شاءت الصدفة ان ينتخب بيل كلينتون في الثالث من الشهر الجاري، أي بعد 24 ساعة فقط من الذكرى الخامسة والسبعين لوعد بالفور. ولعلي اجتهدت بعد ذلك غير انني وجدت ان الصدف لم تتوقف عند انتخابه. آرثر جيمس بالفور، وزير الخارجية البريطانية، وعد اللورد روتشيلد، رئيس الاتحاد الصهيوني البريطاني، باقامة وطن قومي لليهود في فلسطين، وبيل كلينتون وعد اليهود الاميركيين بنقل سفارة بلاده الى القدس اذا انتخب. وكان سبب تقديم اللورد بالفور وعده المشؤوم رغبة بريطانيا في كسب اليهود الى جانبها للفوز بالحرب العظمى، وسبب تقديم كلينتون وعده رغبته في تأمين اصوات اليهود الاميركيين وأموالهم للفوز بانتخابات الرئاسة سنة 1992. ولا تتوقف الصدف - وليسمها القارئ ما يشاء - عند ما سبق، فأعلى صوتين ارتفعا سنة 1917 و1992 ضد الوعود لليهود كانا من يهوديين. في سنة 1917 شن ادوين مونتاغو، وزير الدولة للهند واليهودي الوحيد في حكومة لويد جورج، حملة ضارية ضد قيام دولة يهودية، وأيده زعماء اليهود البريطانيين في حينه. وفي سنة 1992 كان أعلى صوت ضد تدخل اليهود الاميركيين في الانتخابات بشكل يفوق حجمهم هو صوت هاري كاتز، وهذا رجل أعمال يهودي من نيويورك سجل في 22 من الشهر الماضي مخابرة له مع ديفيد ستاينر، رئيس اللوبي اليهودي الرسمي، فاخر ستاينر فيها بنفوذ اللوبي في معسكري جورج بوش وكلينتون، وقدرته على انجاح المرشحين او افشالهم. وسرب كاتز التسجيل الى جريدة "واشنطن تايمز" المحافظة مما أرغم ستاينر على الاستقالة. وقال مونتاغو في حينه ان تأسيس وطن قومي لليهود سيكون كارثة عليهم لأنه سيجعلهم عرضة لتهمة الولاء المزدوج. وقال كاتز قبل أيام انه "لا يجوز ان يمارس اللوبي اليهودي نفوذاً سياسياً أكبر من حجمه... فهذا سيؤذي الجميع، بمن فيهم اليهود". ولا يزال يهود العالم حتى اليوم ينتقدون مونتاغو ويجرحونه، ولا بد ان يضيفوا اليه بعد اليوم كاتز الذي سيجد من اليهود المشهورين معه نعوم تشومسكي والفرد ليليانتال ويهودي مينوحيم. أغرب ما في أمر الافراد اليهود الذين يقاومون الطغيان الصهيوني او الاسرائيلي ان اليهود يهاجمونهم لأنهم "أقلية" لا تمثل احداً. ومثل هذا الهجوم غريب لأنه من اليهود أنفسهم فهم أربعة ملايين وسط 200 مليون عربي، و12 مليوناً وسط 5،5 بليون إنسان، ومع ذلك يصرون على اهميتهم وتميزهم واستقلاليتهم لمجرد انهم اقلية، ثم ينكرون صوت الاقلية بينهم عندما لا يناسبهم. والارث الحضاري الانساني كله يمثل في ما يمثل، مسيرة حفظ حقوق الاقليات وسط الغالبيات المهيمنة، حتى وصلنا الى زمن لا نعرف فيه كيف نحافظ على مصالح الغالبية، إن في الولاياتالمتحدة أو الشرق الأوسط، من تجاوزات الاقلية المتنفذة المسيطرة. وبالنسبة الى العرب أنفسهم فالفتوحات أقامت الدولة العربية الكبرى، وهذه ازدهرت بازدهار الاقليات فيها، ولم تنكمش وتسقط الا والاقليات تتراجع وتضطهد. والاقلية قد لا تكون طائفة بل فرداً واحداً، يصيب حين يخطئ المجموع. وعندنا اليوم مثل غاليليو الذي اعتذر له بابا روما قبل أيام علناً على خطأ ارتكب بحقه قبل 359 سنة. وكان غاليليو أعلن سنة 1633 ميلادية ان الأرض تدور حول الشمس، لا العكس، فاعتبرته الكنيسة الكاثوليكية ملحداً وأرغمته تحت طائلة التهديد بالقتل على ان يسحب نظريته هذه ففعل. ويقال انه همس وهو خارج من المحكمة الدينية "ومع ذلك فهي تدور حول الشمس". وفي السابع من الشهر الجاري اعتذر البابا يوحنا بولس الثاني علناً للعالم الراحل، وقال انه كان مصيباً. بكلام آخر، ان رأي الفرد لا يمكن ان يلغى او يهمل لأنه مجرد رأي انسان واحد، فالتاريخ حافل بأمثال غاليليو، كما هو حافل بأمثال أقلية بعد أقلية كانت اكثر صواباً من الغالبية التي نشطت في وسطها. وهكذا فأنا أريد ان أضيف الى مونتاغو وكاتز اليوم اسم يهودي ثالث أراه أكثر صواباً من الغالبية التي انتخبت كلينتون. اليهودي الثالث هو بول غرينبرغ رئيس تحرير "اركنسو غازيت ديموكرات" الذي كان أول من أطلق لقب "ويلي المحتال" على كلينتون، فهو ابن ولايته وراقب عمله قبل كل الناس. ويقول غرينبرغ ان كلينتون "مجرد من أي مبادئ، وانه لن يلتزم بأي قضية وهو في الحكم، بل سيساير المصالح الخاصة على حساب المصلحة العامة خدمة لمصالحه الشخصية، بغض النظر عن حاجات غالبية الاميركيين". وفي حين إنني لا أصر ان يكون غرينبرغ مصيباً، رحمة بالاميركيين وبقية العالم، غير انني أدرك انه مصيب مثل مونتاغو وكاتز أو أكثر، ولعلنا نسمع قريباً مواطناً اميركياً يقول مع الشاعر... ورب بوش بكيت منه فلما صرت في كلينتون بكيت عليه.