تركت الحرب العالمية الثانية أوروبا في حالة من اليأس وفقدان الأمل، فتزعزع إيمان الناس، وانهزّت ثقتهم بالكنيسة التي لم تستطع منع الحرب وإنقاذهم من المعاناة والموت، ونزع الكثير إلى اعتناق الفلسفة الوجودية، وتتلخص في إعلاء الوجود المادي على الجانب الروحي للإنسان. فظهرت مسرحية"في انتظار غودو"عام 1952 للأديب الأيرلندي صموئيل بيكيت والحائز على جائزة نوبل للأدب، ليرينا الحالة التي وصل إليها الناس من التشتت والانهيار الأخلاقي والشعور بعدم الانتماء، مطلقاً عليهم اسم الجيل الضائع، في مسرحية ليست بالتقليدية، فلا مجريات مهمة أو تطور للحدث، أو تغيّر في المكان أو الزمان، وإنما تبدأ تماماً مثلما تنتهي، شخصيتاها عبارة عن مشردين يفترشان أرضاً جرداء، فيها شجرة تحمل بعض الأوراق الصفراء، يتبادلان حديثاً خالياً من أي هدف وفي معظم الأحيان غير مفهوم، في محاولة دائبة ويائسة لإيجاد معنى للحياة... العالم من حولهما ساكن، لا جديد فيه، وهما جالسان في مكانهما بحجة انتظار شخص اسمه غودو سيحضر ويبدل حياتهما نحو الأفضل، فلا يفعلان شيئاً سوى ترديد حوار عبثي وانتظار غائب لا يأتي أبداً. كلمة أخيرة: عندما هزم السلطان العثماني سليم الأول عام 1516 المماليك في معركة مرج دابق قرب حلب، وتمكن من أسر الأمير المملوكي، دار حوار في ما بينهما عن أسباب الهزيمة، وعوضاً عن أن يفسرها الأمير بالخيانة والفرقة وبلادة التخطيط وافتقاد جيشه للأسلحة النارية التي كانت في حوزة خصمه، يكتفي بإرجاعها إلى أساس غيبي وعليه أن يرضى بحكم الله ولا يعترض، وهو نفس المنطق الذي انتقده علماء الحملة الفرنسية على مصر حين وصفوا أهلها بالتواكل وسوء إدراكهم لمسألة الأقدار وذلك بقولهم:"وينظر المصريون إلى الاحتياطات التي تم اللجوء إليها لمنع انتشار الطاعون بأمور لا جدوى منها، إذ إنهم لن يصابوا بأذى إذا كان مقدراً لهم العيش، كما أن شيئاً لن يحميهم إذا ما أرادت لهم مشيئة الله الموت، فيقودهم هذا الفهم المغلوط للقضاء والقدر إلى استسلام لا حدود له يفسر معه خضوعهم..."، فكم في حياتنا من غودو ننتظره مع علمنا بأنه لن يظهر! وبأنه ليس بأكثر من وهم، فإذا أردنا الاحتيال على ضعفنا وتكاسلنا وعدم أخْذنا بالأسباب والعلل قلنا:"إنها مشيئة الله"، وهو تشويش لا يقتصر على المصريين أو المسلمين عامة، فقد راج إبان الصراعات بين الوثنية والمسيحية منظور مفاده أن المسيحية تقف وراء تدهور الأحوال الاقتصادية في الإمبراطورية الرومانية، وذلك قبل أفولها طبعاً، وأن الآلهة الوثنية قد غضبت على روما فأسقطت إمبراطوريتها، ومع هذا كله، فقد انتصروا على غودو"هم"، فمتى نتخلص منه فنتحرر؟ وقالوا:"احتقرت نفسي عندما احتملت ما حل بها لضعفها ثم نسبت صبرها للقوة"جبران خليل جبران. [email protected]