مجلس الشورى.. منبر الحكمة وتاريخ مضيء    الراية الخضراء    ثوابت راسخة ورؤية متجددة    فتح مسارات جديدة للنمو    النهج الأصيل    فن التسوق    الهجوم على الدوحة.. عدوان على مساعي السلام    الفاشر: مدينةُ تحوّلت إلى محكٍّ للمعركة والإنسانية    طرابزون سبور التركي يعلن التعاقد مع أونانا معارا من مانشستر يونايتد    العالم يترقب «دوري أبطال أوروبا» البطولة الأغلى والأقوى في العالم    د. بدر رجب: أنا اتحادي.. وأدعو جميل وبهجا لمنزلي    المملكة توزّع (797) سلة غذائية في أفغانستان    إحباط تهريب (53.7) كجم "حشيش" في جازان    التكامل بين الهُوية والاستثمار الثقافي    مها العتيبي.. شاعرة تُحاكي الروح وتكتب بوهج اللحظة    القيادة والاستثمار الثقافي    هبات تورث خصاماً صامتاً    سِيميَائِيَّةُ الأَضْوَاءِ وَتَدَاوُلِيَّتُهَا    حراسة المعنى    مستشفى الدكتور سليمان الحبيب بالمحمدية في جدة يُعيد قدرة المشي لستينية بإجراء جراحة دقيقة لاستبدال مفصلي الركبة    كشف مبكر لمؤشرات ألزهايمر    تطابق لمنع ادعاء الانتساب للسعودية    غداً .. انطلاق الدوريات الممتازة للفئات السنية    خريطة لنهاية الحرب: خيارات أوكرانيا الصعبة بين الأرض والسلام    إدانات دولية واسعة للهجوم الإسرائيلي على قطر في مجلس الأمن    الرئيس العام لهيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: الخطاب الملكي يؤكِّد على المبادئ الراسخة لهذه الدولة المباركة    الوفد الكشفي السعودي يبرز أصالة الموروث الشعبي في فعالية تبادل الثقافات بالجامبوري العالمي    أمين القصيم يوقع عقد صيانة شوارع في نطاق بلدية البصر بأكثر من 5,5 ملايين ريال    محافظ وادي الدواسر يستقبل الرئيس التنفيذي للمجلس التخصصي لجمعيات الأشخاص ذوي الإعاقة    امانة القصيم تطلق مهرجان الدليمية بعدد من الفعاليات والأنشطة في الحديقة العامة    بلباو يوضح مستجدات التعاقد مع لابورت من النصر    خلال تدشينه جمعية كافلين للأيتام بالمحافظة محافظ تيماء: خدمة الأيتام تتطلب فكرًا وعملًا تطوعياً    ⁨جودة التعليم واستدامته    250 مشروعًا رياديًا تتأهل إلى التصفيات النهائية لكأس العالم لريادة الأعمال بالرياض    «كشف النقاب» في لندن    المملكة تقدم للعالم جدول فعاليات استثنائي بمشاركة كريستيانو رونالدو    أمير منطقة جازان يستقبل مدير عام فرع وزارة البيئة والمياه والزراعة بالمنطقة    الفتح يغادر إلى جدة لمواجهة الاتحاد .. وباتشيكو ينضم للتدريبات    الهيئة الملكية لمدينة الرياض تطلق منصة التوازن العقاري لاستقبال طلبات المواطنين لشراء الأراضي السكنية    " كريري" يزور المدخلي للاطمئنان على صحته بعد نجاح عمليته الجراحية    غدا..إقامة الحفل الختامي لمهرجان ولي العهد للهجن في نسخته السابعة بميدان الطائف    منتدى المشاريع المستقبلية 2025 يثمن دور عين الرياض الرائد في دعم قطاعات الأعمال والمؤتمرات والسياحة والاستثمار    استمرار إنطلاقة مبادرة "إشراقة عين" بمركز الرعاية الأولية بالشقيق    محافظ الطائف يلتقي القنصل الامريكي رفيق منصور    نائب أمير منطقة تبوك يدشّن مشروع السكتة الدماغية الشامل بالمنطقة    الأخضر الشاب يتوج بطلاً لكأس الخليج تحت 20 عامًا بعد فوزه على اليمن    السعودية ترحب وتدعم انتهاج الحلول الدبلوماسية.. اتفاق بين إيران والوكالة الذرية على استئناف التعاون    200 شخص اعتقلوا في أول يوم لحكومة لوكورنو.. احتجاجات واسعة في فرنسا    أكد أن النجاحات تحققت بفضل التعاون والتكامل.. نائب أمير مكة يطلع على خطط طوارئ الحج    الشرع يترأس وفد بلاده.. سوريا تؤكد مشاركتها في القمة الروسية – العربية    منافسة نسائية في دراما رمضان 2026    وزير الداخلية لنظيره القطري: القيادة وجهت بتسخير الإمكانات لدعمكم    مخالف الرعي في قبضة الأمن البيئي    هيئة الشرقية تنظّم "سبل الوقاية من الابتزاز"    نائب أمير المنطقة الشرقية: الخطاب الملكي الكريم خارطة طريق لمستقبلٍ مشرق    "الشيخوخة الصحية" يلفت أنظار زوار فعالية العلاج الطبيعي بسيهات    الهجوم الإسرائيلي في قطر يفضح تقاعس واشنطن ويغضب الخليج    نيابة عن خادم الحرمين.. ولي العهد يُلقي الخطاب الملكي السنوي لافتتاح أعمال الشورى في الدور التشريغي 9 اليوم    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



محمد المخزنجي : الصحافة تعطي جرأة في الكتابة وحدساً بطبيعة القارئ
نشر في الحياة يوم 17 - 05 - 2011

يعيش الكاتب المصري محمد المخزنجي 1946 في حال من الغبطة، على حد تعبيره، بسبب ثورة 25 يناير، متوقعاً أن تؤدي إلى"ذبول كتابات وازدهار أخرى". ويرى صاحب"الموت يضحك"و"غرق جزيرة الحوت"في هذا الحوار معه أن"الكتابة هي أكثر الأعمال فردية في الحياة. نحن لا نُقرأ بالجملة، ولا نُحاسب على ما نكتبه بالجملة".
كيف تنظر إلى تدشين حدث مثل ثورة 25 يناير أدبياً، على رغم أنه ما زال في طور التكوين؟
- هذا حدث ضخم جداً، ولفرط ضخامته أهز رأسي أحياناً وأنا أتأمل نتائجه فأخشى أن أكون في حلم، فأن يزيح شعب أعزل نظاماً مافيوياً على النحو الذي كانه نظام حسني مبارك، فهذا حدث تاريخي... أنا أعيش نوعاً من الغبطة الشخصية لأنني عشت هذه اللحظة التاريخية وعايشتها، بل أزعم أنني صاحب سهم في جعبتها التي ضمت عشرات الملايين. وأمام ظاهرة بهذه الضخامة لا يمكن أن يكون هناك قالب معين للتعامل معها إبداعياً، فثمة جيشان للمشاعر يمكن أن يؤدي إلى إبداعات فورية على درجة معقولة من النضج، وأنا لا أصادر على ذلك، بل ربما أشارك فيه خوفاً من أن تهرب تفاصيل مذهلة الجمال من الذاكرة، أو تهرب من أقدارنا السنون. لكن طبعاً سيظل التأمل العميق وعامل الوقت الممتد مطلوبين لإنتاج أعمال بضخامة هذه اللحظة التي أشبّهها بملف مضغوط على سطح مكتب التاريخ، عند فتحه وفك تشفيره بالتأمل والتعمق في سبر أغواره، سيكشف عن تجليات لا تتوقف فقط عند حركة الأمة عبر التاريخ، بل تتعداها إلى تفاعل الكائن الحي في بيئته بكل ما فيها من عوامل مواتية وأخرى معوقة، ثم فوزه اخيراً باستمرار الحياة.
بعد هذه الثورة كيف تستشرف مستقبل الكتابة الأدبية في مصر؟
- ستذبل كتابات وتزدهر أخرى، لكن بما أن الأدب هو"سجل للمشاعر"، أظن ان التعبيرات الذاتية عن الفرد لا بد من أن تتخللها اختراقات المجموع أو يحوطها المشهد العام، كاكتشاف نوع جديد أو مضاف من"الأنا"، الأنا الجامعة أو الضمير الجمعي، ربما سيكون هناك بعض الزعيق، لكنه سرعان ما سيختفي، لأن لحظة التحضر التاريخي الماثلة في الثورة لن تتركها قوى التخلف تشق طريقها نحو الأفق المناسب في سهولة، بل ستكون هناك اشتباكات ربما مريرة مع التخلف بتعصباته الطائفية والنفعية والهمجية. ستكون هناك دراما حامية في الكتابة قطعاً.
هل ثمة مشروع أدبي ما يشتبك مع الحدث تنوي أن تقدمه مستقبلاً؟
- قطعاً هناك، لكنني لا أحب ان أتكلم عن مشروع قبل إنجازه، أو على الأقل الوصول إلى نقطة اللاعودة فيه، لأنني خبرت نفسي إذا تحدثت عما أنا في صدد تنفيذه، يتعرقل.
دعنا نسترجع ذكرياتك عن فترة التكوين وكيف كان تأثيرها في تكوين وعي الكاتب لديك؟
- هي فترة التكوين الجامعة لكل مبدعي الأدب والفن، من لسع أو توهيج أو تأجيج للمشاعر في باكر العمر، سواء بالألم أو بالفرح أو بمفارقات الحياة، ثم قراءة ما يتلامس مع ذلك في الأدب. وأعتقد أنني عشت جيداً كطفل شقي وخصب المخيلة وصبي ومراهق وشاب متمرد ورحّالة في الحياة بسجونها وفتونها وشجونها وتخومها. أقرأ جيداً، وفي مجالات يظن كثير من الأدباء أنها خارج متن الأدب، وأراها في قلبه، ولعل هذا هو أحد مصادر لمستي الخاصة، في المزاوجة بين الأدب والعلم في ما أكتب سواء في السرد الأدبي أو حتى المقال الصحافي.
هل ثمة أجواء خاصة رافقت قرار الكتابة؟
- الكتابة ليست في حاجة لاتخاذ قرار، إنها دافع داخلي ضاغط، تكاد تكون مماثلة لأقصى وأبهى الرغبات الجسدية، تصنع نوعاً من التوتر يمثل تفريغه راحة نفسية وروحية غامرة، إلى أن يعود الضغط من جديد، عادة أكتب على الكومبيوتر مباشرة، باستثناء جملة الإقلاع، وربما ورقة مطوية أسجل عليها خطوطاً عامة، حتى ملفات البحث اللازم لأي عمل أدبي أو صحافي أضعها على سطح المكتب في الكومبيوتر، ولأنني لا أكتب في البيت، بل في أماكن مفتوحة، وحبذا على النيل، فإن مكتبي الحقيقي هو الكومبيوتر المحمول. وتظل أم كلثوم وعبدالحليم وفيروز من أدوات الشحن العاطفي لمقاربة الكتابة.
في عام 1983 صدرت مجموعتك القصصية الأولى"الآتي"وبعدها صدرت مجموعة"الموت يضحك". المجموعتان لفتتا الانتباه إليك، فكيف كانت رد فعلك على ذلك؟
- كنت مدهوشاً أكثر مني مغتبطاً، لأنني دائماً أحس أن ما أنشره كان يمكن أن يكون أفضل لو أنني عملت عليه أكثر، لكنني بالطبع كنت أفرح بثناء مبكر من قمم كنجيب محفوظ ويوسف إدريس ورجاء النقاش وعلي الراعي، وربما كانت إحدى أكثر مرات فرحي هي التي ذهبت فيها إلى مكتبة"مدبولي"وسألت عن"الآتي"، وكدت أطير فرحاً عندما قال لي مدبولي:"آه، دا كتاب محمد المخزنجي، جاني منه عشرين نسخة وخلصوا، لكن هايجيني تاني، فوت عليّا كمان يومين". لقد تم تسجيلي في ذاكرة الكتابة، في أهم أرشيف في قلب القاهرة. أحسست في هذه اللحظة أنني صرت كاتباً.
تقول:"أي موهبة تحتاج إلى مكتشف ونُبل من الآخرين"، من تراه مكتشف موهبتك؟
- كثر، ابتداء من الأستاذ عثمان، مُعلمي في الصف السادس الابتدائي الذي كان يصحح كراسات"التعبير"في الفصل وإذا به يناديني ويوقفني أمام الفصل ثم ينصرف منفعلاً ويعود بناظر المدرسة ويأمرني وأنا في شدة الخوف أن أقرأ ما كتبته، وما أن انتهيت، حتى فوجئت بالحاج ابراهيم ناظر المدرسة يأخذني في حضنه ويقبّل رأسي، ويأمر بأن يقف زملائي ويصفقوا لي. هؤلاء هم الناس، المعلمون، المربون، المكتشفون. فهل كان ممكناً أن أتراجع عن سلوك هذا الدرب الطويل؟ لم يكن ذلك ممكناً، لا بالعقل ولا بالجنون. ثم توالى النبلاء، جماعة أدباء المنصورة، فمحمد عفيفي مطر الذي كان اول من نشر لي في مجلة"سنابل"وأنا في التاسعة عشرة قصة من ثلاث قصص كنت أرسلتها اليه، وكتب كلاماً جميلاً عني وقال إنه سينشر بقية القصص، لكنني خفت، ورجوته ألا ينشر، لشعوري بالمسؤولية وأن أمامي الكثير، وكان أن سكتّ ثماني سنوات، حتى ورطني صاحبي جار النبي الحلو في النشر، وتوالى رعاتي النبلاء وهم كثر وكثيرات.
كيف تصف العلاقة القويّة التي ربطتك بيوسف إدريس؟
- هذا السؤال مرتبط بالسؤال السابق، فعلى غير ما يتردد، لم يكن يوسف إدريس هو من اكتشفني، لقد عرفني شاباً من مناضلي الحركة الطالبية الوطنية الديموقراطية في السبعينات من القرن الماضي عندما زار جامعة المنصورة وحاورته في ندوة عامة، فانعقدت بيننا صداقة كان فيها دعم عظيم لروحي الكاتبة ولذاتي الإنسانية، وظللت أخفي عنه أنني أكتب القصص سبع سنوات حتى فوجئ بي كاتباً متحققاً وكانت تلك لحظة فرح غامر بالنسبة له ولي، كنت خائفاً جداً من إفساد الصداقة العلوية بهذا العبقري البديع والإنسان المذهل القلب بأن أبدو صاحب مصلحة عنده. كنت أقرب أبناء جيلي وربما من سبقني من الأجيال إليه. لكنني لم ألجأ إليه أبداً في أن أنشر. وكان هذا مبعث طمأنينة لديه ومبعث ارتياح عندي. يوسف إدريس كان عبقرية كونية لم تعط أفضل ما يمكن أن تعطيه لأن فساد الحياة السياسية والاجتماعية والثقافية لم يكف عن تمزيقه وتشتيت قواه. إنه نوع فاخر من الموهبة التي اختطفتها الظروف العامة والمعاناة الخاصة.
في الكثير من قصصك نلحظ الحديث عن خبرات وتجارب ذاتية وإنسانية، إلى أي درجة في رأيك يمكن ان تعكس الكتابة ذات الكاتب؟
- هذا سؤال مهم، فالكتابة مثل أي صرح يتم إنشاؤه، لا بد لها من عتاد أساسي، بنية أساسية، وهذه لدى الكاتب قوامها تجارب الحياة. لا يمكن أن يكون هناك كاتب جيد عاش حياة تافهة أو أن يكون متزحلقاً على سطح الحياة. اعترف بأنني عشت بالطول والعرض والعمق والارتفاع.
يبدو ذلك متناقضاً مع ما يبدو عليك من هدوء شديد...
- دائماً كنت أنشد التحرر والحرية ولو إلى درجة الفوضى وحدود الخطر. سافرت على أسطح القطارت على رغم أنني لست ابن أسرة مدقعة، وتشاجرت في الشوارع مع طغاة وبلطجية صغار، جاهرت بأقصى رأيي السياسي في سن مبكرة، ودخلت سجون أنظمة الاستبداد والفساد أربع مرات، وقرأت بنهم، وكنت بطلاً للجمباز، ومارست الطب بأقسى شروطه وبأرفعها في تخصصي، وعشت أخاطر بإبداء وجهة نظري الخطرة حتى آخر لحظة وكنت مستعداً لدفع الثمن، وآخر مقالة قبل سقوط نظام مبارك كان عنوانها كفيلاً بسحلي لو لم يسقط النظام. لهذا كان فرحي بنجاح الثورة مضاعفاً. كنت أتقافز وأغني وألوح بعلم البلاد وسط الحشود ليلة تنحيه، مثل صبي مجنون بالفرح في يوم عيد. الحمدلله أنني عشت وشُفت.
كيف تحقق معادلة الجمع بين الكتابة عن العلمي والمحافظة على اللغة الشعرية في أرفع صورها؟
- العلم في ذراه الحديثة مفعم بشعر عجيب. شعر الإدهاش من إرادة الحياة في الأحياء والجوامد. شعر عجيب، مثل الحقيقة العلمية في أن الزهور ترقص لتغري الفراشات والنحل بالنهل من رحيقها، ترقص، لترويهم وتحملهم رسائل حبوب لقاحها. والحجر الذي يبدو ساكناً يمور بحركة سرمدية هي حركة مكوناته دون الذرية. دوران الالكترونات في مساراتها حول النواة يكاد يكون صورة مصغرة جداً لدوران الكواكب حول مراكزها النجمية. السلوك العجيب بين طفيليات الطفيليات. حنان الوحوش البرية وقسوتها.
في الكثير من قصصك تخلط السيكولوجي بالباراسيكولوجي، ألا يعرضك هذا لمأزق فني؟
- أبداً، ليس هناك أي مأزق، فما نسمّيه بالباراسيكولوجي، أو الخارق، ما هو إلا حقائق واقعية لم نتعرف على قوانينها، ثم إن الحياة إذا حسبناها محدودة بزاوية رؤيتنا لها نكون في غاية الغرور، بل الغطرسة، إنني مؤمن بأننا كائنات محدودة، وإن كنا ننشد الاكتمال. العالم أغنى من حدود رصدنا الحسي له. إنني مؤمن بذلك. لكنني لا أقدم هذا الرأي بمنطق الواقعية السحرية التي يخفي فيها الكاتب أي بحث في منطقية الخارق، بل أبحث عن منطقية الخارق، وأحاول أن أبقيه ساحراً بعد فض أقصى ما أستطيع من المتاح من كشف أسراره بالعلم، لهذا سأدّعي أنني أكتب في إطار السحرية العلمية في كثير مما أنجزت أدباً أو صحافة.
في مجموعة"سفر"تبدو القصص متشابكة، ما يجعلها أقرب إلى متتالية قصصية حيث كل قصة تقود إلى الأخرى وكأننا في صدد قراءة رواية؟
- كنت دائماً محاصراً بالتصنيف المعتمد في النقد الأدبي. لم يعد ذلك يقلقني، المهم أن أكتب ما أحب، وبأقصى ما أستطيع من اجتهاد في الحب. ولتذهب التصنيفات المدرسية كافة إلى الجنة أو إلى الجحيم. نشرتُ نصاً طويلاً قبل بضعة أشهر في جريدة"الشروق"القاهرية عنوانه"البحث عن حيوان قومي جديد للبلاد"، تحت تفريعة مبتكرة خاصة بمزاجي الضاحك، سمّيتها"تكريسة"، حيث تنضم فنون الكتابة لتصنع نصاً، لا هو قصة بالضبط، ولا مقالة بالضبط، ولا هو"نوفيلا"أو بحث علمي بالضبط، بل هو كل ذلك في ذلك، وكان ناجحاً، وربما أكرره.
في كتابك"لحظات غرق جزيرة الحوت"ووفق نقاد قدمت شكلاً ادبياً جديداً في الثقافة العربية اطلق عليه البعض"رواية الحقيقة القصصية"... حدثنا عن هذه التجربة؟
- رواية"الحقيقة القصصية"ليست من اختراعي بل هي من سبك الروائي ترومان كابوت، وصارت معتمدة نقدياً في ما يسمّى السرديات في النقد عند ناقد كبير مثل ديفيد لودج، ولها أمثلة مستعصية على التصنيفات التقليدية مثل"خبر اختطاف"لماركيز.
المرأة في ابداعك مثالية وكأنها كائن ملائكي لا يخطئ. هل هو انحياز لها أم نظرة رومانسية؟
- وهل الرومانسية تهمة؟ العالم متعطش جداً للرومانسية من فرط الغلاظة التي تسوده في عصر ما بعد الكولونيالية والعولمة المخاتلة والفظاظة الصهيونية وازدواجية المعايير والتعبيرات التدميرية عن المآزق الفردية. نشرتُ رواية صغيرة بعنوان"بيانو فاطمة"عن قصة حب مبتورة. لمست تحمس القراء والقارئات بخاصة لهذا النوع من التسامي بخشونة الواقع وانتقاء الجميل والرقيق منه. و"فاطمة"بالمناسبة لم تكن شخصية مختلقة خيالياً بل هي موجودة. فالرومانسية لا تزال العزاء الكامن إزاء هول الواقع وقسوته.
في كتابك"حيوانات أيامنا"تكشف عن عالم مواز لعالمنا، ربما لا ننتبه اليه وسط زحام الحياة، كيف جاءتك فكرة هذه المجموعة؟
- المعرفة الميدانية بالحيوانات في حياة البرية التي أتيحت لي عبر أسفاري في عملي الصحافي وخارج هذا العمل إضافة إلى المعرفة العلمية بما تيسر من دقائق حياتها البيولوجية والنفسية تجعلني على يقين من أنهم أمم مثلنا، لكننا لا نفقه لغاتهم ولا أحاسيسهم، لهذا لم أؤنسنهم في هذا الكتاب، بل أوردتهم ككيانات حية تنسحق بين رحى الصراعات البشرية التي هي في ظني أكثر وحشية وتفاهة ومجانية من وحشية الحيوانات اللاحمة. لا أعرف كيف جاءتني الفكرة. لكنها جاءتني.
أحيانا تقتل ممارسة العمل الصحافي الإبداع أو على الأقل تعطله... هل أفادتك الصحافة أم أضرّتك؟
- أفادت وأضرت وأتمنى أن أستغني عنها وتستغني عني لأغنى بما هو مخبوء في قلبي الأدبي في نهاية المشوار، مشوار الحيوية الإبداعية التي لها عمر ووقت للتقاعد مثلها مثل أي فعالية بشرية. طبعاً الصحافة بمتطلباتها اللحظية والمجهدة عصبياً سحبت الكثير من الطاقة والوجدان اللازمين للتأمل والتجويد الأدبي، لكن في المقابل، الصحافة تعطي جرأة في الكتابة، وحدساً بطبيعة القارئ، وجماهيرية تخدم عملك الأدبي. لست نادماً، خصوصاً أن ما كتبته في الصحافة في السنوات الأربع الأخيرة كان واجباً وطنياً أدّيته بقدر معقول من الإخلاص وأثمر في شكل ما. وأتمنى ألا نخرج من غمة النظام السابق لندخل غمة استبداد وفساد جديد يطيل من فترة تجنيد الأديب في مضمار الكتابة الصحافية.
كيف تتعاطى مع الجدل حول فكرة المجايلة في الأدب؟
- حكاية المجايلة هذه هي اختراع نرجسي سخيف. الكتابة هي أكثر الأعمال فردية في الحياة، نحن لا نُقرأ بالجملة، ولا نُحاسب على ما نكتبه بالجملة. هذا الاختراع السخيف في ظني كان نوعاً من الدعوة للمبارزة بين خصوم نرجسيين في ساحة الأدب. لم أتعامل مع هذا المصطلح بجدية أبداً، تماماً كما لما أتعامل مع مصطلح"أدباء الأقاليم"المعيب. أمتلك تحليلاً نفسياً لدوافع مثل هذه الاختراعات السخيفة، لكنني صرت أميل إلى عدم جرح مشاعر أحد، ولا القسوة مع أحد. الحياة ساحة شاسعة ومترامية الأطراف وأعمارنا محدودة، لكن أشواقنا لا حدود لها، فلنستغن عما يمكن الاستغناء عنه.
بعد مشوار طويل مع الكتابة، كيف تنظر إلى مشروعك الأدبي؟
- طبعاً أنا غير راض تماماً عنه، لكنني غير ساخط بالضبط، ربما أكون قنوعاً بما أتاحته لي الظروف. نحن كأجيال عمرية، لا كأجيال أدبية، عشنا حياة مرهقة، نطير عالياً كالطيور مع أحلام وطنية وقومية محلقة، وفجأة"ننهبد"على الأرض بقسوة لا تحتملها الأحجار، ناهيك عن الثمن الذي دفعه كثر منا في مقابل الصرخة الفصيحة بمواجعنا ومواجع أمتنا. كان المتاح للأدب ضنيناً بخاصة لكاتب يرى أن أي كتابة مرجعيتها هي إبداع العالم وليس البلد أو اللغة الوطنية. ثم إن أي كاتب في تاريخ الكتابة الإنسانية ليست كل إبداعاته"ماستر بيسز"روائع، بل ضمن كثرة أعماله على افتراض الغزارة، نجد ان المتميز والأصيل جداً منها قليل. أظن أن لدي مثل هذا القليل. والحمد لله على الصحة وراحة البال.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.