القيادة السعودية تعزي ملك المغرب في وفاة 37 شخصا بسبب فيضانات آسفي    تألق ثلاثي دوري روشن في نصف نهائي كأس العرب    الذهب يسجل 4338.26 دولارا للأوقية مدعوما بضعف الدولار    ارتفاع الطلب العالمي على النفط ب 860 ألف برميل يوميا خلال 2026    أمير الكويت يستقبل الأمير تركي بن محمد بن فهد    القادسية في مفترق طرق.. غونزاليس يغادر ورودجرز قريب من الإشراف الفني    عبدالعزيز بن سعد يستقبل رئيس جامعة حائل المكلّف    الأمير محمد بن عبدالعزيز يستقبل منتخب جامعة جازان    حين تُستبدل القلوب بالعدسات    المؤتمر الصحفي الحكومي يستضيف وزير الصناعة والثروة المعدنية الأربعاء المقبل    ومن الهذيان ما قتل AI الإنسانية    فيصل بن مشعل يتسلّم التقرير الختامي لمبادرة "إرث ينطق"    "إثراء" يحتفي بيوم اللغة العربية على مدار ثلاث أيام    الجاسر يفتتح فعاليات النسخة ال 7 من مؤتمر سلاسل الإمداد    المرأة العاملة بين وظيفتها الأسرية والمهنية    "سعود الطبية" تنجح في إجراء قسطرة علاجية نادرة لطفلة بعمر خمسة أشهر    تقييم الحوادث يعلن نتائج تحقيقاته في عدد من الادعاءات المنسوبة لقوات التحالف    غداً .. "كبدك" تُطلق برنامج الطبيب الزائر «عيادة ترحال» ومعرضًا توعويًا شاملًا في عرعر    نائب أمير المنطقة الشرقية يستقبل رئيس وأعضاء مجلس إدارة جمعية مبرة دار الخير    أمير الشرقية يستقبل رئيس وأعضاء مجلس إدارة جمعية مبرة دار الخير ويطّلع على برامجها التنموية    أمانة المدينة ترفع كفاءة شبكات تصريف المياه    شفيعًا تشارك في فعاليات جمعية أصدقاء ذوي الإعاقة لليوم العالمي لذوي الإعاقة بجامعة الفيصل    أمير منطقة جازان يستقبل إمام المسجد النبوي    الكرملين يعتبر بقاء كييف خارج الناتو نقطة أساسية في المفاوضات    دور إدارة المنح في الأوقاف    لقاء تاريخي حافل لأبناء عنيزة القاطنين بمكة المكرمة    الاتحاد الأوروبي يفرض عقوبات بحق 40 سفينة من " أسطول الظل"    التضخم في المملكة يتراجع إلى 1.9% في نوفمبر مسجّلًا أدنى مستوى في 9 أشهر    وفد أعضاء مجلس الشورى يطّلع على أدوار الهيئة الملكية لمدينة مكة المكرمة    مرضى السكري أكثر عرضة للإصابة بالحزام الناري، ما الأسباب وطرق الوقاية لمن هم فوق الخمسين عاما    قبيلة الجعافرة تكرّم الدكتور سعود يحيى حمد جعفري في حفل علمي وثقافي مهيب    ثلاث جولات في مختلف مناطق المملكة ، وبمشاركة أبطال السباقات الصحراوية    طلاب ابتدائية مصعب بن عمير يواصلون رحلتهم التعليمية عن بُعد بكل جدّ    «الحياة الفطرية» تطلق مبادرة تصحيح أوضاع الكائنات    صينية تعالج قلقها بجمع بقايا طعام الأعراس    مواجهات مع مستوطنين مسلحين.. اقتحامات إسرائيلية متواصلة في الضفة الغربية    بحثا تطورات الأوضاع الإقليمية والدولية.. ولي العهد ووزير خارجية الصين يستعرضان العلاقات الثنائية    ديبورتيفو الكوستاريكي يتوّج ببطولة مهد الدولية للقارات لكرة القدم    "أمِّ القُرى" تعقد لقاءً تعريفيًّا مع التَّقويم والاعتماد الأكاديمي    الخريجي: الحوار البناء أداة تفاهم بين الشعوب    القراءة الورقية.. الحنين إلى العمق والرزانة    من القمة.. يبدأ السرد السعودي    نجوم القارة السمراء يستعدون لترك أنديتهم.. «صلاح وحكيمي وأوسيمين» تحت المجهر في كأس أمم أفريقيا    السعودية تدين الهجوم الإرهابي.. دمشق توقف 11 عنصراً للتحقيق في هجوم تدمر    رابطة العالم الإسلامي تدين الهجوم الإرهابي بمدينة سيدني الأسترالية    دعت جميع الشركاء في المنظومة لتفعيل البرنامج.. «الموارد»: 5 مجالات لتعزيز التنمية الشبابة    موسم جدة 2025 يستعد لإطلاق «ونتر وندرلاند»    أمير نجران يُشيد بإنجازات "الصحة" في جوائز تجربة العميل    دراسة: دواء جديد يتفوق على «أوزمبيك» و«ويغوفي»    في ورشة عمل ب"كتاب جدة" خطوات لتحفيز الطفل على الكتابة    أمانة الرياض تطلق فعالية «بسطة» في حديقة الشهداء بحي غرناطة    الأحمدي يكتب.. وابتسمت الجماهير الوحداوية    الغامدي يزور جمعية عنيزة للخدمات الإنسانية    اختتام المؤتمر الدولي لخالد التخصصي للعيون ومركز الأبحاث    أمير منطقة جازان يستقبل سفير إثيوبيا لدى المملكة    الغرور العدو المتخفي    بدء المرحلة الثانية من مبادرة تصحيح أوضاع الكائنات الفطرية بالمملكة    تنظمها وزارة الشؤون الإسلامية.. دورات متخصصة لتأهيل الدعاة والأئمة ب 3 دول    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



قصة الدور السياسي للمؤسسة العسكرية ... من الاستقلال الى اليوم . الجزائر : الجيش هو النظام
نشر في الحياة يوم 17 - 02 - 1992

الجيش هو النظام: هذه العبارة يمكن ان تختصر العلاقة القائمة بين المؤسسة العسكرية والنظام السياسي في الجزائر، منذ الاستقلال الى اليوم. وما يجري حاليا في الجزائر، اثر تصاعد حدة المواجهة بين الجيش - "القوة المنظمة الوحيدة" - والجبهة الاسلامية للانقاذ - "القوة المنظمة الجديدة" - وسقوط عدد كبير من القتلى والجرحى واعتقال المئات من عناصر الجبهة والمسؤولين فيها، يطرح تساؤلات كثيرة حول دور الجيش في هذا البلد، ماضياً وحاضراً ومستقبلاً. هذا التحقيق من داخل الجزائر يجيب عن التساؤلات المختلفة المطروحة حول دور الجيش ويسلط الاضواء على دور المؤسسة العسكرية في الحياة السياسية الجزائرية، كما يكشف معلومات مهمة جديدة عن "حقيقة استقالة" الرئيس الشاذلي بن جديد.
علاقة المؤسسة العسكرية في الجزائر بالسلطة علاقة قديمة، تعود الى السنوات الاولى لثورة التحرير، ولعلها "الخطيئة الاولى" في هذه الملحمة الشهيرة. وقد تأكدت هذه العلاقة في 11 كانون الثاني يناير الماضي عندما ارغمت قيادة الجيش الرئيس الشاذلي بن جديد على تقديم استقالته، واضعة بذلك حدا مفاجئا لمسلسل "التنازل عن السلطة" في طبق من ذهب للجبهة الاسلامية للانقاذ التي كان من المتوقع ان تفوز بثلثي مقاعد المجلس الشعبي الوطني البرلمان الجزائري الذي يتكون من 043 مقعداً.
لم يكن الرئيس السابق يرى حرجاً في التعايش مع الاسلاميين اذا حصلوا على ثلثي مقاعد البرلمان، وذلك لغاية انتهاء ولايته الثالثة في اواخر 1993. وهذا الميل الذي اتضح لدى الرئيس السابق قبل اكثر من سنة، ازعج جناحاً قوياً في المؤسسة العسكرية وامتداداتها المدنية، خصوصاً عندما ادرك ان بن جديد يحاول التضحية بنظام كامل موروث عن الرئيس الراحل هواري بومدين في سبيل مصلحة شخصية عابرة وغير مؤكدة: ان يتمم ولايته الثالثة حتى نهايتها!
وفي خضم الاحداث الدامية التي ميزت نهاية "العصيان المدني" الذي دعت اليه جبهة الانقاذ ابتداء من 25 ايار مايو الماضي - استطاع هذا الجناح ان يقنع الرئيس السابق بالاستعداد للانسحاب خدمة للنظام، ولمصلحة سيد احمد غزالي وزير الخارجية آنذاك الذي جيء به كمنقذ لهذا النظام في 5 حزيران يونيو 1991.
لكن بعد ان تم القضاء على عصيان الاسلاميين واستتب الامن من جديد، بدا للرئيس الشاذلي بن جديد ان يغير موقفه! وأكثر من ذلك اخذ يفكر - بدافع من بعض المقربين منه - بتهيئة المناخ لطلب ولاية رئاسية رابعة! وبعد رفع حالة الحصار في اواخر ايلول سبتمبر الماضي، بدأ السباق الاخير بين "الرئيس المستقيل" وقيادة الجيش: ايهما يرغم الثاني على الانسحاب بشرف!
وتقول بعض المصادر المطلعة ان اللواء خالد نزار وزير الدفاع وانصاره كانوا اسرع مبادرة في 11 كانون الثاني يناير لأن بن جديد كان عازماً على عزلهم بعد 24 او 48 ساعة على ابعد تقدير من ابلاغه بضرورة تقديم استقالته.
وهكذا وضع الجيش حداً لوضع مهتز قبل ان يلجأ الى خيار جديد، من خلال الاستعانة بالسيد محمد بوضياف احد "الزعماء الخمسة" والشخصية الاولى في مسلسل الثورة الجزائرية. والزعماء الخمسة هم: محمد بوضياف وأحمد بن بللا ومحمد خيضر وحسين آيت احمد ورابح بيطاط.
ولم تكن هذه المرة الاولى التي تستعين فيها المؤسسة العسكرية الجزائرية ببوضياف. ففي ربيع 1962، اي قبيل الاستقلال، اوفد العقيد هواري بومدين قائد اركان جيش التحرير يومها، مساعده عبدالعزيز بوتفليقة ليعرض على محمد بوضياف مسألة التحالف مع جيش التحرير النظامي بصفة خاصة، بهدف استلام السلطة من الفرنسيين، بدلا من الحكومة الموقتة. وكانت هيئة اركان الجيش آنذاك في ازمة مفتوحة مع الحكومة الموقتة للجمهورية الجزائرية حكومة منفى بقيادة السيد بن يوسف بن خدة الذي قرر عزل بومدين ورفاقه في 30 حزيران يونيو 1962! وهو القرار الذي رفضه بومدين وجيش الحدود وظل حبرا على ورق! و"جيش الحدود" هو عبارة عن وحدات نظامية تكونت على الحدود الجزائرية التونسية شرقاً والجزائرية المغربية غرباً، وتقابلها داخل البلاد وحدات المجاهدين المعروفة بقوات الولايات. وقد اعتذر بوضياف آنذاك بحجة انه يفضل "دخول الحكومة الموقتة الى الجزائر وحل مشكلة السلطة على البارد داخل البلاد". وبعد هذا الاعتذار اتجهت انظار بومدين ورفاقه الى "الزعيم" الآخر احمد بن بللا.
ان علاقة المؤسسة العسكرية في الجزائر بالسلطة هي علاقة قديمة، كما تؤكد ذلك الشواهد السابقة، وبوادرها الاولى ظهرت منذ السنة الاولى من عمر ثورة التحرير. فقد حاولت القيادة الداخلية في "مؤتمر الصومام" المنعقد في 20 آب اغسطس 1956 رسم حدود "المؤسسة العسكرية" في حاضر الثورة ومستقبلها وحتى ما بعد الاستقلال، عبر المبدأ الشهير الذي سعى السيد عبان رمضان الى تكريسه، والقائل "بأولوية العمل السياسي على العمل العسكري".. وكانت هذه المحاولة بمثابة "الخطيئة الاولى" في ثورة التحرير الجزائرية، لأنها كانت مثار ردود فعل عنيفة غير متوقعة ممن اعتبروا انفسهم "عسكريين" اكثر منهم "سياسيين".. وكان رد الفعل الاول ظهور بوادر نزاع بين "جبهة التحرير"، المنظمة السياسية للثورة وبين جناحها العسكري "جيش التحرير الوطني"، كاد يتحول الى مواجهات مسلحة دامية.
وكان الضحية الاولى للمبدأ المذكور هو السيد عبان رمضان نفسه، وهو منسق القيادة الداخلية للثورة المعروفة بپ"لجنة التنسيق والتنفيذ" التي انبثقت عن "مؤتمر الصومام". فقد عزل من هذا المنصب الهام الذي خلف فيه محمد بوضياف، بمجرد التحاق لجنة التنسيق والتنفيذ بالقاهرة في صيف 1957 حيث اجتمع "مجلس الثورة" واجرى تحويرا عميقاً على الهيئة التنفيذية المذكورة.
وتجسدت هيمنة "العسكريين" يومئذ في "اللجنة الدائمة للثورة" التي رفض عبان ان يكون عضوا فيها لأنه كان "المدني" الوحيد بين اعضائها الخمسة الذين ما لبث عددهم ان تقلص الى ثلاثة هم كريم وبوصوف وبن طبال. ولم تحتمل هذه اللجنة معارضة عبان فخططت لتصفيته جسديا في اواخر كانون الاول ديسمبر من العام نفسه.
وبفضل هذه الهيمنة اصبح لفظ "عسكري" مرادفا "لثوري"، و"سياسي" مرادفاً "لمعتدل" ان لم يكن مرادفا "لمناهض للثورة"!
صراع العسكر
هذه الوضعية المعقدة على مستوى قيادة الثورة ما لبثت ان افرزت ظاهرة العقيد هواري بومدين.
لقد عمل العقيد بومدين بدءاً من سنة 1958، بصفته قائد اركان قوات جيش التحرير المرابطة على الحدود الجزائرية المغربية، في سبيل بناء مؤسسة عسكرية عصرية وقوية العصبية، بعد ان بث فيها روح العداء "للساسة المحترفين"، وفي طليعتهم الثلاثي كريم وبوصوف وبن طبال الذين "ابتلتهم الظروف بآفة من جنسهم"، لاسيما بعد خطأ تعيين العقيد بومدين على رأس هيئة الاركان العامة للجيش كله في مطلع 1960. ويقول الرائد علي منجلي مساعد بومدين في سياق الصراع الحاد بين "العساكر القدم" و"العساكر الجدد" على قيادة الجيش:
ان بومدين ورفاقه من الضباط الشباب تمكنوا من عزل الثلاثي الذي كان مهيمناً على قيادة الثورة عن قواعده الخلفية في الجيش، ومن ثم افرغ من محتواه اذ لم يعد له سند من قوة يرتكز عليه".
هذا الصراع بين "العسكريين القدم والجدد"، ما لبث ان اتسع ليصبح صراعاً بين الحكومة الموقتة وجيش الحدود، لذلك عندما احتدم الصراع بعد وقف اطلاق النار في 19 آذار مارس 1962 واقدام الرئيس بن خدة على عزل بومدين ورفاقه، اشاعت هيئة الاركان العامة يومها ان الحكومة الموقتة تنوي تجريد قوات الحدود من سلاحها وترشيح افرادها ليكونوا مجرد "قدماء محاربين" لا غير، يتقاضون دورياً منحاً زهيدة من الخزينة العامة...
الا ان هيئة الاركان تمردت وساهمت بتحالفها مع الرئيس الاسبق بن بللا في تدبير اول انقلاب كانت ضحيته الحكومة الموقتة التي حُرمت من استلام مقاليد الحكم من الفرنسيين.
جيش بومدين
ويمكن الاستخلاص ان النظام الذي نشأ في الجزائر مع فجر الاستقلال كان وثيق الصلة بالمؤسسة العسكرية، بل ان هذه الاخيرة كانت الطرف الفاعل الاول فيه. وهناك شواهد اخرى تؤكد هذا الارتباط، منها:
تدخل الجيش غداة الاستقلال في تعيين عدد من الولاة المحافظين عوضاً عن "الهيئة التنفيذية الموقتة" وهي هيئة مختلطة جزائرية فرنسية قامت بادارة شؤون الجزائر في الفترة الانتقالية من وقف اطلاق النار في 19 آذار مارس 1962 الى استفتاء تقرير المصير واعلان الاستقلال في تموز يوليو 1962.
شهادة السيد الشريف بلقاسم احد الرجال الاقوياء في عهد الرئيس بومدين الذي اكد لنا ان "جماعة وجدة" ليست فقط بضع شخصيات قيادية برئاسة بومدين، بل هي عبارة عن شبكة واسعة من الاطارات المتواجدة في مختلف اجهزة الحكم. و"جماعة وجدة" هي جماعة بومدين ونسبت الى هذه المدينة المغربية بحكم نشأتها فيها. وبفضل هذه الشبكة الاخطبوطية الواسعة استطاع جيش بومدين ان يحسم الموقف لصالح "المكتب السياسي" في ازمة صيف 1962، وان يكتسب شيئاً فشيئاً شرعية قيادة البلاد تحت شعار "القوة المنظمة الوحيدة"، وباسم "الشرعية الثورية"!
وبعد فترة تعايش صعب لم تزد على ثلاث سنوات، قرر العقيد بومدين وزير الدفاع وضع حد "للتحالف المرحلي" مع الرئيس بن بيللا، مقدراًَ هو ورفاقه انهم لم يعودوا بحاجة الى "غطاء سياسي". وهكذا كان انقلاب 19 حزيران يونيو 1965 الذي تسلمت المؤسسة العسكرية بموجبه مقاليد الامور كاملة.
وقد تم تأسيس مجلس ثورة بقيادة العقيد هواري بومدين الذي حكم البلاد بقبضة من حديد، وفرض هيبة الدولة، بل افقد المعارضين شهية المعارضة بالترغيب تارة والترهيب تارة اخرى. وتميزت مرحلة بومدين ببعض الاغتيالات الشهيرة في صفوف معارضيه، مثل اغتيال محمد خيضر في مدريد عام 1967، واغتيال كريم بلقاسم في فرانكفورت عام 1970.
وعلى رغم ان الرجل جاء الى السلطة بالقوة، فقد استطاع شيئاً فشيئاً ان يقنع الناس بأنه يحمل مشروع تنمية يشفع له، وما لبث ان تمكن من عواطفهم، بفضل مواهبه القيادية الواضحة ومواقفه الحازمة والجريئة، سواء في معركة التأميمات الشهيرة التي توجت بتأميم البترول والغاز - انتاجاً وتوزيعاً وتسويقاً! - في 24 شباط فبراير 1971، او في دفاعه عن "نظام اقتصادي دولي جديد" يعترف بحقوق فقراء "عالم الجنوب".
المهم ان بومدين الذي اصبح رئيس جمهورية اكتسب شعبية واسعة، والذين كانوا يتوهمون ان المواطنين كانوا مكرهين على تقبله فوجئوا بالامواج الآدمية المتلاطمة التي خرجت لتوديعه الى مثواه الاخير في 29 كانون الاول ديسمبر 1978. ومن هؤلاء محمد بوضياف نفسه الذي عين في 14 من الشهر الماضي رئيسا لمجلس الدولة... فقد "صدم" بشعبية الرئيس الراحل، فقرر تجميد "حزب الثورة الاشتراكية" الذي كان يتزعمه والعدول عن معارضة لم تكن تستند الى تقييم موضوعي لوضعية البلاد!
العلاقة المشبوهة!
وطوال فترة مرض الرئيس بومدين والظروف التي اعقبت وفاته، اثبتت المؤسسة العسكرية انها سيدة الموقف بدون منازع، وما الجهاز الاداري او جبهة التحرير الوطني سوى امتداد مدني وسياسي لها. وقد رأت يومئذ في العقيد الشاذلي بن جديد قائد ناحية وهران مرشحها المفضل، باعتباره "اقدم ضابط في اعلى رتبة". وكانت رتبة عقيد هي اسمى رتبة في الجيش الجزائري الذي ورث ذلك عن جيش التحرير الوطني.. لكن الرئيس الشاذلي حرر الرتب لغاية لواء.
لكن بن جديد ما لبث ان اثبت كما تقول مصادر مقربة من الجيش، انه "دون الامانة الثقيلة" التي اسندها اليه الجيش، واكثر من ذلك اخذ منذ قرابة السنتين "يبرهن على انه دون الثقة التي وضعت فيه، لانه راح يراهن على استبدال "القوة المنظمة الوحيدة - الجيش - بالقوة المنظمة الجديدة": الجبهة الاسلامية للانقاذ".
كانت اطوار "العلاقة المشبوهة" بين الشاذلي والجبهة الاسلامية تتسرب بين الفينة والاخرى الى بعض الصحف المحلية التي تثير دهشة القراء لما "تتحلى به من جرأة نادرة"!
وفي 15 حزيران يونيو 1991 اضطر الجيش الى التدخل للمرة الثانية، بعد تدخله في احداث تشرين الاول اكتوبر 1988 التي خلفت، حسب المصادر الرسمية، حوالي 200 قتيل. وجاء تدخل الجيش هذه المرة بخلفية محددة لدى قيادته: ان انقاذ نظام الحكم لم يعد ممكناً بدون التضحية بالمسؤول الاول وهو الرئيس الشاذلي بن جديد!
وقد بات مؤكداً ان بن جديد كان مقتنعاً في حزيران يونيو الماضي بضرورة الانسحاب تحت غطاء انتخابات رئاسية مسبقة. الا انه بدأ يتراجع عن ذلك بضغط بعض المقربين منه. وفي 24 كانون الاول ديسمبر الماضي اعلن صراحة امام عدد من مسؤولي اجهزة الاعلام المحلية "انه رجل مسؤول ولا ينوي الانسحاب في جو من الفوضى، واذا اقتضى الامر ان يستكمل ولايته الثالثة حتى نهايتها في اواخر السنة القادمة، فلن يتردد في ذلك خدمة لمصلحة البلاد العليا".
وقد فهم الجميع مباشرة من ذلك، ان وعد اجراء انتخابات رئاسية مسبقة اصبح في خبر كان!
المهم ان الانظار اتجهت نحو المؤسسة العسكرية لاحداث التغيير الذي يفرضه وضع البلاد بالحاح. وقد نشرت صحيفة محلية في 19 آب اغسطس الماضي مقالا بعنوان "الجيش والسلطة... والتغيير الممكن" جاء فيه: "ان الارتباط الوثيق بين المؤسسة العسكرية والنظام القائم يوحي بأن التغيير من المفروض ان يأتي عبر هذه المؤسسة التي لا شك انها حريصة على استمرارية النظام بشكل او بآخر. اي حريصة على استمراريتها في آخر المطاف". اما التغيير بواسطة الاحزاب فيتوقعه الكاتب على المدى المتوسط "شريطة ان تعمل الاحزاب بجد على تنظيم نفسها لتكون عن جدارة "القوة المنظمة البديلة".
والحال ان "الجبهة الاسلامية للانقاذ" اثبتت بشعبيتها الواسعة وفوزها بالانتخابات المحلية في حزيران يونيو 1990 والدور الاول من الانتخابات النيابية في 26 كانون الاول ديسمبر الماضي، انها فعلاً "القوة المنظمة الثانية" في مواجهة القوة الاولى المتمثلة في المؤسسة العسكرية.
وفي هذا السياق تبدو استقالة الشاذلي بن جديد بضغط من الجيش، بمثابة سحب البساط من تحت اقدام الجبهة الاسلامية قبل التمكن من الحكم وبالحكم. لكن اجراء الدور الاول من الانتخابات والنتائج التي اسفر عنها، جعل مهمة الجيش في غاية التعقيد.
ان الوضعية الجديدة تطرح العديد من التساؤلات التي تحدد الاجابة عنها ملامح المستقبل في الجزائر على المدى القصير والمتوسط.
فهل يوفق مجلس الدولة برئاسة شيخ المجاهدين الجزائريين محمد بوضياف في كسب "الغالبية الصامتة" التي فضلت الامتناع عن التصويت في كانون الاول ديسمبر او صوتت بطريقة غير مفيدة؟ وبعبارة اخرى هل يستطيع مجلس الدولة - بمساعدة المؤسسة العسكرية - في مدة قصيرة، تكوين قوة سياسية قادرة على مواجهة الجبهة الاسلامية بسلاح السياسة وانقاذ البلاد من مغبة مواجهة محتملة بين الجيش والاسلاميين وهي مواجهة بدأت ملامحها تتضح في الايام القليلة الماضية؟ وهل تبقى الجبهة الاسلامية مكتوفة الايدي بعد ان اصبحت على قاب قوسين او ادنى من السلطة العليا؟
ان التحلل من الشرعية الدستورية من جهة، وتمسك الاسلاميين "بشرعيتهم الشعبية" من جهة ثانية يشكلان لفترة معينة مصدر قلق وتوتر وتهديد مباشر للاستقرار والامن.
وما لم يكسب مجلس الدولة رهان "الغالبية الصامتة"، فان المواجهة بين الجيش والاسلاميين لا يمكن ان تتصاعد باجماع معظم المراقبين. ولتوضيح محتوى هذا الرهان، بناء على نتائج انتخابات كانون الاول ديسمبر يجدر التذكير بأن الجبهة الاسلامية لم تحصل على اكثر من 24 في المئة من اصوات الناخبين المسجلين، اي على 3 ملايين و200 الف ناخب من مجموع 13 مليون ناخب مسجل، صوتوا الى جانب الجبهة الاسلامية. ومعنى ذلك ان "الغالبية الصامتة" التي قد تبلغ 35 في المئة من المسجلين ماتزال مترددة، غير مقتنعة، تبحث عن قيادة في مستوى طموحاتها. فهل يكون مجلس الدولة هو هذه القيادة المنتظرة؟ ام سيكون الوسيلة الى هذه القيادة؟ هذا ما ستجيب عنه الاسابيع بل الايام القليلة المقبلة.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.