قاسٍ أن أتابع المشهد الإعلامي الورقي عَنْ بعد، وأنا الذي كنت بالأمس القريب اتنفس من حضنه وأشارك بتغريدات ثابتة في حركته الدائمة، ولعل الأقسى هو الفقد المفاجئ للمساحة التي كنت أمرر فيها ما يصلح من الأفكار، وأدون فيها ما أرى انه يليق من طرح متوافق مع منهج إصلاح وخطوات نجاح، ولعل ذلك يزول شيئاً فشيئاً كلما تقدمت معكم يوماً جديداً، وتناولت أكسجين المكان الذي يختلف عن غيره. حين يغيب الكاتب عن الحضور لا بد أن تكثر الأسئلة التي تصب في المجمل إلى أن المغادرة يقف خلفها سر مجهول، وغموض ما، وتفاصيل لا أحد يستطيع كشفها، لكن التفاصيل الصريحة تقول إنني غادرت المستطيل الذي ألفته، والعش الصغير الذي أحببته، طلباً للاستراحة، وإراحة الأعصاب من مشقة الكتابة التي قد يرى جزء من مجتمعي أنها مهمة لا تتطلب سوى قلم وورقة وقليلاً من الوقت، وهي - للأمانة - مهمة شاقة تحتاج بالضبط لقوة فولاذية، وقدرة خرافية لاصطياد الأفكار العاجلة والمساهمة الشجاعة في إزالة مطبات معترضة لا يصلح الوقوف حيالها بصمت، وليس منطقياً أيضاً أن نتجاوزها ونتجاهل ما تسببه من مضاعفات لأجزاء الجسد على المدى الطويل. غادرت بحق، لأن الكاتب يشعر في أحيان متفرقة - إن لم يجد جداراً استنادياً - بأنه في حاجة ماسة لاستعادة الأنفاس، ولملمة الأوراق المتناثرة هنا وهناك، ومراجعة الذات، وربما وأنا أقول - ربما - كانت المغادرة لمعايشة لحظة الوقوف وحيداً لأن من جمالية هذه اللحظة أنها تشرح جيداً كيف أن الوحدة تعلم بهدوء من هم أقرب الناس؟ وما قيمة الأحرف النازفة على امتداد سنين الكتابة؟ وماذا يثمر التوقف من أصدقاء جدد؟ وكيف يكشف النقاب عن وجوه طارئة فضولية مارة مرور الكرام. أعود لكل الأعين التي سألت عني، وأخذتها الأسئلة المتعددة لصدر إجابات متفرقة، أعود وأنا محمل بأفكار متداخلة ورغبة جادة للعودة إلى الحراك الورقي وملامسة ما أمكن من الجراح والتصفيق لما يستحق من أوراق النجاح، لكني أصارحكم القول بأن من عناد الأفكار أنها لا تحضر بغزارة إلا بمعية الغياب، وفي حضرة التوقف الاختياري لا الإجباري، ولكم أن تسموا بالفعل استراحتي الفائتة ب«استراحة ما بين الشوطين»، وسيظل أكثر ما يخيفني في نزال الشوط الثاني ما يتطلبه من لياقة عالية، وحضور يجب أن يمسح ما كان من تقصير وضعف لياقيّ في النصف الأول وهذا تحد بعينه، لكني على رغم هذا التحدي أحلم بأن يستمر شوطي المقبل مدة أطول من دون أن أصاب بشد عضلي في أصابع اليدين، ولا حوادث اصطدام بالرأس، والأهم أن لا أُنقَلَ إلى خارج الملعب تحت أي ظرف وأنا لم أتذوق ولو طعم التعادل في أسوأ الأحوال. وها أنا ذا أحضر مجدداً إلى منزلي بكمية عشق تتزايد، وبإيمان مضاعف في أن الراحة الحقيقة للكاتب، تكمن في البقاء مع القلم والتنفس عبر الكتابة، وإن كانت الأصابع تتألم بين حين وآخر، إلا أنه «ألَمٌ» سيغادر كلما تقاطع النص المكتوب مع هدف وطني، ورغبة صادقة لإسهام في نقد تقويم لا نقد تقويض، ولعل الأفكار التي كانت تهطل بغزارة في فترة الاستراحة لا تعود إلى عنادها، في مسلسل شحذ الفكرة لمجرد التواجد هنا في حضرة «مساحتي القديمة المتجددة». [email protected] twitter | @ALIALQASSMI