هذا العالم العربي الذي أحبه حتى يفنى الحب والوجود ما عاد يرويني ولا يشبعني ولا يستهويني. هذا العالم الذي أعدت قراءة تاريخه ورواياته، واجتررت أغانيه ولوحاته، وحفظت أبيات أشعاره عن ظهر قلب، هذا الماضي السحيق مللته، ولم أعد أطيق تكراره وتكرار نفسي كأنني"جمل"أجتر وأجتر. لذا قررت ذلك اليوم ألا أجتر أي شيء، ولا أنبش في القديم، وألا افعل أي شيء سوى الضحك، فأنا في زحمة أيام العربية نسيت أن أضحك، نسيت شكلي وهو يضحك، نسيت كيف أرسم حتى ابتسامة يتيمة، وسألت نفسي سؤالاً في غاية الأهمية: ماذا أفعل حتى أضحك؟ بدأت أبحث عن أبطال الكوميديا وخفة الظل، علهم يضحكونني، وكالعادة لم أجد، فاضطررت مرغمة أن أعود إلى القديم، وأبحث ما بين أفلام عادل إمام وإسماعيل ياسين وماري منيب، والصدمة كانت أنني لم أضحك، فالنكتة المعادة لا يستأنس لها الفؤاد كما الطرب المعاد بشعره ولحنه. وهكذا عرفت أن فن الكوميديا انقرض مع انقراض غالبية الفنون الجميلة والقبيحة في عالمي العربي، فما عدت أعرف من الفنون سوى"تايم بيتزا"، فهل انقرض وجداني معهم؟ طبعاً فالفنون هي التي تشكل وجدان الإنسان. وعلى هذا المبدأ فإن المنطق وجهابذته وعلماء النفس لو اجتمعوا سيتوصلون إلى هذه النتيجة الحتمية: هذه المريضة لا وجدان عندها، ولذا فهي لا تضحك، أنا التي كانت في قديم الزمان وسالف العصر تضحك وتفرفش، وكان كل مجلس أنا فيه تمتلئ جنباته بالكركرة والقهقهة والسوالف الممتعة، فما الذي حدث لي حتى صرت ثقيلة دم وغم وهم؟ هل أضع اللوم على غيري فأرد ذلك إلى السوداوية المنبثقة من المجتمع وأفراده، وهذا الإعلام المقيت وهذه الحروب المتواصلة من خارجي وداخلي؟ هذه العوامل مجتمعة أحبطتني فلم أعد أستطيع مجابهة الضحك، هل لأن كل من حولي فيه نوع من أنواع الاكتئاب أو الغضب أو الكبت أو الانعزالية والوحدة أو التذمر والشكوى المتواصلة من إخفاقات الحياة فلم أعد أضحك؟ أم لأن المجتمع اكتشف فجأة أن عليه أن يفضفض فأنزل فضفضته على حسابنا أرضاً وجواً ومن أعماق البحار، فملأ أجواءنا بهذه الطاقات السلبية؟ هل لأن كل واحد يريد أن يفضي بمكنونات قلبه لعله يهدأ قليلاً، لكنه يفضي ويتمادي؟ وعلى فكرة لا يهدأ، لأن نوادر الإعلام"تشعلله"و"تولعه"، ولا تقدم له فناً حقيقياً أو خبراً مفرحاً! كل هذه الأسئلة أوصلتني إلى نتيجة حتمية هي أن أقاطع الإعلام بكل صوره وأصواته مقاطعة تامة، وأقاطع كل التعساء وسيئي الحظ وقليلي البخت، ففيروس هؤلاء يعمل بشكل خفي، فيدخل من المسامات وينتشر في صمت وبطء. وقبل أن تعي وجود العدوى، تكون سموم همومهم سرت في الدم، وهكذا قررت أن أقاطع المجتمع والإعلام والفن الذي كافحناه مكافحة أشد من مكافحتنا للإرهاب والمخدرات. سأقاطعهم جميعاً، وسأقاومهم أشد من مقاومتي لإسرائيل، فما الذي سيبقى لي حتى أضحك: أن أقابل قرداً، فلا بد لي أن أقلده وحتماً سأضحك مع أمنيات له بألا يقلدني، حتى لا يتجهم ويصاب بالوجوم! خلف الزاوية هاتفني كي تسمع نغمي قابلني كي تلمس ألمي داهمني وأسرق مملكتي أرجعني امرأة من حلم آه من رجل يرفعني من سطح الأرض إلى القمم [email protected]