انطلاق كأس العرب FIFA قطر الاثنين بمشاركة 16 منتخباً    "رهف الجوهي" تحصل على جائزة أفضل مدربة تايكوندو في بطولة قطر 2025    تداول يغلق على تراجع سيولة ضعيفة وتباين بأداء الشركات    بدء المحادثات الأمريكية الأوكرانية في فلوريدا لبحث خطة إنهاء الحرب مع روسيا    دمشق وبيروت: هل تريد إسرائيل التفاوض    نائب أمير جازان يستقبل المستشار الشرعي بفرع الإفتاء بالمنطقة    أمير جازان يطلع على أعمال البلديات في محافظات المنطقة    تعادل تشلسي وآرسنال في قمة الجولة ال 13 من الدوري الإنجليزي الممتاز    كأس نادي الصقور 2025" يسدل الستار على مسابقة الملواح ب6 أشواط ختامية للنخبة    أمير جازان يستقبل المستشار الشرعي بفرع الإفتاء ويدشّن برنامج "معًا.. شرع وأمن    السودان 2025: سلام غائب وحرب تتوسع    أمير منطقة جازان ونائبه يطمئنان على صحة مدير عام التعليم ملهي عقدي    الرياض تكتب فصلا صناعيا جديدا    المجلس الوزاري لمجلس التعاون يعقد دورته 166 تحضيراً للقمة الخليجية (46)    جامعة الخليج العربي ومركز اليونسكو يعلنان تفاصيل الملتقى الدولي لتطوير برامج التعليم الجامعي    مجمع الملك سلمان العالمي للغة العربية يكرم الفائزين بجائزته في نسختها الرابعة    القيادة تهنئ بربادوس بذكرى الاستقلال    محافظ الأحساء يدشن مبادرتي "سكرك بأمان" و"الشرقية مبصرة"    الاتحاد يلاقي الخلود والهلال يواجه الأهلي في نصف نهائي كأس الملك    محافظ الطائف يكرم 14 مدرسة في مبادرة المدارس المستدامة    نائب أمير مكة يستعرض جاهزية منظومة الحج    8 قرارات هامة لأعضاء أوبك والدول المشاركة من خارجها    مكتبة الملك عبدالعزيز العامة تدشن معرض "الحرف اليدوية السعودية : موروث الإبداع الثقافي"    أبها يعزز صدراته وغايتان لابورد يلاحق الهدّافين    برعاية أمير المنطقة الشرقية جامعة الإمام عبد الرحمن تطلق "مجتمع شامل "    33 عامًا من الإخلاص… العماشي يختتم مسيرته ويترك بصمة لا تُنسى في تعليم جازان    وكالة الفضاء السعودية: عام 2025 يشهد نشاطا شمسيا متزايدا    القبض على مواطن بتبوك لترويجه ( 4,865) قرصاً من مادة الامفيتامين المخدر    5,651 موقعًا تشكّل قاعدة جيولوجية للتعدين بالمملكة    ارتفاع دخول مواطني دول الخليج إلى المملكة بنسبة 5.83%    عودة 270 ألف طالب وطالبة إلى مقاعد الدراسة في الطائف بعد إجازة الخريف    أمطار رعدية على جازان وعسير والباحة ومكة.. ورياح وغبار تمتدان إلى مناطق شمالية وغربية    إعلان القائمة الأولية للمترشحين والناخبين لإدارة "هيئة المهندسين"    جدة تختتم منافسات الجولة الرابعة من بطولة العالم لسباقات الزوارق السريعة الفورمولا1    رافد الحرمين تبدأ تدريب العاملين لخدمة ضيوف الرحمن لموسم حج 1447ه بمسارات اللغات.    محمد التونسي ورئيس ثقات الثقافي يكرّمان د/أمل حمدان نظير جهودها    إغلاق 1.3 ألف منشأة مخالفة بحملة «مكة تصحح»    لبّان بروفيسوراً    وسط ضغوط سياسية وقضائية.. جدل التجنيد يتجدد في إسرائيل    مقتل فلسطينيين وسط استمرار إدخال المساعدات.. الاحتلال يواصل التصعيد العنيف في غزة    الفرنسي «سيباستيان أوجيه» يتوج ببطولة العالم للراليات في جدة    أمران ملكيان بالتمديد لنائب ومساعد وزير الاقتصاد 4 سنوات    بحضور محافظ جدة .. القنصلية العمانية تحتفل باليوم الوطني لبلادها    تنطلق خلال الربع الأول من 2026.. خطة تحول كبرى جديدة لمطار الملك خالد الدولي    فيلم سعودي يستعيد بطولات رجال مكافحة المخدرات    احتضنته جزيرة شورى في البحر الأحمر بحضور الفيصل والدوسري.. وزارة الرياضة تنظم لقاء يجمع قيادات وسائل الإعلام السعودية    القيادة تعزّي الرئيس الصيني في ضحايا حريق المجمع السكني بهونغ كونغ    مصر تؤكد ضرورة تثبيت وقف إطلاق النار في غزة    الزهراني يحتفل بزواج عارف    أطعمة تساعد على النوم العميق    استشاري: ألم الصدر المتغير غالباً ما يكون عضلياً    حماية النشء في منصات التواصل    أمير جازان يعزي أسرة المحنشي    القنفذة الأقل ب4 أطباء نفسيين فقط    موجة انتقادات متجددة لShein    آل الشيخ ل الوطن: المملكة تحمل لواء الوسطية والاعتدال حول العالم    مدير إقليمي وافد يعلن إسلامه متأثرا بأخلاق المجتمع السعودي والقيم الإسلامية    أمير تبوك يستقبل القنصل العام لجمهورية الفلبين    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



أسقطته غالبية الدورة "الثانية" في عهد الملك فيصل ... وانتصرت له أخيراً غالبية الدورة ال72 بعد نقاش دام طويلاً . هيئة كبار العلماء تجيز "التقنين" ... وقصته بدأت قبل 100عام
نشر في الحياة يوم 18 - 03 - 2010

على رغم التكتم الشديد من جانب هيئة كبار العلماء على نتائج مداولاتها الأخيرة، في اجتماع استمر أسبوعاً كاملاً في الرياض، إلا أن مصادر وثيقة الصلة بأم الهيئات الدينية في السعودية، كشفت ل"الحياة"أن الأعضاء أنهوا جلساتهم بإقرار ما يعرف بمشروع"التقنين"، الذي بدأ النقاش حوله قبل قرن، في عهد الملك عبدالعزيز، إلا أن الحسم بتأييده من جانب أكابر العلماء تأخر كثيراً، لكنه أتى هذه المرة كأول ثمرة لإعادة هيكلة المؤسسة، وتطعيمها بفقهاء من معظم المشارب الفقهية.
ومع أن الأجواء التي صاحبت إقرار"المشروع"ظلت مجهولة، بسبب طبيعة سرية اجتماعات كبار العلماء، إلا أن التحولات الكبيرة في المجتمع السعودي، والإصلاحات القضائية والدينية التي سبقت انعقاد الهيئة في دورتها ال 72 كانت كافية للجزم بما سيفضي إليه نقاش حول مشروع من هذا القبيل، يجمع معظم علماء السعودية القريبين من الشأن القضائي حالياً، على ضرورة اعتماده وتفعيله.
غير أن تلك العوامل حتى معها، احتاجت المسألة إلى دورتين لكبار العلماء حتى تحسم. فبحسب المعلومات الواردة من كواليس"الهيئة"، بدأ نقاش التقنين في اجتماعها الذي عقد في آب أغسطس الماضي، إلا أن تشعب الآراء حول مسودة القرار، أحوجت أولي الأمر، إلى ترحيله لدورة بعدها، عقدت في نهاية كانون الثاني يناير الماضي، إذ كتب فيها العلماء ربما"خاتمة فصول التقنين"، التي بدأت قبل حين من الدهر، على يد فقهاء وخلفاء وأمراء، أبلى كل في ناحيته ما استطاع. لكن مهر"ورثة الأنبياء"القضية بتأشيرة أناملهم"الذهبية"وإن منحها حق اللجوء الفقهي في المشهد المحلي، وأنهى أعقد الخطوات، إلا أنه في رأي الخبراء ليس إلا بداية عمل مضن آخر، يحتاج عقولاً استثنائية، تأتي على الفقه والشريعة ولا تذر، قبل أن تسكب رحيق أفكارها في"وعاء"موسوعي، يكون مثلاً يغني"القضاة"عما سواه أو يكاد، ويسهل مهمتهم في الوصول إلى"الحكم بدليله، وسوابق التقاضي"بسهولة خارقة.
ويرى أحد القضاة البارزين الذين شاركوا في لجان صوغ"مدونة الأحكام"، أن الخطوات التالية ستكون متعددة ومتشعبة، تتطلب تشكيل لجان مكونة من خبراء في اختصاصات فقهية وقضائية عدة، ثم لجان صياغة، تكتب الأحكام المدونة بطريقة محترفة، عبر مراحل مراجعة دقيقة ومضنية.بينما يعتبر المحامي الدكتور محمد المشوح وزارة العدل ومجلس القضاء الأعلى والمحكمة العليا جهات يتوقع أن تنهض بالذي يتلو إقرار كبار العلماء ل"تدوين الأحكام الفقهية"، والمبادئ والأسس الجامعة للمشروع.
وكانت وزارة العدل بدأت أول عمل للتدوين 2007 عندما أخرجت أول إصدار من"مدونة الأحكام القضائية"، تنفيذاً لقرار سابق من مجلس الوزراء، كلف وزارة العدل ب"بنشر الأحكام النهائية المختارة الصادرة عن المحاكم بعد تصنيفها وحذف الأسماء منها"، إلا أن"التقنين"المنشود أوسع من ذلك بكثير، إذ يتجاوز أحكام القضاة، إلى آراء الفقهاء في كل المذاهب السنية المعتبرة.
ماذا يفيد التقنين؟
أما الآمال المعقودة بالتقنين الذي انتظره المهتمون عقوداً، فهي بحد ذاتها قصة، كانت مادة جدل مستمر على الساحة السعودية بين المدافعين عن التدوين أو التقنين معناهما واحد، والرافضين له منذ أن طرح الموضوع باكراً في عهد الملك عبدالعزيز إلى اليوم.
في ظن الفريق الأول أن حسم أمر التقنين، سيحل مشكلات عدة، أبرزها تناقض الأحكام وتفاوتها، إلى جانب تسهيل مهمة القضاة لاختصار الزمن الشحيح بالنسبة إليهم، مما سيؤثر إيجابياً في مسألة أخرى هي تأخر البت في القضايا المنظورة في المحاكم السعودية، التي تشتكي من نقص القضاة أصلاً، قياساً بعدد السكان.
أبرز رجال هذا الفريق الشيخ عبد المحسن العبيكان الذي أبلغ"الحياة"في اتصال هاتفي أن التقنين"يسهم في إقامة العدل المنشود في قضايا الخصوم، ويسهل مهمة القاضي، ويريحه من المشقة، وإطالة البحث في الوقت الذي يطلب منه سرعة البت في القضايا المعروضة المتراكمة، والتي تزداد يوماً بعد يوم، بل يعالج ما نراه من تضارب في الأحكام الصادرة في موضوع واحد في البلد الواحد، أو ربما في المحكمة الواحدة، إن لم يكن من القاضي الواحد". فيما اعتبر المحامي المشوح التدوين حلاً ناجعاً لكثير من معاناة المؤسسة القضائية اليوم، إذ المتأمل كما يرى في ذلك الميدان"يدرك بجلاء ووضوح ضرورة هذه المدونات المتضمنة للأحكام وفق أقوال أهل الفقه ونوازل القضاء، وباعتقادي أن ذلك سيسهم إلى حد كبير في تقليص التأخر في البت والحكم بالقضايا. كما أنه سيؤدي إلى تضييق ما يسميه البعض بالتناقض أو الخلاف في الأحكام، وإن غاية وحجة المطالبين بعدم تدوين الأحكام هي تلك المساحة الواسعة التي يرغبون في إيجادها للقضاة بالاجتهاد والبحث الفقهي، ولا شك في أن هذا متعذر في هذا الزمن الذي شغل به القضاة في كثرة القضايا والالتزامات الأسرية والاجتماعية مما يتعذر معه وجود وقت كافٍ لذلك البحث العلمي والاجتهاد الذي انقضى".
بل توقع المشوح عند تحويل"التدوين"إلى واقع معاش، أن يسهل ذلك مهمة الخصوم والمحامين سوياً، فباعتقاده"عبر مطالعة المبادئ والأحكام المقننة، يمكن للمحامي إقناع الخصم بما ستؤول إليه قضيته على وجه التقريب، ما سيدفع كثيرين إلى ترك التقاضي ابتداء، وأحياناً يكون العكس صحيحاً. لكن النتيجة في كلتا الحالتين ليست ضبابية بالكلية كما هو معتاد".
في حين استقصى أحد الباحثين المحترفين في جامعة الملك خالد الدكتور عبدالرحمن بن أحمد الجرعي، مسألة"التقنين"عبر العصور، في بحثه"تقنين الأحكام الشرعية بين المانعين والمجيزين"، عبر ستة فصول ناقش فيها أدلة المؤيدين للتقنين والمعترضين عليه، ليخلص هو إلى انتصاره للفريق المؤيد، معللاً ذلك بوجاهة رأي القائلين بجواز التقنين، واقتناعاً منه بأجوبتهم على حجج الرافضين. لكنه أضاف إلى ذلك أسباباً أخرى، بينها كما قال:"ما استجد في واقعنا المعاصر من ظروف تقتضي إعادة النظر في النظام القضائي، ليكون هذا النظام أكثر ضبطاً، ووضوحاً بالنسبة للقاضي أو المتقاضي، وكذلك احتكاك بلدنا ببقة بلدان العالم بخاصة مع الانفتاح العالمي على غيرنا، ما يستدعي كتابة المواد التي يتقاضى إليها. بخاصة أن غيرنا سيطالبنا بها، إذا أردنا أن نقاضيه إلى شرعنا، فلا يمكن أن نحيله إلى مجموعة من كتب الفقه المذهبي أو المقارن، فإن لم يوجد شيء مقنن ومرتب، فإما أن تفوت علينا مصالح لا نستغني عنها، وإما أن نتحاكم إلى قوانين ليست لها علاقة بالشريعة الإسلامية. التقنين وإن لم يسلم من المؤاخذات، إلا أن الأخذ به في هذا الوقت من باب ارتكاب أدنى المفسدتين لدرء أعلاهما".
إلا أن الجرعي نبه إلى جزئية محورية حتى في نظر المطالبين الرسمين بالتقنين، هي أن"التقنين يستلزم الانفتاح على المذاهب الفقهية المعتبرة وآراء المفتين من الصحابة والتابعين، وأخذ أفضل ما في كل منها في كل مسألة بعد النظر والتمحيص في ضوء الأدلة وقواعد الاستنباط، إذ لا يوجد مذهب واحد يحتوي على الراجح في كل مسألة". وعلى هذا الصعيد يعتبر كثيرون أصلاً أن أحد أبرز ثمرات التقنين هذا الانفتاح الذي طالب به الباحث، بحكم منحه المقنن والقاضي على حد سواء هامشاً من المرونة والخيارات، في عصر يستثقل العامة فيه حتى الرخص فما بالك بالعزائم!
حوار بين المؤيدين والمعترضين
في ما يخص المعترضين على"التقنين"باعتباره إجراء محرماً شرعاً، فإنهم أيضاً شريحة كبيرة بين العلماء السعوديين، لكنها أخذت تتناقص مع ذهاب الرعيل الأول الذي رفض المسألة حين طلب رأي كبار العلماء فيها قبل عقود.
وبين المعترضين عليها من المعاصرين المشايخ: صالح بن فوزان الفوزان، وعبدالرحمن العجلان، وعبدالله الغنيمان، وعبدالرحمن بن صالح المحمود، وعبدالرحمن بن سعد الشثري، إلا أن الأهم من أسماء المعترضين تبريراتهم، التي أجاب عنها القائلون بالجواز، ولخص الرأيين الباحث الجرعي في بحثه المشار إليه، عبر نقاط أبرزها: أولاً: الآيات التي توجب الحكم بما أنزل الله ومنها قوله تعالى:"إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله"النساء: 105 وقوله تعالى:"فأحكم بين الناس بالحق"ص:26، فهاتان الآيتان تأمران بالحكم بما أنزل الله وهو الحق، والحق لا يتعين بالراجح من أقوال الفقهاء، لأنه راجح في نظر واضعيه دون سواهم فلا يصح الالتزام به ولا اشتراطه على القضاة عند توليتهم ولا بعدها الراجح حكم بغير ما يعتقد القاضي أنه حكم الله ورسوله فهو حرام ويلزم منه منع الإلزام بالتقنين.
يمكن أن يجاب عن الاستدلال بالآيات السابقة أنها عامة، وليست في موضوع الإلزام، ويصعب القول إن ما يختاره العلماء من الأقوال الراجحة هو خلاف الحق، أو أننا إذا رجعنا إلى قولهم فإننا نرجع إلى غير كتاب الله وسنة رسوله ? صلى الله عليه وسلم-. فمن أين أخذ هؤلاء إذاً؟
ثانياً: قوله صلى الله عليه وسلم:"القضاة ثلاثة: واحد في الجنة واثنان في النار، فأما الذي في الجنة فرجل عرف الحق فقضى به، ورجل عرف الحق وجار في الحكم فهو في النار، ورجل قضى للناس على جهل فهو في النار"ووجه الاستدلال به: أن الحكم المانع من الإثم هو الذي يرى القاضي أنه الحق والرأي الراجح المدون ليس بالضرورة هو رأي الحق في نظر القاضي فإن قضى بخلاف ما عرف أنه الحق أثم ويلزم منه منع الإلزام بالتقنين.
يجاب عن هذا الاستدلال بما أجيب به عن الاستدلال السابق. ثالثاً: الإجماع على عدم إلزام الناس بقول واحد وحملهم عليه. كما نُقل عن شيخ الإسلام ابن تيمية وغيره.
يجاب عنه: بأن هذا الإجماع غير مسلّم، لأنه قد وجد من العلماء من قال بخلافه، ثم إن القول بالمنع من الإلزام بقول واحد قول صحيح لو كان جميع القضاة من المجتهدين، أما وقد علمنا أن العدد المطلوب تعيينه من القضاة للفصل بين خصومات الناس يلزم تعيين من لم يصل إلى مرتبة الاجتهاد ? وهم كثير ? فيصبح تعينهم جائز للضرورة أو الحاجة، وبالتالي فإن إلزامهم بقول واحد في هذه الحالة أمر سائغ. رابعاً: ان تدوين القول الراجح والإلزام به مخالف لما جرى عليه العمل في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين ومن بعدهم من السلف الصالح، وعُرضت هذه الفكرة من قبل إلى جعفر المنصور على الإمام مالك فردها وبين فسادها ولا خير في شيء اعتبر في عهد السلف من المحدثات.
يمكن أن يجاب عن هذا: أن عدم وجود هذه الفكرة عند السلف لا يعني منعها، فلعل دواعيها لم توجد، ورأي الإمام مالك رحمه الله قد خالفه فيه غيره، ولو لم يخالفه غيره فليس قوله بمجرده حجة. خامساً: ان الصياغة للأحكام الفقهية بأسلوب معين سواء كان من أفراد أو لجان فإنها ستتأثر ببشريتهم، ونسبتها إلى حكم الله ليست دقيقة، بينما صياغة نصوص الشرع ربانية معجزة، ويمكن نسبتها إلى الله فيقال أحكام الله تعالى.
يجاب عن هذا: بأن التقنين مثله مثل الفقه، فهو لا يخرج عن صياغة فقهية لا أكثر، وما بقي من ترتيب ووضع أرقام متسلسلة، فهو أمر شكلي يسهل الرجوع للأحكام ولا يؤثر في مضمونها. سادساً: التقنين لا يرفع الخلاف في الآراء، وهو من أهم مبررات التقنين، وهذا ما أثبتته تجربة الدول التي دونت الأحكام المعمول بها، إذ يختلف القضاة في تفسير النصوص.
يجاب عنه: بالتسليم بما ذكروه، لكن التقنين يحد من الاختلاف، وإن لم يرفعه، وهذا هو المطلوب.
سابعاً: أثر التقنين في حركة الفقه عموماً والقضاة خصوصاً، إذ يؤدي إلى تعطيل الثروة الفقهية، لأن عمل القضاة سيرتبط بهذه القوانين شرحاً وتفسيراً، ما يعطل التعامل مع كتب الفقه، ويحجر على القضاة، ويوقف حركة الاجتهاد والنشاط الفكري، لتلبية مطالب الحياة المتغيرة، ومواجهة الأنظمة والأعراف والمعاملات المتجددة.
أُجيب عن هذا: بأن التقنين ليس فيه حجر كبير على القضاة لأن تدوين الفقه لا يمنع الاجتهاد، والحياة تولد من المستجدات، ما يعطي القاضي المجتهد مجالاً واسعاً في تبني أحكام جديدة لها، ويكفيه أن يجتهد في ملابسات القضية المعروضة عليه، وتعينه على الاجتهاد في القضايا الأخرى اللجان المختصة لوضع القوانين، كما أن للأحكام المقننة مذكرات إيضاحية وشروحاً، ولا يستغني واضعو هذه المذكرات والشروح عن كتب الفقه، ويظهر لي والله أعلم أن التقنين فيه كثير من التضييق على القضاة المجتهدين وتأطير لهم، ليكون عملهم ضمن مواد التقنين، لكن إنزال هذه المواد على القضايا المعروضة عليه فيه نوع من الاجتهاد، مع ملاحظة قلة المجتهدين في قضاة اليوم. ثامناً: أن كلمة"تقنين"يخشى منها أن تكون طريقاً لإحلال القوانين الوضعية مكان الشريعة الإسلامية، فيكون التشابه في الاسم أولاً، ثم المضمون ثانياً، عياذاً بالله. فمنع هذه التسمية واجب من باب الحذر.
يجاب: بأن هذه التسمية"كالتقنين"ونحوه مواصفات واصطلاحات المراد منها مفهوم ومعلوم للجميع، ولا مشاحة في الاصطلاح، والتخوف من المصطلح لإشكاليته أو مشكلاته يمكن أن يحل بإيجاد مصطلح مناسب.
وما يذكر من أن التقنين خطوة إلى إلغاء الشريعة الإسلامية والاستدلال بعمل بعض الدول التي دونت الراجح من أقوال المذهب الذي تنتسب إليه في مواد، ثم ألزمت بالعمل به في محاكمها، ثم ألغت الشريعة مطلقاً، فهذا مردود بأن تلك الدولة لم يقتصر تنكرها للدين على السلك القضائي في المحاكم، وإنما نفضت يدها من الدين مطلقاً، وانتقلت إلى دولة علمانية، وكثير من الدول الإسلامية لم يكن القضاء عندها مقنناً، بل كانت تحكم بالراجح من مذهب إمام من أئمة المسلمين، فكان منها عياذاً بالله أن ألغت العمل بالشريعة الإسلامية، وأخذت بقوانين أوروبا، فليس التدوين التقنين وسيلة إلى تحقق ما بدت المخاوف منه. تاسعاً: أن الأحكام الشرعية المقننة إذا ما عدّلت - وهذا من طبيعة كل عمل بشري - فإنها تؤدي إلى زعزعة الثقة بأحكام الشريعة الإسلامية، وكثرة التعديلات التي تجرى على القوانين تبعدها عن أصلها الشرعي كما هو مشاهد في قوانين الأحوال الشخصية.
أجيب عن هذا: بأن القاضي غير ملزم بالبقاء على اجتهاده الأول إذا صح لديه الدليل باجتهاده الجديد، ومنعه - في هذه الحال - يؤدي إلى المنع من الأخذ بالدليل، ولا يقول به أحد والتقنين مثله، كما أن القول بعدم تعديل القوانين إذا ظهرت المصلحة في تعديلها، بناقض بناء الإسلام على رعاية مصالح الناس، وصلاحيته للتطبيق في كل زمان ومكان.
جدل حول"المصطلح"والمذهب والإلزام
الجدل حول"التقنين"طاول حتى المصطلح نفسه، هل يسمى"التقنين"أم يطلق عليه"التدوين"؟ كما تناول ما ينطوي عليه المصطلح، فما الذي يدوّن، وكيف يدون، وهل المدونون يلتزمون بالمذهب الحنبلي الرسمي، أم يسيحون في كل أقوال فقهاء المذاهب الأربعة، والظاهرية، وأقوال فقهاء لهم اختياراتهم الخاصة؟ وهل يلزم القضاة بما في المدونة، أم أن من شاء استعان بها ومن شاء تجاهلها؟
عند تحرير المصطلح يجمع المهتمون على أن"التدوين"أفصح، إلا أنهم مع ذلك يعتبرون"التقنين"وإن كان مصطلحاً غير عربي، إلا أنه جرى استعماله باكراً من جانب فقهاء وعلماء قبل قرون، ما يجعلهم يرون جدوى النقاش حول ذلك ضئيلاً.
فيما كشف الشيخ عبدالمحسن العبيكان الذي يصنف"أبو التقنين"في السعودية، أن أقصى ما يطالب به ويدافع عنه"صوغ الأحكام الفقهية - صياغة واضحة - على شكل مواد مبسطة مختصرة يفهمها الناس في تعاملاتهم، ويعرفون ما يحكم به القضاة، ويعرف القضاة ما يحكمون به، ويعرف الذين يأتوننا من خارج البلاد أن هذه أحكامنا، ويستطيعون أن يعرفوا ما لهم وما عليهم من الحقوق والواجبات. بل ما الإيجاز في الكتب الفقهية على شكل مختصرات، وأحكام التجويد على شكل إشارات إلا نوع من أنواع التدوين الذي نحن بصدده. وليس التدوين أو التقنين الذي ندعو إليه بأكثر من هذا، بل هو في جوهره ومضمونه نوع منه، كما وأنه بحسب غايته وهدفه ليس إلا وسيلة لحفظ أحكام الشريعة وتأكيداً لتطبيقها".
على أن باحثين آخرين يخلصون إلى أن التقنين يقصد به"صياغة الأحكام في صورة مواد قانونية مرتبة مرقمة على غرار القوانين الحديثة من مدنية وجنائية وإدارية... الخ. وذلك لتكون مرجعاً سهلاً محدداً يمكن بيسر أن يتقيد به القضاة، ويرجع إليه المحامون، ويتعامل على أساسه المواطنون". أما كيف يتم فإن ذلك يتعلق بالآلية التي ستبدأ الجهات القضائية والشرعية في رسمها. وفي شق المذهب يقطع المطالبون بالتقنين بأنه لن يكون على مذهب واحد، إذ كانت أول مطالبة بهذا الإجراء في عهد الملك عبدالعزيز، ونص خطابه إلى الفقهاء على"اعتماد القول الراجح من المذاهب الأربعة".
بينما لا يزال الاختلاف حول إلزام القضاة بالمدونة موضع نقاش، إلا أن الرأي الوسط بين الاختصاصيين السعوديين هو الداعي إلى عدم إلزام الفقهاء بما في المدونة المنتظرة، شريطة أن يبدي القاضي الخارج عما قررته أسباب ذلك في صك الحكم، إلا أن العبيكان الذي بدا كالمتبني للقصة أجمعها طمأن الخائفين من الإلزام، بأنه على رغم عدم اعتراضه على الإلزام الذي أيده جمع من كبار العلماء السعوديين، إلا أنه لا يرى إقراره"لعدم الحاجة إليه وخروجاً من الخلاف، ولأنني أثق بأن القضاة سيلتزمون به من دون إلزام".


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.