ان الاعتراف بحزب ناصري ينتمي بشكل شرعي ورسمي الى احزاب المعارضة في مصر علامة طريق ذات دلالة في تطور النظام السياسي المصري، ولا اقول فقط في تطور الحياة الحزبية المصرية. فلقد قضت دائرة الاحزاب بالمحكمة الادارية العليا، يوم 19 نيسان ابريل الماضي بالغاء قرار لجنة شؤون الاحزاب بالاعتراض على تأسيس "الحزب العربي الديموقراطي الناصري" الذي يرأسه ضياء الدين داود النائب المعارض المستقل في مجلس الشعب حالياً، وأحد اعضاء آخر لجنة تنفيذية عليا شكلها عبدالناصر للاتحاد الاشتراكي العربي في السنوات الاخيرة من حكمه. وكان ضياء الدين داود نحي من الحياة السياسية مع غيره ممن اتهمهم انور السادات بتشكيل "مراكز قوة" مناوئة له في ما اسماه "ثورته التصحيحية" بعد تسلمه السلطة بأشهر معدودة في ايار مايو 1971. بيد ان النظام المصري على رغم كل ما اعتراه من تغييرات على مر السنوات، ما زال يستمد "شرعيته" - قانونياً وتاريخياً - من ثورة 23 تموز يوليو، وبالتالي من شخص جمال عبدالناصر مفجر الثورة وقائدها، لذلك فان التسليم بأن حزباً معارضاً في مصر يستطيع ان يرجع قيامه الى عبدالناصر انما يعني ان النظام لم يعد يحرص على ان تعتبر "شرعيته" مستمدة منه، بل قد يعبر عن ان النظام لم يعد يعتقد انه بحاجة الى هذه "الشرعية" كأساس لوجوده، بل ان يجد ان مصلحته تقضي بطمس انتمائه الى "الناصرية" وتأكيد ابتعاده عنها، وهو معنى تحاشاه السادات دائماً على رغم اختلاف سياساته اختلافاً بيناً عن سياسات عبدالناصر. كما تحاشاه بعده الرئيس مبارك ايضاً، حتى في الفترة الاخيرة. قد يقال ان الحزب الناصري تم تشكيله بحكم من القضاء، وان القضاء في مصر يفصل بمعزل عن السياسة، وان هناك سوابق في عهد مبارك لأحكام قضائية لم تكن موضع رضا السلطات، مثل: حكم المحكمة الدستورية العليا عام 1990 بعدم دستورية تشكيل مجلس الشعب، والتزام الحكومة باجراء انتخابات نيابية قبل اوانها، وهي انتخابات قاطعتها احزاب معارضة عديدة، وجرت في وقت بالغ الدقة كانت الدولة فيه منشغلة بأزمة الخليج، وخطر نشوب حرب على اتساع المنطقة. بيد ان هناك مفارقات لا يمكن ارجاعها الى المصادفة فقط، وتتعارض مع افتراض ان اجازة قيام حزب ناصري جرت بمعزل عن المبررات السياسية. واذا كان صدر قرار في ظل حكم مبارك نفسه منذ سنوات معدودة فقط برفض تشكيل حزب ناصري، فان ذلك كان في مرحلة تاريخية سابقة على ما اصبح يعرف ب "النظام الدولي الجديد"، ثم نفاجأ الآن بأن محكمة مصرية تنقض هذا الحكم، وتعلن قبول تأسيس الحزب وذلك في ظل سياق عالمي واقليمي يختلف نوعياً عما كانت عليه الاوضاع وقت صدور الحكم الاول، فهل يمكن إغفال الجانب السياسي في هذا التحول؟ اننا لم نعد بصدد "نظام عالمي ثنائي القطبية". والجدير بجذب انتباهنا ان "القطبية الثنائية" لم تختف من الحياة الدولية فحسب - وأعني بذلك مجال العلاقات بين الدول - بل اختفت "القطبية الثنائية" من الحياة الداخلية للدول كذلك. على سبيل المثال: لم تعد الحياة السياسية في بريطانيا يحكمها تداول السلطة بين حزبين حزب المحافظين وحزب العمال، بل يبدو ان حزب المحافظين اصبح الكفيل بكسب كل الانتخابات. ولا يبدو ان حزب العمال بوسعه منافسته على السلطة ما لم يدخل تغييرات جذرية على كيانه وتوجهاته، ويصبح حزباً مختلفاً نوعياً. وفي ايطاليا لم تعد المباراة بين الحزبين الكبيرين التقليديين "الحزب المسيحي الديموقراطي والحزب الشيوعي"، فلقد انقسم هذا الاخير الى حزب ضم اغلب اعضائه وتبنى خطاً يسارياً ديموقراطياً معتدلاً، وآخر - صغير نسبياً - ينسب نفسه الى "شيوعية اصلاحية"، بينما فقد الحزب الديموقراطي المسيحي، للمرة الاولى منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، قدرته على اجتذاب اكثر من 30 في المئة من الناخبين، ذلك ان المجتمع لم تعد تحكمه حالة "استقطاب" وحالة "استنفار" ضد الشيوعية. وبوجه عام فان اليسار - حتى اليسار المعتدلة - في حالة تراجع في كل الانتخابات التي جرت في اوروبا اخيراً، لا في بريطانياوايطاليا وحدهما بل ايضاً في فرنسا والمانيا، واصبح اقصى اليمين المنسوبة اليه نزعات نازية هو الذي يحرز في اكثر من موقع نجاحات مذهلة لا سابقة لها بالذات في فرنسا والمانيا. ان هذه الظواهر ليست قصراً على اوروبا الغربية وحدها بل تعكس حقائق لا بد ان تكون لها اصداء في مجتمعات عديدة اخرى، منها مجتمعات العالم الثالث، ومنها - وهذا الذي يعنينا - المجتمعات العربية. "ليالي الحلمية" فلقد حاولت دول العالم الثالث استثمار "القطبية الثنائية" لصالحها باتخاذ مواقف "غير منحازة" بين القطبين او بمحاولة الاستفادة من التناقضات بينهما لاكتساب القدر المتاح من حرية الحركة وحرية المناورة لكن الآن وقد زال "قطب اليسار" من على المسرح الدولي وزالت معه "القطبية الثنائية"، فإنه لا مهرب من "انجذاب" مجتمعات العالم الثالث نحو "قطب اليمين" بغض النظر عن الصعاب الداخلية المترتبة على ما اصبح يصاحب ذلك من اوجه اختلال في موازين القوى الدولية. قد يقال ان هذا ليس جديداً تماماً على الاقل في ما يتعلق بمصر. فمصر ابتعدت عن "قطب اليسار العالمي" منذ عقدين من الزمان، وبالذات منذ ان تولى انور السادات السلطة، وبوجه ادق منذ اتخاذه قبل حرب تشرين الاول اكتوبر 1973 بعام "وقفته" الشهيرة "مع الصديق السوفياتي" وقرر بمقتضاها طرد الخبراء السوفيات من مصر. الا ان السادات وهو يجري هذا التحول لم يحسم ابداً بشكل رسمي ابتعاده عن الناصرية، ومن الشواهد على حرصه على ان يحتفظ - ولو اسماً - بصفة "ناصرية"، رفضه قطعياً قيام حزب معارض في مصر ينسب نفسه الى "تراث عبدالناصر". بل ان السادات حاول ان يحافظ على "تراث عبدالناصر الاشتراكي" في صور متنوعة، وأول حزب أنشأه كحزب للحكومة - في اطار نظام "التعدد الحزبي" الذي ادخله ابتداء من عام 1976 - اطلق عليه اسم "حزب مصر الاشتراكي"، وقد احتفظ بنظام "المدعي العام الاشتراكي"، وبوجه عام وحتى اخيراً فان لفظ "الاشتراكية" لم يكن من الالفاظ الممقوتة في القاموس السياسي المصري الرسمي. اما الآن وقد زال "النظام الثنائي القطبية" عالمياً ومحلياً فلم يعد هناك ما يبرر التمسك بهذا المصطلح، بل اصبح المطروح هو التخلص منه والابتعاد عنه. ولكن لاجازة قيام حزب ناصري بعد آخر كذلك هو ان "الناصرية" تنتمي - ايضاً - الى التراث "العلماني"، وقد تكون "العلمانية" مصطلحاً لم يعد هو الآخر محبباً وانه اصبح في نظر البعض مرادفاً "للالحاد"، الى درجة ان الكلمة اصبح يتحاشاها الجميع بما في ذلك اليساريون. ولكن لم يكن ذلك معنى "العلمانية" في مرحلة حكم عبدالناصر، فلقد اكد في "الميثاق" ايمانه ب "الاشتراكية العلمية" مع تأكيده في الوقت ذاته تمسكه بالشرائع السماوية ورفضه قطعياً الالحاد، والمقصود باحياء التراث "العلماني" الناصري، اليوم، تقرير موقف، لا ازاء قضية "الالحاد" فهي قضية لم تعد واردة، بل ازاء تعاظم شأن التيار الديني السلفي. ان جماهير مصر ما زالت تتعلق ب "ناصرية" ما، وربما كان للشعبية الكبيرة وللرواج الواسع لتمثيلية "ليالي الحلمية" طوال شهر رمضان دلالة في التعبير عن حنين الى "الناصرية" لم ينمح. ان احداً لا يجادل في ان لمخرج التمثيلية ولتصويره لمصر المعاصرة نكهة ناصرية لا تخطئ، ولكن اذا ما سلمنا بأن للناصرية "وجوداً ما" فان الدولة قد ترى فيها "رصيداً" لا ينبغي لها اهداره في وقت يتعاظم شأن الاتجاه الديني السلفي، وأصبح "النظام" يشعر بأنه اول من يستهدفه هذا الاتجاه. إضعاف خالد محيي الدين؟ ان هذا، من دون شك، تبرير كاف لاجازة قيام حزب ناصري معارض تتاح له فرصة بلورة تيار ناصري في مصر ف "النظام" لم يعد يريد الانتساب الى الناصرية، ولا ان يرجع "شرعيته" اليها، ولذلك لم يعد معترضاً على اكتساب الناصرية - رسمياً - صفة "الحزب المعارض"، ولكنه مع ذلك قد يرى في بروز الناصرية، كحزب معارض، ما يكسب ساحة المعارضة قوة كفيلة بمناهضة التيار السلفي، ومزاحمته في جذب الشارع بفعالية، وهذا امر مهم في وقت تعددت فيه الشواهد على احتلال الاسلام السياسي مقدمة المسرح من الجزائر الى افغانستان مروراً بالاردن والسودان. وقد يصبح غداً عنوان تحركات ليبيا. ثم هناك بعد آخر في اجازة قيام حزب ناصري، هو المساس بحزب التجمع، وربما بزعامته للمعارضة في مجلس الشعب، وهو وضع تقرر في ضوء مقاطعة احزاب المعارضة الاخرى للانتخابات النيابية التي اجريت في مصر منذ عام. وحزب التجمع - كما هو معروف - يتشكل من فصائل عديدة، اهمها، الفصيل الماركسي والفصيل الناصري، وقد رحب التجمع بالحزب الناصري الجديد باعتبار انه يكسب "الفعل النضالي المصري رافداً جديداً والعمل السياسي قوة دافعة وحزب التجمع حليفاً ظل على الدوام رفيق درب وشريك نضال". ولكن قد ترى الدولة في الترخيص بوجود الحزب الناصري غير ذلك، وقد تستهدف به اضعاف التجمع بتجريده من جناحه الناصري، واظهاره في صورة حزب ماركسي محض يشكل الماركسيون عموده الفقري، بينما يتعرض اقرانهم في العالم لاختبار عسير مع انهيار المعسكر الاشتراكي العالمي. بل قد تراهن الدولة على ان الحزب الناصري الجديد كفيل بانتزاع زعامة المعارضة من خالد محيي الدين رئيس حزب التجمع كي تصبح للناصريين. ففي مجلس الشعب الحالي ما يقرب من عشرين عضواً من المستقلين لا هم في الحزب الوطني الديموقراطي الحاكم ولا هم في حزب التجمع المعارض، ويكفي ان ينجح ضياء الدين داود في ان يجند لحزبه الناصري خمسة منهم حتى يتجاوز - بعضو واحد - عدد اعضاء التجمع في البرلمان ويصبح هو زعيم المعارضة. و "الحزب الناصري" الذي جرى الاعتراف به هو حزب تقدم بطلب تأسيسه ضياء الدين داود بعد فشل المحاولات السابقة في انشاء مثل هذا الحزب، سواء على يد فريد عبدالكريم، او على يد كمال احمد، وقد حكمت المحكمة مرة اخرى برفض اجازة قيام "الحزب الاشتراكي العربي" الذي عاود كمال احمد محاولة انشائه. وقد اتفقت القيادات الناصرية في ما بينها على ان تلتحق جميعها بالحزب الناصري الذي نجح في فرض وجوده الشرعي، ومعنى ذلك انه من المتوقع ان ينضم الى الحزب الجديد برئاسة ضياء الدين داود كبار رموز الناصرية الذين طاردهم السادات وحكم عليهم بالسجن لسنوات طويلة، كمحمد فائق وزير الاعلام الاسبق، وفريد عبدالكريم احد ابرز وجوه الاتحاد الاشتراكي في ظل حكم عبدالناصر، غير ان هذا لا يعني بالضرورة ان الاجنحة الشبابية الاكثر تطرفاً من الناصرية ? كتيار كمال احمد مثلاً ? لا بد ان تنتظم كلها في صفوف الحزب الذي استطاع ضياء الدين داود تأسيسه. والدولة على اي الاحوال ترحب بألا تكون المعارضة قصراً على حزب واحد داخل مجلس الشعب، ثم ان "الناصرية" قد تختلف عن احزاب اخرى معارضة في ان الحزب الذي انشئ باسمها يستمد وجوده وتماسكه من "تيار" في المجتمع قبل "شخصية" زعيم حزبي بعينه، فضلاً عن ان اقطاب الناصرية هم في النهاية من "الاسرة الحاكمة" ومن "ابناء النظام" حتى لو اقتضت الدواعي البحث عن "هوية" اخرى له لا تمت بصلة الى المعاني والسياسات التي رمز لها في عصر آخر جمال عبدالناصر! * كاتب ومفكر سياسي مصري.