«لا شيء يحدث، لا أحد يأتي»... عبارة استراجون الموجهة إلى فلاديمير في مسرحية الأيرلندي صموئيل بيكيت (1906 1989)، تنطبق بصرياً على معرض الفنان العراقي صادق الفراجيوالذي استعار له عنوان عمل بيكيت «في انتظار غودو (نُشِر عام 1952) ويستمر في صالة «أيام دمشق» حتى نهاية الشهر الجاري. لكن الفارق الوحيد هو الأسى الذي يشوب الشخصيتين، من دون تخفّيه وراء نسيانهما قلقَ الترقب. كأنهما ينتظران في سجن أو نفق مظلم. فالأسئلة الكثيرة المطروحة مسرحياً، والتأمل في تفاصيل المحيط لإخراج حقيقةٍ ما، قد يقودان إلى معلومة عن غودو، لم تتوافر في مجموعة من أربع لوحات في المعرض. ولعل فن الفيديو المرافق، أخرج الشخوص من حالتها المسرحية ليجعلها خاصة بالفراجي وحده. ثلاثة أجزاء تجعل العمل الغرافيكي الأول أشبه برصدٍ لإنسان عصري ينتظر في الشارع. وعلى رغم انعزال الشكل عن محيطه، فهو يصمد بسواده أو ربما هو ظلّه، ينظر إلى الأسفل وإلى الأعلى ثم إلى الأمام. لا يخوض أيَّ حوار مع الآخر، يعيش في عزلته الكئيبة، وتتشكل حدقة العين بهيئة أقرب إلى اللقطة الفوتوغرافية، فيُفسّر البياض والسواد على نحوٍ مرعب. يكاد الشخص أو الكائن الأسود يتلقّى موته، بنظرته الحائرة والحادة في الوقت ذاته. العمل الآخر، ذو الأجزاء الخمسة، يولّف حركة متتابعة من الانتظار. لكنه انتظار مملوء بالهزيمة والاضمحلال، حتى إن الكائن يتقوّس من جرّائه، فيبدو كإنسان أفريقي يعاني مجاعة، إذ ترافق بطنه المنتفخة نحوله الاستثنائي. وعلى رغم أن الشخصية تبدو ذكورية إلا أنها تُذكّر بامرأة حامل. وفي المنتصف يجثو الكائن على الأرض، كأن يديه (لا يظهر الكفّان في مجمل الأعمال) مُكبّلتان. إن غياب الشخص المنتظر يتسبب في عنف يقع على الكائن الأسود، نفسياً على أقل تقدير، ويرتسم التعب على كامل البورتريه. فلا تفاصيل للوجه أو للجسد تُفسّرهما، لكن اللون الأسود القاتم، وبياض العين، يدلان على التهالك. في اللوحتين التاليتين، يفرد الفراجي مساحة لرأسين مستلقيين، ما يعني استحضاراً ل«استراجون وفلاديمير». ومع ذلك يبقى الكائن الأحادي مقصياً عن أي شريك آخر، إذ ربما أراد الفراجي، الحائز دبلوم الدراسات العليا في تصميم الغرافيك من معهد كونستانتين هايجنز الهولندي، تشكيلَ غودو نفسه. فالرأسان متعاكسان بطريقة لا توحي بأي حوار بينهما. بل هما يحدقان في السماء بلا معنى أو استفسار. إلا أن تكوين الرأس، كما التكوينات الأخرى، يحتوي قليلاً من البياض. النظرة الصارمة إلى الآخر لا تفارق أيضاً اللوحة الأُخرى التي يتقابل فيها الوجهان، وكل منهما مُتبرّم بالآخر. الإحساس الحلمي المتوافر في الأعمال اختلط بالواقع، عبر العين التي لا تزال أشبه بعين من لحم ودم، وسط التقاسيم شبه الكرتونية الأخرى. «كان يا ما كان...»، يعود الفراجي هذه المرة إلى بيت عائلته في مقطوعة الفيديو من خلال «ذلك البيت الذي بناه أبي» (فيلم فيديو-6 دقائق). لكنه يرسم يدوياً لوحات عدة، ويصنع مادة الفيديو من رسوم متحركة بالأبيض والأسود أيضاً، وفيه تكون الشاشة هي اللوحة العامة التي يقف وسطها الكائن القاتم ذاته. إلا أن مربعاً صغيراً، يُمثّل نافذة على الماضي، لا يتركه وشأنه، بل تتوالى في المربع صورة الأب والأم، وتفاصيل كابوسية من ذكريات سيئة. فهناك موت يشي به الفيديو، لأن العائلة التي تأكل على مائدة صغيرة تتوارى ملامحها، لتصبح جالسة على الأرض تباشر طعامها القليل. يصنع الفراجي ذلك كله من دون دقّة. فهو يتعمّد وضع الصورة في إطار مرتبك وغير واضح، ليثبت نظرية الحلم المظلم أو الكابوس. ومن الكائن المنعزل، يتهاوى ما يشبه الظل أو الأنا الداخلية، ثم يتكوّر على الأرض ويدخل إلى المنزل. إنه الرابط الإنساني الذي يعيدنا إلى الطفولة والذاكرة. والمزعج هنا أن كائنات صغيرة شبيهة بالكائن الكبير، تشده من عنقه عندما يتوقف عن التهاوي والرجوع إلى المنزل، وترغمه على العودة. تطير صورة ظل الأب والأم بين الفضائين، كرمز للموت. المعرض ركّز على الإحباط والخواء الذي لا بد من تزايده، حتى يُشكّل الإنسان ذاكرةً خاصة تعيده من جديد إلى الحياة، بعد انزوائه، فلا يكون شيئاً محايداً لا قيمة له. وتنتمي أعمال الفراجي إلى الكولاج الذي يجمع بين الصورة الفوتوغرافية والرسم الغرافيكي التقني، وهو ما عَمِل عليه سابقاً في عمله «محكي مخفي معاد» الذي عُرِض في «المتحف العربي للفنون الحديثة» في الدوحة.