الذي يؤديه الصيادون خلال عملهم، جميعهاً موجود ولو بأشكال مختلفة في بلدان الجزيرة العربية. لذلك، اخترنا ما تتميز به عمان عن غيرها من البلدان العربية.
هذا التنوع الكبير في الفنون العمانية التي تتميز به السلطنة عن سائر البلدان هو ما اقنع مدير دار ثقافات العالم في باريس لدعوة بعض الفرق الشعبية لتقديم مجموعة من البرامج في باريس تعطي فكرة عن غنى عمان على صعيد الفنون الشعبية.
و… تنحدر الشمس نحو المغيب وتشتعل انوار مسقط. سوق مطرح ينبض بالحياة. هذا هندي يبيع التوابل، وهذه امرأة ظفارية اتت من الجنوب لتبيع اللبان ومزيجها الخاص من انواع البخور. هناك تاجر بلوشي يبيع حلي بدوية، ربما اشتراها من سوق الجمعة في نزوى. وخارج السوق، مياه البحر هادئة في الميناء. اينما ذهبت، تغرق في بحر من الألوان البهية والروائح الجميلة والغريبة. حان وقت الرحيل، فتغمض عينيك كي تبقى الالوان ترقص امامك، وتتنشق بقوة كي تملأ صدرك بالروائح الزكية، اما قلبك، فيدق على ايقاع الطبول الذي يلحق بك صداها مهما بعدت عنها. يقولون انك اذا شربت ماء النيل، لا بد ان تعود الى مصر. ولكن اذا سمعت ايقاع الطبول في عمان، فتنفتح امامك ابواب التاريخ والأساطير.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.