الأمير جلوي بن عبدالعزيز يرعى حفل انطلاق فعاليات صيف نجران    "جامعة أم القرى تهيّئ طلابها لجسور التدريب الدولي في لندن وهونج كونج"    اعتماد المواعيد الجديدة لفترتي تسجيل اللاعبين للموسم الرياضي المقبل 2025-2026    سكان المملكة ينفقون 13.62 مليارات ريال خلال أسبوع    مقتل 2 بسبب ارتفاع درجات الحرارة في فرنسا    نائب أمير جازان يتسلم التقرير السنوي لغرفة جازان    أمير حائل يطلع على خطط الشرطة ومشاريع هيئة التطوير وبرنامج كفاءة الطاقة    أمير القصيم يكرّم أخصائيي الحوكمة والجودة في جمعية أبناء    الجامعات السعودية تنظم ملتقى خريجيها من البلقان.. الاثنين المقبل    أمير منطقة جازان يشهد توقيع اتفاقيات انضمام مدينة جيزان وثلاث محافظات لبرنامج المدن الصحية    الأمير محمد بن عبدالعزيز يتسلّم تقرير غرفة جازان السنوي 2024    وفد أعضاء لجنة الصداقة البرلمانية السعودية التركية بمجلس الشورى يلتقي رئيس البرلمان التركي    أمانة الشرقية تطلق مشروع تطوير كورنيش الدمام بهوية ساحلية معاصرة تعزز جودة الحياة    المملكة وإندونيسيا.. شراكة تاريخية تعززها ثمانية عقود من التعاون المشترك    من أعلام جازان.. الأستاذ عبدالله بن عيسى إسماعيل الشاجري    دبي تستضيف النسخة السادسة من القمة الطبية لأمراض الدم لدول الشرق الأوسط وأفريقيا وروسيا    ارتفاع الأسهم الأوروبية    العراق يؤكد استعادة أكثر من 40 ألف قطعة أثرية مهرب    المملكة تختتم رئاستها للسنة الدولية للإبليات 2024م    ترامب يهدد بترحيل ماسك إلى جنوب إفريقيا    أمير تبوك يدشن مبادرة جادة 30 ويرعى توقيع اتفاقيات تعاون بين عدد من الجهات والهيئات    بلدية المذنب تطلق مهرجان صيف المذنب 1447ه بفعاليات متنوعة في منتزه خرطم    أمين القصيم يوقع عقد تأمين مضخات كهربائية لمحطات ومعالجة السيول بمدينة بريدة بأكثر من 3 ملايين ريال    أمانة تبوك تكثف جهود صيانة الطرق والحدائق وشبكات التصرف خلال النصف الأول ل 2025    أمير تبوك يطلع على تقرير فرع وزارة النقل والخدمات اللوجستية بالمنطقة    وزارة الداخلية تنهي كافة عمليات إجراءات مغادرة ضيوف الرحمن من الجمهورية الإسلامية الإيرانية    أكد أن أبواب الدبلوماسية مفتوحة.. عراقجي: لا مفاوضات نووية قريبة    ترمب: فلسطين وإيران محور مباحثاتي مع نتنياهو.. جهود دولية لوقف إطلاق النار في غزة    هيئة تقويم التعليم تعزز حضورها الدولي بمؤتمرات عالمية في 2025    اقتراب كويكب جديد من الأرض.. السبت المقبل    حرصاً على استكمال الإجراءات النظامية.. ولي العهد يوجه بتمديد فترة دراسة تنظيم العلاقة بين المؤجر والمستأجر    بدء صرف"منفعة" للأمهات العاملات    ضمن السلسلة العالمية لصندوق الاستثمارات العامة.. نادي سينتوريون يحتضن بطولة PIF لجولف السيدات    مانشستر يونايتد مهتم بضم توني مهاجم الأهلي    انطلاق النسخة الثامنة لتأهيل الشباب للتواصل الحضاري.. تعزيز تطلعات السعودية لبناء جسور مع العالم والشعوب    تأهيل الطلاب السعوديين لأولمبياد المواصفات    الفيشاوي والنهار يتقاسمان بطولة «حين يكتب الحب»    نثق قي تأهل الأخضر للمونديال    صدقيني.. أنا وزوجتي منفصلان    تستضيف مؤتمر (يونيدو) في نوفمبر.. السعودية تعزز التنمية الصناعية عالمياً    برنية: رفع العقوبات يمهد لفك الحصار.. واشنطن تدعم سوريا لإنهاء «العزلة»    وفاة كل ساعة بسبب الوحدة حول العالم    الأمهات مصابيح من دونها قلوبنا تنطفئ    غونزالو غارسيا يقود ريال مدريد إلى ربع نهائي «مونديال الأندية»    المملكة توزّع (900) سلة غذائية في محلية الخرطوم بالسودان    المفتي يتسلم تقرير العلاقات العامة بالإفتاء    المملكة تدعو إلى إيجاد واقع جديد تنعم فيه فلسطين بالسلام    "مسام" ينزع (1.493) لغمًا في الأراضي اليمنية خلال أسبوع    سعود بن بندر يلتقي العقيد المطيري    320 طالباً يشاركون في برنامج «موهبة الإثرائي» في الشرقية    د. السفري: السمنة مرض مزمن يتطلب الوقاية والعلاج    أمير منطقة جازان يلتقي مشايخ وأهالي محافظة العارضة    رياضي / الهلال السعودي يتأهل إلى ربع نهائي كأس العالم للأندية بالفوز على مانشستر سيتي الإنجليزي (4 – 3)    أصداء    العثمان.. الرحيل المر..!!    هنأت رئيس الكونغو الديمقراطية بذكرى استقلال بلاده.. القيادة تعزي أمير الكويت وولي عهده في وفاة فهد الصباح    "الفيصل" يرأس الاجتماع الأول لمجلس إدارة الأولمبية والبارالمبية السعودية    «الشؤون النسائية بالمسجد النبوي» تُطلق فرصًا تطوعية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



محمد المخزنجي: الصحافة تعطي جرأة في الكتابة وحدساً بطبيعة القارئ
نشر في الحياة يوم 17 - 05 - 2011

يعيش الكاتب المصري محمد المخزنجي (1946) في حال من الغبطة، على حد تعبيره، بسبب ثورة 25 يناير، متوقعاً أن تؤدي إلى «ذبول كتابات وازدهار أخرى». ويرى صاحب «الموت يضحك» و «غرق جزيرة الحوت» في هذا الحوار معه أن «الكتابة هي أكثر الأعمال فردية في الحياة. نحن لا نُقرأ بالجملة، ولا نُحاسب على ما نكتبه بالجملة».
كيف تنظر إلى تدشين حدث مثل ثورة 25 يناير أدبياً، على رغم أنه ما زال في طور التكوين؟
- هذا حدث ضخم جداً، ولفرط ضخامته أهز رأسي أحياناً وأنا أتأمل نتائجه فأخشى أن أكون في حلم، فأن يزيح شعب أعزل نظاماً مافيوياً على النحو الذي كانه نظام حسني مبارك، فهذا حدث تاريخي... أنا أعيش نوعاً من الغبطة الشخصية لأنني عشت هذه اللحظة التاريخية وعايشتها، بل أزعم أنني صاحب سهم في جعبتها التي ضمت عشرات الملايين. وأمام ظاهرة بهذه الضخامة لا يمكن أن يكون هناك قالب معين للتعامل معها إبداعياً، فثمة جيشان للمشاعر يمكن أن يؤدي إلى إبداعات فورية على درجة معقولة من النضج، وأنا لا أصادر على ذلك، بل ربما أشارك فيه خوفاً من أن تهرب تفاصيل مذهلة الجمال من الذاكرة، أو تهرب من أقدارنا السنون. لكن طبعاً سيظل التأمل العميق وعامل الوقت الممتد مطلوبين لإنتاج أعمال بضخامة هذه اللحظة التي أشبّهها بملف مضغوط على سطح مكتب التاريخ، عند فتحه وفك تشفيره بالتأمل والتعمق في سبر أغواره، سيكشف عن تجليات لا تتوقف فقط عند حركة الأمة عبر التاريخ، بل تتعداها إلى تفاعل الكائن الحي في بيئته بكل ما فيها من عوامل مواتية وأخرى معوقة، ثم فوزه اخيراً باستمرار الحياة.
بعد هذه الثورة كيف تستشرف مستقبل الكتابة الأدبية في مصر؟
- ستذبل كتابات وتزدهر أخرى، لكن بما أن الأدب هو «سجل للمشاعر»، أظن ان التعبيرات الذاتية عن الفرد لا بد من أن تتخللها اختراقات المجموع أو يحوطها المشهد العام، كاكتشاف نوع جديد أو مضاف من «الأنا»، الأنا الجامعة أو الضمير الجمعي، ربما سيكون هناك بعض الزعيق، لكنه سرعان ما سيختفي، لأن لحظة التحضر التاريخي الماثلة في الثورة لن تتركها قوى التخلف تشق طريقها نحو الأفق المناسب في سهولة، بل ستكون هناك اشتباكات ربما مريرة مع التخلف بتعصباته الطائفية والنفعية والهمجية. ستكون هناك دراما حامية في الكتابة قطعاً.
هل ثمة مشروع أدبي ما يشتبك مع الحدث تنوي أن تقدمه مستقبلاً؟
- قطعاً هناك، لكنني لا أحب ان أتكلم عن مشروع قبل إنجازه، أو على الأقل الوصول إلى نقطة اللاعودة فيه، لأنني خبرت نفسي إذا تحدثت عما أنا في صدد تنفيذه، يتعرقل.
دعنا نسترجع ذكرياتك عن فترة التكوين وكيف كان تأثيرها في تكوين وعي الكاتب لديك؟
- هي فترة التكوين الجامعة لكل مبدعي الأدب والفن، من لسع أو توهيج أو تأجيج للمشاعر في باكر العمر، سواء بالألم أو بالفرح أو بمفارقات الحياة، ثم قراءة ما يتلامس مع ذلك في الأدب. وأعتقد أنني عشت جيداً كطفل شقي وخصب المخيلة وصبي ومراهق وشاب متمرد ورحّالة في الحياة بسجونها وفتونها وشجونها وتخومها. أقرأ جيداً، وفي مجالات يظن كثير من الأدباء أنها خارج متن الأدب، وأراها في قلبه، ولعل هذا هو أحد مصادر لمستي الخاصة، في المزاوجة بين الأدب والعلم في ما أكتب سواء في السرد الأدبي أو حتى المقال الصحافي.
هل ثمة أجواء خاصة رافقت قرار الكتابة؟
- الكتابة ليست في حاجة لاتخاذ قرار، إنها دافع داخلي ضاغط، تكاد تكون مماثلة لأقصى وأبهى الرغبات الجسدية، تصنع نوعاً من التوتر يمثل تفريغه راحة نفسية وروحية غامرة، إلى أن يعود الضغط من جديد، عادة أكتب على الكومبيوتر مباشرة، باستثناء جملة الإقلاع، وربما ورقة مطوية أسجل عليها خطوطاً عامة، حتى ملفات البحث اللازم لأي عمل أدبي أو صحافي أضعها على سطح المكتب في الكومبيوتر، ولأنني لا أكتب في البيت، بل في أماكن مفتوحة، وحبذا على النيل، فإن مكتبي الحقيقي هو الكومبيوتر المحمول. وتظل أم كلثوم وعبدالحليم وفيروز من أدوات الشحن العاطفي لمقاربة الكتابة.
في عام 1983 صدرت مجموعتك القصصية الأولى «الآتي» وبعدها صدرت مجموعة «الموت يضحك». المجموعتان لفتتا الانتباه إليك، فكيف كانت رد فعلك على ذلك؟
- كنت مدهوشاً أكثر مني مغتبطاً، لأنني دائماً أحس أن ما أنشره كان يمكن أن يكون أفضل لو أنني عملت عليه أكثر، لكنني بالطبع كنت أفرح بثناء مبكر من قمم كنجيب محفوظ ويوسف إدريس ورجاء النقاش وعلي الراعي، وربما كانت إحدى أكثر مرات فرحي هي التي ذهبت فيها إلى مكتبة «مدبولي» وسألت عن «الآتي»، وكدت أطير فرحاً عندما قال لي مدبولي: «آه، دا كتاب محمد المخزنجي، جاني منه عشرين نسخة وخلصوا، لكن هايجيني تاني، فوت عليّا كمان يومين». لقد تم تسجيلي في ذاكرة الكتابة، في أهم أرشيف في قلب القاهرة. أحسست في هذه اللحظة أنني صرت كاتباً.
تقول: «أي موهبة تحتاج إلى مكتشف ونُبل من الآخرين»، من تراه مكتشف موهبتك؟
- كثر، ابتداء من الأستاذ عثمان، مُعلمي في الصف السادس الابتدائي الذي كان يصحح كراسات «التعبير» في الفصل وإذا به يناديني ويوقفني أمام الفصل ثم ينصرف منفعلاً ويعود بناظر المدرسة ويأمرني وأنا في شدة الخوف أن أقرأ ما كتبته، وما أن انتهيت، حتى فوجئت بالحاج ابراهيم ناظر المدرسة يأخذني في حضنه ويقبّل رأسي، ويأمر بأن يقف زملائي ويصفقوا لي. هؤلاء هم الناس، المعلمون، المربون، المكتشفون. فهل كان ممكناً أن أتراجع عن سلوك هذا الدرب الطويل؟ لم يكن ذلك ممكناً، لا بالعقل ولا بالجنون. ثم توالى النبلاء، جماعة أدباء المنصورة، فمحمد عفيفي مطر الذي كان اول من نشر لي في مجلة «سنابل» وأنا في التاسعة عشرة قصة من ثلاث قصص كنت أرسلتها اليه، وكتب كلاماً جميلاً عني وقال إنه سينشر بقية القصص، لكنني خفت، ورجوته ألا ينشر، لشعوري بالمسؤولية وأن أمامي الكثير، وكان أن سكتّ ثماني سنوات، حتى ورطني صاحبي جار النبي الحلو في النشر، وتوالى رعاتي النبلاء وهم كثر وكثيرات.
كيف تصف العلاقة القويّة التي ربطتك بيوسف إدريس؟
- هذا السؤال مرتبط بالسؤال السابق، فعلى غير ما يتردد، لم يكن يوسف إدريس هو من اكتشفني، لقد عرفني شاباً من مناضلي الحركة الطالبية الوطنية الديموقراطية في السبعينات من القرن الماضي عندما زار جامعة المنصورة وحاورته في ندوة عامة، فانعقدت بيننا صداقة كان فيها دعم عظيم لروحي الكاتبة ولذاتي الإنسانية، وظللت أخفي عنه أنني أكتب القصص سبع سنوات حتى فوجئ بي كاتباً متحققاً وكانت تلك لحظة فرح غامر بالنسبة له ولي، كنت خائفاً جداً من إفساد الصداقة العلوية بهذا العبقري البديع والإنسان المذهل القلب بأن أبدو صاحب مصلحة عنده. كنت أقرب أبناء جيلي وربما من سبقني من الأجيال إليه. لكنني لم ألجأ إليه أبداً في أن أنشر. وكان هذا مبعث طمأنينة لديه ومبعث ارتياح عندي. يوسف إدريس كان عبقرية كونية لم تعط أفضل ما يمكن أن تعطيه لأن فساد الحياة السياسية والاجتماعية والثقافية لم يكف عن تمزيقه وتشتيت قواه. إنه نوع فاخر من الموهبة التي اختطفتها الظروف العامة والمعاناة الخاصة.
في الكثير من قصصك نلحظ الحديث عن خبرات وتجارب ذاتية وإنسانية، إلى أي درجة في رأيك يمكن ان تعكس الكتابة ذات الكاتب؟
- هذا سؤال مهم، فالكتابة مثل أي صرح يتم إنشاؤه، لا بد لها من عتاد أساسي، بنية أساسية، وهذه لدى الكاتب قوامها تجارب الحياة. لا يمكن أن يكون هناك كاتب جيد عاش حياة تافهة أو أن يكون متزحلقاً على سطح الحياة. اعترف بأنني عشت بالطول والعرض والعمق والارتفاع.
يبدو ذلك متناقضاً مع ما يبدو عليك من هدوء شديد...
- دائماً كنت أنشد التحرر والحرية ولو إلى درجة الفوضى وحدود الخطر. سافرت على أسطح القطارت على رغم أنني لست ابن أسرة مدقعة، وتشاجرت في الشوارع مع طغاة وبلطجية صغار، جاهرت بأقصى رأيي السياسي في سن مبكرة، ودخلت سجون أنظمة الاستبداد والفساد أربع مرات، وقرأت بنهم، وكنت بطلاً للجمباز، ومارست الطب بأقسى شروطه وبأرفعها في تخصصي، وعشت أخاطر بإبداء وجهة نظري الخطرة حتى آخر لحظة وكنت مستعداً لدفع الثمن، وآخر مقالة قبل سقوط نظام مبارك كان عنوانها كفيلاً بسحلي لو لم يسقط النظام. لهذا كان فرحي بنجاح الثورة مضاعفاً. كنت أتقافز وأغني وألوح بعلم البلاد وسط الحشود ليلة تنحيه، مثل صبي مجنون بالفرح في يوم عيد. الحمدلله أنني عشت وشُفت.
كيف تحقق معادلة الجمع بين الكتابة عن العلمي والمحافظة على اللغة الشعرية في أرفع صورها؟
- العلم في ذراه الحديثة مفعم بشعر عجيب. شعر الإدهاش من إرادة الحياة في الأحياء والجوامد. شعر عجيب، مثل الحقيقة العلمية في أن الزهور ترقص لتغري الفراشات والنحل بالنهل من رحيقها، ترقص، لترويهم وتحملهم رسائل حبوب لقاحها. والحجر الذي يبدو ساكناً يمور بحركة سرمدية هي حركة مكوناته دون الذرية. دوران الالكترونات في مساراتها حول النواة يكاد يكون صورة مصغرة جداً لدوران الكواكب حول مراكزها النجمية. السلوك العجيب بين طفيليات الطفيليات. حنان الوحوش البرية وقسوتها.
في الكثير من قصصك تخلط السيكولوجي بالباراسيكولوجي، ألا يعرضك هذا لمأزق فني؟
- أبداً، ليس هناك أي مأزق، فما نسمّيه بالباراسيكولوجي، أو الخارق، ما هو إلا حقائق واقعية لم نتعرف على قوانينها، ثم إن الحياة إذا حسبناها محدودة بزاوية رؤيتنا لها نكون في غاية الغرور، بل الغطرسة، إنني مؤمن بأننا كائنات محدودة، وإن كنا ننشد الاكتمال. العالم أغنى من حدود رصدنا الحسي له. إنني مؤمن بذلك. لكنني لا أقدم هذا الرأي بمنطق الواقعية السحرية التي يخفي فيها الكاتب أي بحث في منطقية الخارق، بل أبحث عن منطقية الخارق، وأحاول أن أبقيه ساحراً بعد فض أقصى ما أستطيع من المتاح من كشف أسراره بالعلم، لهذا سأدّعي أنني أكتب في إطار السحرية العلمية في كثير مما أنجزت أدباً أو صحافة.
في مجموعة «سفر» تبدو القصص متشابكة، ما يجعلها أقرب إلى متتالية قصصية حيث كل قصة تقود إلى الأخرى وكأننا في صدد قراءة رواية؟
- كنت دائماً محاصراً بالتصنيف المعتمد في النقد الأدبي. لم يعد ذلك يقلقني، المهم أن أكتب ما أحب، وبأقصى ما أستطيع من اجتهاد في الحب. ولتذهب التصنيفات المدرسية كافة إلى الجنة أو إلى الجحيم. نشرتُ نصاً طويلاً قبل بضعة أشهر في جريدة «الشروق» القاهرية عنوانه «البحث عن حيوان قومي جديد للبلاد»، تحت تفريعة مبتكرة خاصة بمزاجي الضاحك، سمّيتها «تكريسة»، حيث تنضم فنون الكتابة لتصنع نصاً، لا هو قصة بالضبط، ولا مقالة بالضبط، ولا هو «نوفيلا» أو بحث علمي بالضبط، بل هو كل ذلك في ذلك، وكان ناجحاً، وربما أكرره.
في كتابك «لحظات غرق جزيرة الحوت» ووفق نقاد قدمت شكلاً ادبياً جديداً في الثقافة العربية اطلق عليه البعض «رواية الحقيقة القصصية»... حدثنا عن هذه التجربة؟
- رواية «الحقيقة القصصية» ليست من اختراعي بل هي من سبك الروائي ترومان كابوت، وصارت معتمدة نقدياً في ما يسمّى السرديات في النقد عند ناقد كبير مثل ديفيد لودج، ولها أمثلة مستعصية على التصنيفات التقليدية مثل «خبر اختطاف» لماركيز.
المرأة في ابداعك مثالية وكأنها كائن ملائكي لا يخطئ. هل هو انحياز لها أم نظرة رومانسية؟
- وهل الرومانسية تهمة؟ العالم متعطش جداً للرومانسية من فرط الغلاظة التي تسوده في عصر ما بعد الكولونيالية والعولمة المخاتلة والفظاظة الصهيونية وازدواجية المعايير والتعبيرات التدميرية عن المآزق الفردية. نشرتُ رواية صغيرة بعنوان «بيانو فاطمة» عن قصة حب مبتورة. لمست تحمس القراء والقارئات بخاصة لهذا النوع من التسامي بخشونة الواقع وانتقاء الجميل والرقيق منه. و «فاطمة» بالمناسبة لم تكن شخصية مختلقة خيالياً بل هي موجودة. فالرومانسية لا تزال العزاء الكامن إزاء هول الواقع وقسوته.
في كتابك «حيوانات أيامنا» تكشف عن عالم مواز لعالمنا، ربما لا ننتبه اليه وسط زحام الحياة، كيف جاءتك فكرة هذه المجموعة؟
- المعرفة الميدانية بالحيوانات في حياة البرية التي أتيحت لي عبر أسفاري في عملي الصحافي وخارج هذا العمل إضافة إلى المعرفة العلمية بما تيسر من دقائق حياتها البيولوجية والنفسية تجعلني على يقين من أنهم أمم مثلنا، لكننا لا نفقه لغاتهم ولا أحاسيسهم، لهذا لم أؤنسنهم في هذا الكتاب، بل أوردتهم ككيانات حية تنسحق بين رحى الصراعات البشرية التي هي في ظني أكثر وحشية وتفاهة ومجانية من وحشية الحيوانات اللاحمة. لا أعرف كيف جاءتني الفكرة. لكنها جاءتني.
أحيانا تقتل ممارسة العمل الصحافي الإبداع أو على الأقل تعطله... هل أفادتك الصحافة أم أضرّتك؟
- أفادت وأضرت وأتمنى أن أستغني عنها وتستغني عني لأغنى بما هو مخبوء في قلبي الأدبي في نهاية المشوار، مشوار الحيوية الإبداعية التي لها عمر ووقت للتقاعد مثلها مثل أي فعالية بشرية. طبعاً الصحافة بمتطلباتها اللحظية والمجهدة عصبياً سحبت الكثير من الطاقة والوجدان اللازمين للتأمل والتجويد الأدبي، لكن في المقابل، الصحافة تعطي جرأة في الكتابة، وحدساً بطبيعة القارئ، وجماهيرية تخدم عملك الأدبي. لست نادماً، خصوصاً أن ما كتبته في الصحافة في السنوات الأربع الأخيرة كان واجباً وطنياً أدّيته بقدر معقول من الإخلاص وأثمر في شكل ما. وأتمنى ألا نخرج من غمة النظام السابق لندخل غمة استبداد وفساد جديد يطيل من فترة تجنيد الأديب في مضمار الكتابة الصحافية.
كيف تتعاطى مع الجدل حول فكرة المجايلة في الأدب؟
- حكاية المجايلة هذه هي اختراع نرجسي سخيف. الكتابة هي أكثر الأعمال فردية في الحياة، نحن لا نُقرأ بالجملة، ولا نُحاسب على ما نكتبه بالجملة. هذا الاختراع السخيف في ظني كان نوعاً من الدعوة للمبارزة بين خصوم نرجسيين في ساحة الأدب. لم أتعامل مع هذا المصطلح بجدية أبداً، تماماً كما لما أتعامل مع مصطلح «أدباء الأقاليم» المعيب. أمتلك تحليلاً نفسياً لدوافع مثل هذه الاختراعات السخيفة، لكنني صرت أميل إلى عدم جرح مشاعر أحد، ولا القسوة مع أحد. الحياة ساحة شاسعة ومترامية الأطراف وأعمارنا محدودة، لكن أشواقنا لا حدود لها، فلنستغن عما يمكن الاستغناء عنه.
بعد مشوار طويل مع الكتابة، كيف تنظر إلى مشروعك الأدبي؟
- طبعاً أنا غير راض تماماً عنه، لكنني غير ساخط بالضبط، ربما أكون قنوعاً بما أتاحته لي الظروف. نحن كأجيال عمرية، لا كأجيال أدبية، عشنا حياة مرهقة، نطير عالياً كالطيور مع أحلام وطنية وقومية محلقة، وفجأة «ننهبد» على الأرض بقسوة لا تحتملها الأحجار، ناهيك عن الثمن الذي دفعه كثر منا في مقابل الصرخة الفصيحة بمواجعنا ومواجع أمتنا. كان المتاح للأدب ضنيناً بخاصة لكاتب يرى أن أي كتابة مرجعيتها هي إبداع العالم وليس البلد أو اللغة الوطنية. ثم إن أي كاتب في تاريخ الكتابة الإنسانية ليست كل إبداعاته «ماستر بيسز» (روائع)، بل ضمن كثرة أعماله على افتراض الغزارة، نجد ان المتميز والأصيل جداً منها قليل. أظن أن لدي مثل هذا القليل. والحمد لله على الصحة وراحة البال.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.