في الأحساء تتحقق المقولة المعروفة "ومن الحب ما قتل". فيمكن للمتتبع القصص الكثيرة التي حدثت في الماضي والحاضر، ان يجزم بما لعمق هذا الشعور من تأثير على هذا المجتمع الريفي البسيط. فقبل أعوام وقعت حادثة تدل على أن"ما الحب إلا للحبيب الأول"، حين توفيت المسنة فاطمة حسن، بعد ساعات من وفاة زوجها. بعدما كانا يعيشان في بيت طيني وحيدين، اذ لم يرزقا بأطفال، بسبب عجز الزوج. لكن فاطمة لم تر في هذا العجز سبباً للانفصال، على رغم الفقر والحاجة. فقد كانت تردد في جلساتها مع الصديقات"لا يمكن لأي شيء أن يغنيني عنه"، ليحاط أبو علي بكم هائل من الغيرة والحسد من رجال قريته الصغيرة، على هذه الزوجة. ولكن في يوم السابع من شهر ربيع الأول من عام 1419ه فارق الزوج الحياة، وهو يضع رأسه في حجر زوجته، التي لم تستطع تحريك جسمه من مكانه، حزناً وكمداً عليه، وتلحق به بعد نحو ساعتين بعد ما أفرطت في البكاء عليه. ولم يدخل الجيران عليهما إلا وهما في أحضان الموت،"سعيدين"برحلتهما الطويلة معاً. فهما لم يفترقا حتى في المقبرة، التي شهدت تجاور القبرين. وعلى رغم أنهما لم ينعما بزينة الحياة الدنيا"المال والبنون"، إلا أن القرية برمتها بكتهما، وأصبحا مضرباً للمثل. ولم يكن هذان الزوجان هما الوحيدان في قاموس العشق الأحسائي، فهذه مريم سلمان، وزوجها الحاج طاهر الحسن، كانت لهما قصة لا تخلو من الغرابة. ويروي حفيدهما صالح العوض القصة:"كانا يجلسان متجاورين، حتى وإن كانا في حضرتنا، فجدي لا يتحرج أبداً من إطلاق كلمات تصيب جدتي بالخجل، وسط ضحك عارم من جانبنا". ويذكر الحفيد أنه سأل جده ذات مرة، مازحاً، عن رغبته في تزوجيه من ثانية، فانفجر الجد غاضباً، ورد عليه"إني أرى النساء قبيحات جداً، بعد جدتك، فهي أجمل النساء". وعن سبب هذا الوهج قال صالح"لم يكونا كذلك في بداية حياتهما، ولكن تغير الأمر حين أصيب جدي بمرض جعله حبيس الفراش قرابة الشهرين، وطوال تلك الفترة كانت جدتي لا تفارقه أبداً، وكانت ترعاه بكل جهدها، وبعد شفائه عرف حقيقة أن يكون الإنسان محباً، ومن ذلك الوقت ونحن نعيش حالة حب الأجداد، وليتنا نكون مثلهم". وفي عام 1422ه حدثت واقعة يحق أن توصف بأنها"أغرب من الخيال". فقد تحققت أمنية زوجين كانا يخططان لموتهما أكثر من حياتهما، فالستينيين آمنة أحمد وعبدالله السالم كانا يدعوانا دائماً، ويتمنيان بأن يعجل الله في موت الثاني بعد أسبوع من وفاة الآخر، فيما كان سكان قريتهما يضحكون من دعائهما. بل كانوا يؤكدون أن بموت أحدهما سيسارع الآخر الى الزواج، لئلا يفوته شيء من لذة الحياة. وفي يوم تحققت تلك الدعوة، ماتت آمنة، بعد صراع مع مرض السكري، وكان ذلك في صباح يوم الخميس 16 من شهر شعبان، ليبقى سكان القرية في ترقب، ينتظرون ماذا سيفعل الزوج الوحيد الآن، وهل ستتحقق أمنيتهما؟ وكانت الإجابة مساء يوم الأربعاء 22 من الشهر نفسه، حيث شاع خبر وفاة الزوج، وسط صدمة الجميع، من غرابة الأماني، التي نادراً ما تتحقق. وكان آخر هؤلاء العشاق علي الحيد، الذي أحب بعمق، فبعد وفاة زوجته لم يبرح قبرها، ولو ليوم واحد، ففي كل يوم يذهب حاملاً معه ماء الورد يرشه على قبرها، ويجلس يتحدث معها. ويسترجع الذكريات، حتى خاف أبناؤه عليه من الجنون، بسبب قوة الترابط بينهما، فطالبوه بإلحاح على الزواج من أخرى، ظناً منهم أنه سينسى جزءاً كبيراً من أحزانه. ويصف ولده حسين معاناة والده:"بعد جهد جهيد رضخ لمطلبنا، ولكن لم يكن لزواجه الثاني أي تأثير، بل تطورت حالته، وأصبح كثير البكاء، حتى أن زوجته الجديدة ضاقت ذرعاً به، وأصبحت في شجار دائم معه". ولم يرزق علي بنعمة النسيان، فلم يستطع احتمال موت زوجته، حتى بعد مرور عامين ونصف العام، حتى جاء الرابع من شهر رمضان الماضي، وفارق الحياة بعد معاناة شديدة مع المرض. لكنه حتى وهو في قبره حرم من مجاورة قبر زوجته الحبيبة، إذ يفصل بينهما ثلاثة قبور. ويعلل الأطباء النفسيون هذه الظواهر بأنها مزيج متوافق روحياً وجسدياً، جعل من هؤلاء عشاقاً حقيقيين، وللطبيعة الريفية عواملها المساعدة في زرع بذرة هذا التوهج العاطفي. ويؤكد الحاج ناصر الناصر"أنه لا غرابة في ذلك، فالأحساء واحة محبة، عكست بظلالها على أبنائها، فأصبحوا نماذج مصغرة، تجدها واضحة في بساطتها، حتى وهي في خارج المحيط". ويروي قصصاً أكثر غرابة من هذه القصص حصلت في وقت سابق. وقد خلدت الذاكرة الجمعية للأحسائيين عشاقاً كثراً نسيت أسماؤهم، وبقيت ذكراهم، بسبب كثرة عددهم، لتصبح الظاهرة اعتيادية وغير مستغربة، إلا لمن هم خارج هذه الواحة.